في عام 1973 أصدرت المحكمة العليا في الولايات المتحدة قرارًا تاريخيًا بدستورية حق النساء في الإجهاض. ذلك الحكم الذي ألغته المحكمة ذاتها يونيو/حزيران الماضي، في ضربة لحقوق المرأة في البلاد المنادية بالحريات والحقوق.
والحقيقة، أن الولايات المتحدة لم تسع يومًا لدعم حق النساء في الإجهاض بشكل حقيقي. لكنها على العكس من ذلك، فرضت إرادتها على العالم في هذا الشأن ولسنوات طوال. فلم يكن قرار المحكمة العليا الأول من نوعه في هذا البلد. بل جزء من سلسلة قرارات وسياسات أمريكية أضرت تاريخيًا بحقوق النساء في الاستقلال الجسدي. ليس فقط في الولايات المتحدة، ولكن في العالم بأسره. لا سيما إذا مكن هذا الحكم القضائي الإدارات الرئاسية الأميركية المقبلة من فرض قيود على عمليات الإجهاض في أماكن أخرى من العالم.
أقرت الإجهاض وأتاحت أدوات منعه
طوال 50 عاما مضت – منذ حكم عام 1973 في قضية “رو ضد وايد”، القضية التي كرست الحق الدستوري في الإجهاض – كانت سياسات الولايات المتحدة فيما يتعلق بحق الإجهاض أشبه بالمعرقلة أو المتناقضة. والتي حالت بدورها دون عقد اتفاق دولي يحرر الحق في الإجهاض. وقد اتضح هذا الدور الأمريكي جليًا في القوانين التي لحقت قضية “رو ضد وايد”. إذ سمحت للإدارات الأمريكية بتقييد عمليات الإجهاض في الخارج.
من أمثلة هذه القوانين “تعديل هيلمز” على قانون المساعدات الخارجية الذي أصدره الكونجرس الأمريكي في عام 1973، ويمنع منظمات المجتمع المدني الأجنبية الحاصلة على المساعدات الأمريكية من استخدامها في جميع الأنشطة المرتبطة بخدمات الإجهاض، سواء كانت خدمات المباشرة أو استشارات أو دعم الإجهاض بأي شكل.
ثم جاء بعد ذلك رونالد ريجان بسياساته المحافظة، وطبق السياسة المعروفة بـ”سياسة مدينة مكسيكو”. وتقوم على وقف تمويل المنظمات التي توفر خدمات أو أنشطة متعلقة بالإجهاض. سمى النقاد تلك السياسة بقاعدة تكميم الأفواه العالمية.
كانت مكسيكو أول منطقة في أمريكا اللاتينية تلغي تجريم الإجهاض إن حصل في الأسابيع الإثنى عشر الأولى من الحمل، في قرار صدر عام 2007. على أن توفر رعاية مجانية للمرأة بغض النظر عن مكان إقامتها.
وقد ظل هذا التعديل مصدرًا للخلافات بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري. فكلما أتى رئيس من الحزب الديمقراطي يتم إبطال تعديل القانون، بينما يعيده مرة أخرى وصول رئيس من الحزب الجمهوري.
عهد ترامب.. التوسع في تقييد الإجهاض
في عهد دونالد ترامب توسعت الولايات المتحدة في تطبيق سياسة “تعديل هيلمز”. قبل ترامب، كان تطبيق هذا التعديل ينحصر على أموال المساعدات الخاصة ببرنامج تنظيم الأسرة. إلا أنه مع إدارة ترامب شمل الكثير من البرامج الصحية الأخرى؛ فوصلت الأموال الفيدرالية التي كانت تطبق عليها تلك السياسة من حوالي 600 مليون دولار قبل ترامب إلى ما يقارب 12 مليار من المساعدات الصحية خلال عهده.
تقول منظمة هيومان رايتش واتش إن سياسة مدينة مكسيكو تجعل الكثير من منظمات حول العالم عرضة لفقدان المساعدات الأمريكية في مجال الصحة، حتى إن استخدموا أموالهم الخاصة في تقديم خدمات الإجهاض. لأنه في حال حدوث خرق لسياسة مدينة مكسيكو، يتم وقف التمويل الفيدرالي.
اقرأ أيضًا: الإجهاض الآمن.. لمن حق السيطرة على جسد المرأة؟
هذا لا يضر فقط خدمات الإجهاض. بل يضر جميع خدمات الصحة الإنجابية والجنسية الأخرى التي تقدمها تلك المنظمات.
وبناءً على ذلك، تصبح المنظمات في الدول النامية مجبرة على الاختيار بين الاستمرار بتوفير خدمات الإجهاض الآمن للنساء المهمشات مع فقدان التمويل الأمريكي، وبالتالي تتأثر باقي الخدمات الصحية الأخرى، أو تتوقف عن توفير خدمات الإجهاض الآمن على حساب صحة وحياة النساء.
قاعدة تكميم الأفواه تلك هي إحدى السياسات الاستعمارية الجديدة التي تحاول من خلالها الولايات المتحدة استخدام قوتها الاقتصادية لفرض نموذجها على باقي دول العالم بشكل غير مباشر. وقد فرضت الولايات المتحدة عبر قاعدة تكميم الأفواه العالمية أيدولوجيتها المعادية لحقوق النساء على نساء الجنوب العالمي والعالم النامي، فحرمتهن من الحق في الاختيار والاستقلال الجسدي، ومنعت المدافعين عنهن.
حكم بالإعدام على المهمشات
سياسة تكميم الأفواه كانت لها أثار كارثية على حياة النساء في الدول النامية؛ فالولايات المتحدة هي الممول الأكبر في العالم للمساعدات المرتبطة بالصحة.
تشير الدراسات إلى أن تطبيق تلك السياسة في دول أفريقية مثل كينيا وغانا أدى إلى خلل في تقديم خدمات تنظيم الأسرة. كما أدى إلى ارتفاع نسب الحمل غير المرغوب فيه، ومعه ارتفعت نسب الإجهاض غير الآمن. فعلى عكس المتوقع من تلك السياسة، نسب الإجهاض زادت ولم تنخفض. كل ما فعلته هذه السياسة هو حرمان النساء المهمشات من الحق في الإجهاض الآمن.
في كينيا، على سبيل المثال، أصبحت نسبة كبيرة من النساء الكينيات غير قادرات على الحصول على الخدمات؛ بسبب إغلاق عدد كبير من العيادات وضعف التمويل. وصف مقدمو الخدمة الصحية الكينيين –في تقارير إخبارية– سياسة مدينة مكسيكو بمثابة حكم بالإعدام على النساء الكينيات. وقد أشاروا أيضًا إلى ما كان من آثار كارثية أخرى لتلك السياسة على جميع خدمات الصحة الإنجابية والجنسية التي تقدمها تلك العيادات.
الديمقراطيون: أقوال لا أفعال
على الرغم من تأييد الديمقراطيين لحق الإجهاض. إلا أن الإدارات المتعاقبة لم تترجم هذا الدعم لقرارات حقيقية.
عقب قرار المحكمة العليا الأخير هاجم كتاب ونشطاء بارزين الرئيس السابق باراك أوباما. فقد وعد خلال فترة رئاسته بتحويل قرار 1973 فيما يخص حق الإجهاض إلى تشريع يثبته بشكل قانوني. لكنه لم ينفذ وعده.
هاجم أخرون أيضًا الإدارة الحالية والديمقراطيين – أصحاب الأغلبية في الكونجرس – لفشلهم في تمرير قانون لحماية وتقنين حقوق النساء الأمريكيات في الإجهاض. الأمر الذي وعد به الديمقراطيون منذ سنوات.
في ظل إدارة الرئيس السابق باراك أوباما تم إبطال “تعديل هيلمز” الذي كان مفعلًا في عهد بوش، ثم جاء ترامب وأعاد تفعيله، حتى جاء جو بايدن وأبطل القانون مجددًا. إلا أنه لم يلغه وكذلك لم يفعل الديمقراطيون قبله، رغم المطالبات المتكررة من المؤسسات الدولية ومنظمات حقوق المرأة في الولايات المتحدة والعالم بضرورة هذه الخطوة لما لها من تأثير على صحة النساء حول العالم.
هل تتخلف الولايات المتحدة عن العالم؟
عالميًا، قد لا يغير هذا القرار شيئًا. إذ أن الاتجاه العالمي الآن فيما يخص السياسات الإنجابية أكثر تقدمية ويسير نحو خطى أوسع في اتجاه السماح بالإجهاض.
وقد وقعت أكثر من 100 مؤسسة صحية مرموقة حول العالم (منها الكلية الملكية لأطباء النساء والتوليد في بريطانيا) بيانًا يدين قرار المحكمة العليا الأخير لأضراره الكارثية على النساء. وذكر البيان أن هذا القرار سيترك “دماءً” على أيادي قضاة المحكمة العليا الأمريكية.
الدول التي تجرم الإجهاض في العالم اليوم لا تتعدى 24 دولة فقط.
يشير مجلس العلاقات الخارجية (أحد أهم مراكز الفكر الأمريكية) إلى أن 38 دولة عدلت قوانين الإجهاض منذ عام 2000، وكلها (إلا دولة واحدة) خففت القيود التي كانت مفروضة على الإجهاض.
كينيا خففت القانون المقيد للإجهاض التي كان قد فرضه البريطانيون خلال فترة الاستعمار. بالإضافة إلى دول مثل الأرجنتين وكولومبيا والمكسيك في أمريكا اللاتينية، وتايلاند وكوريا الجنوبية في آسيا. جميع تلك الدول إما سمحت بالإجهاض في القانون أو ألغت تجريم الإجهاض.
نيكاراجوا هي الدولة الوحيدة التي وضعت مزيدًا من القيود على الإجهاض بين الـ 38 دولة. ويرجع هذا إلى نظام الحكم السلطوي هناك.
والواضح، أنه في ظل التحول العالمي نحو دعم حقوق المرأة والاستقلال الجسدي للنساء في جميع قارات العالم في أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية وأوروبا، تتخلف الولايات المتحدة عن ركاب العالم. بل تحاول فرض سياساتها المعادية لحقوق المرأة وحق الإجهاض على النساء المهمشات في الجنوب العالمي.