في ختام مقالنا السابق عن تفضيل إسرائيل غير الليكودية للبدء بالسوق الشرق أوسطية المشتركة، قبل الناتو العربي، لإتمام عملية الاندماج في الإقليم، تساءلت عن البدائل المتاحة لمصر في مواجهة هذه السيناريوهات أو غيرها، والمنطلقة من وضع الإقليم تحت القيادة الإسرائيلية، سواء كانت البداية بالناتو العربي، أو بالسوق المشتركة.
اقرأ أيضًا.. السوق المشتركة قبل الناتو العربي
ومع أن مشروع مايسمى بالناتو العربي قد تراجع بالفعل، وربما يمكن القول إنه لم يعد مطروحًا في الوقت الحالي، بعد أن نفت مصر والسعودية وجوده على جدول أعمال قمة جدة العربية الأمريكية، قبل هذه القمة وبعدها، ومع أن أحدًا لم يتحدث عن مشروع السوق المشتركة سوى المسئولين الإسرائيليين، فإن سيناريو وهدف استكمال دمج إسرائيل في المنطقة لايزال مطروحًا بقوة، ولا يؤخره سوى عقبات ثلاث أولها تحفظ السعودية على تطبيع العلاقات رسميًا وبالكامل مع إسرائيل، وثانيها مرتبطة بالأولى وهي عدم تسوية القضية الفلسطينية، وثالثها التحفظ المصري على دور إسرائيلي مهيمن إقليميًا.
ومن الناحية الظرفية البحتة فإن الجميع ينتظرون نتائج الانتخابات البرلمانية في نوفمبر المقبل في كل من إسرائيل والولايات المتحدة، وقد تكون نتائج الانتخابات الإسرائيلية أهم كثيرًا للمنطقة من نظيرتها الأمريكية، فإذا عاد الليكود بقيادة بنيامين ناتنياهو إلى الحكم في تل أبيب، فستتلاشى آخر الآمال في حل الدولتين الإسرائيلية والفلسطينية، وستكتسب علاقات التعاون العسكري والأمني بين إسرائيل وبين دول الخليج المعنية زخمًا جديدًا، سواء تحت مسمى الناتو العربي أو بدون هذا المسمى، أما إذا بقي يائير لابيد (رئيس الوزراء الانتقالي الحالي) في الحكم بأغلبية مريحة من الوسط ويسار الوسط، فسينفتح الطريق نسبيًا أمام مفاوضات حل الدولتين، ولعل انتظار نتائج هذه الانتخابات في إسرائيل وأمريكا هو السبب في انعدام الحديث العلني الجاد والحازم من الرئيس الأمريكي عن حل الدولتين، وعن القضية الفلسطينية عمومًا في أثناء زيارته للمنطقة، حتى لا يساعد نيتانياهو في تخويف الناخبين في بلاده من أن لابيد سيتنازل عن معظم الضفة الغربية، وسيقيم دولة فلسطينية معادية لإسرائيل تحكمها حماس، إن لم يكن غدًا، فبعد غد.
لذا ولأسباب أخرى ستتضح حالًا، لست مع الذين تسرعوا في الحكم على نتائج زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن الأخيرة للمنطقة بالفشل، أو بأنها جاءت فقط من موقف سياسي ضعيف لرئاسته، بسبب انخفاض شعبيته في الداخل، وتوقع فقدان حزبه الديمقراطي لأغلبية الكونجرس في انتخابات نوفمبر المقبل، أو من موقف الضعف للولايات المتحدة في العالم بسبب أزمة الطاقة الناجمة عن الحرب الروسية الأوكرانية، إذ الأصح أن يقال إن هاتين الأزمتين (الخاصة برئاسة بايدن أو المتعلقة بالطاقة) نبهت قرون الاستشعار لدى صناع السياسة الأمريكية إلى أن الشرق الأوسط أثمن بكثير في لعبة الأمم من أن يضحى به، من أجل المواجهة في الباسيفيك ضد الصعود أو الطموح الصيني، طبقًا لمبدأ أوباما في حديثه الشهير لمجلة أتلانتيك عام 2016، بل العكس هو الصحيح، بمعنى أن الوجود الأمريكي القوي في هذه المنطقة هو أحد أهم الأرصدة الاستراتيجية في جعبة الولايات المتحدة في اللعبة الدولية.
وبرغم أن كلمة الفراغ هي كلمة سيئة السمعة في منطقتنا، وفي مصر بالذات، منذ أن استعملها الرئيس الأمريكي الأسبق دوايت آيزنهاور عام 1958 لترويج حلف بغداد -الذي رفضته القاهرة في حينه- تحت مسمى جديد، فإن بايدن عاد واستعملها بوضوح قاطع في جدة، حين قال إن أمريكا لن تذهب إلى أي مكان، وهي باقية في المنطقة حتى لا تتركها فراغًا تملأه الصين وروسيا وإيران، وربما كان هذا هو المغزى الأهم لزيارة الرجل، جنبًا إلى جنب مع تدشين حقبة جديدة من العلاقة الخاصة مع السعودية، ودعم فرص يائير لابيد لقيادة إسرائيل، لتسهيل دمجها في المنطقة من خلال إنفاذ حل الدولتين.
عن الحقبة الجديدة بين واشنطن والرياض، والتي يمكن تسميتها بحقبة محمد بن سلمان، فمضمونها هو مساندة خلافة بن سلمان لوالده الملك سلمان بن عبدالعزيز علي العرش السعودي، في مواجهة أية تحفظات من الداخل أو الخارج، وطي صفحة التحفظات الأمريكية (من جانب الحزب الديمقراطي والاعلام الليبرالي أساسًا وبعض الأجنحة الجمهورية) على شخص الملك المقبل، وذلك مقابل التعاون مع السياسة الأمريكية في المنطقة عمومًا، وفي موضوعي الطاقة، ودمج إسرائيل خصوصًا.
بالطبع فإنه يفترض أن مصر ترحب بتحسن العلاقات السعودية الأمريكية، كما يفترض أن القاهرة سترحب بأية تطورات سياسية في إسرائيل تسهل التسوية العادلة للقضية الفليسطينية، كذلك من المفهوم أن التفاهم المصري السعودي هو العامل الحاكم لمستقبل أية مشروعات تتعلق بدمج إسرائيل، وقد رأينا أن هذا التفاهم هو الذي أحبط أحاديث الناتو العربي، لدرجة أن الإمارات العربية المتحدة والبحرين اللتين يشاع أنهما الأكثر حماسًا له قد تراجعتا عن هذا الحماس، أو خففتا منه، فكتب مستشار لرئيس الإمارات يقول إننا لن ننضم لأي محور ضد إيران، وأن الإمارات ستبعث بسفير لها إلى طهران قريبًا، ومن العاصمة البحرينية أُعلن النفي المصري لوجود أية اتصالات حول المشروع على لسان وزير الخارجية سامح شكري، في مؤتمر صحفي مشترك مع وزير خارجية البحرين، قبيل بضعة أيام من مجيئ الرئيس الأمريكي.
من هنا فإن استمرار وتقوية التنسيق المصري السعودي هو أهم البدائل المتاحة لمصر للمشاركة في ترتيب مستقبل الإقليم، وللحيلولة دون عزلها بمشاريع اقتصادية إقليمية أو محاور سياسية عسكرية تكون إسرائيل هي واسطة العقد فيها، ويلي ذلك التنسيق المصري مع الأردن والعراق والسلطة الفلسطينية، لكن تبقى الخطوة المهمة جدًا المنتظرة من الدبلوماسية المصرية هي الدخول النشط على خط العلاقات السعودية /الخليجية مع إيران، وبما أن السعودية وإيران منخرطتان حاليًا في محادثات تهدئة وتفاهم، فالفرصة مهيأة لهذا الدور المصري النشط، والذي يتطلب بالضرورة تطبيع العلاقات المصرية الإيرانية، ثم يعقب ذلك تفعيل الحوار المصري التركي، الذي كان قد بدأ، على قاعدة إنهاء دعم أنقرة لأية جماعات أو تنظيمات مناوئة للنظام المصري.
كل تلك الخطوات تخلق بيئة ملائمة لتأسيس نظام للأمن الجماعي والتعاون في الإقليم، يبدأ بالتسوية الفلسطينية، ويجعل إسرائيل أحد الشركاء وليس الشريك الأكبر، ولا يعزل مصر لا عن المشرق ولا عن الخليج، كما يعطي زخمًا للمبادرة الأممية بإعلان الشرق الأوسط منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل، والتي هي في الأصل مبادرة مصرية تبنتها بأغلبية كاسحة الجمعية العامة للأمم المتحدة، وينطبق ذلك على إسرائيل كما ينطبق على البرنامج النووي الإيراني.
بالطبع ومن قبيل البديهيات فأن أهم شروط الدور الإقليمي القوي لمصر هو قوة الوضع الداخلي سياسيًا واقتصاديًا وتعليميًا وتكنولوجيًا وبحثًا علميًا، ومجتمعًا مدنيًا.
بعبارة ختامية نستعيرها من نظريات جمال حمدان الاستراتيجية فإن على مصر أن تنطلق مباشرة إلى فورة قوة إقليمية عظمى، تقود ولا تقاد. وتؤثر بأكثر كثيرًا ما تتأثر.