يعتبر ملف العلاقات المدنية العسكرية من الملفات الشائكة في مصر، فلا يحب أحد التطرق إلى الموضوع من قريب أو بعيد، نظرًا لحساسية الدولة والنظام تجاه أي حديث عن المؤسسة العسكرية، وهي مشكلة كبيرة خاصة مع تنامي دور المؤسسة الداخلي خلال السنوات الماضية، فعمل المؤسسة لم يعد يقتصر على الدور الدفاعي فقط، فهي شريك للدولة في أغلب مشروعات البنية التحتية، كما تستثمر في عدد من قطاعات الاقتصاد.
بعد ثورة يناير 2011 فُتح باب المناقشة في مسألة دور القوات المسلحة في الحياة المدنية، وجرت مناقشات ثرية ومعمقة بين المفكرين وأصحاب الرأي، ولكن هذه المناقشات لم تلبث أن توارت بعد ثورة 30 يونيو 2013 ودور القوات المسلحة فيها، وبالطبع غياب ثقافة الحوار بين النظام والمجتمع خلال السنوات الماضية جعلت هذا الملف أكثر سخونة وحساسية، كذلك فإن جلسات الحوار الوطني المنتظرة لم تضع الملف ضمن أولويات عملها.
اقرأ أيضًا.. قراءة في لائحة مجلس أمناء “الحوار الوطني”
في تعديلات الدستور التي أجري الاستفتاء عليها في الربع الأول من عام 2019، تمت إضافة مادة تمنح المؤسسة العسكرية دورًا جديدًا في الحياة المدنية، حيث نصت المادة 200 من الدستور المعدل، على دور القوات المسلحة في حماية مدنية الدولة والديمقراطية والدستور وحقوق وحريات الأفراد، وهي مساحة جديدة من العلاقات المدنية العسكرية، لم يجر أي حوار حولها قبل التعديل أو بعده.
أثناء فترة الاستفتاء ظهرت تفسيرات عديدة للمادة الدستورية، حول طبيعة دور الحماية الذي تلعبه المؤسسة العسكرية، وكيف من الممكن أن تحمي حقوق وحريات الأفراد، وكان التفسير الأكثر سطحية والذي ساد هذه المناقشات ولازال حتى الآن، اعتبار أن المادة تمنح للمؤسسة الحق في التدخل في السياسة المدنية “فقط” حال نشوء صراع بين الدولة والأفراد ينتج عنه تعدي الدولة على حقوق وحريات الأفراد.
بالطبع لم تحظ المادة بالنقاش الكافي، كما لم توضح المؤسسة العسكرية هل دورها يكون لاحقًا لمواجهة ما يمكن أن يشكل اعتداء، أم أن دورها يكون سابقًا بحيث تمنع ما يمكن أن تراه تعديًا على مدنية الدولة أو حقوق وحريات الأفراد من قبل أن يتم؟ فإذا قمنا بمقارنة بين هذا الدور الجديد والدور القديم في حماية الأراضي المصرية، فقد أعطى الدستور للقوات المسلحة الحق في حماية الأراضي وهي حماية مستمرة وقائمة وغير مرهونة بظروف طارئة، كما يحق للمؤسسة اتخاذ الإجراءات والتدابير اللازمة للقيام بدورها، فهل ينطبق المثال على الدور الجديد في حماية المدنية والحقوق والحريات؟ هل تكون الحماية لاحقة حين حدوث اعتداء، أم أنها سابقة لمنع أي اعتداء من جذوره؟.
في يوليو/تموز 2020 صدق رئيس الجمهورية على تعديل لقوانين الخدمة بالقوات المسلحة، وكانت لجنة الدفاع والأمن القومي قد قامت بصياغة التعديل ووافق عليه البرلمان، جاءت التعديلات بشكل واضح بهدف صياغة الشكل الجديد للعلاقات المدنية العسكرية، ولتفسير المادة 200 من الدستور، ورغم أن التعديلات جاءت من جانب واحد دون نقاشات أوسع، إلا أنها حملت تصور الدولة لتفعيل المادة الدستورية الجديدة، فلم نعد بحاجة لمزيد من الاجتهادات.
قضت التعديلات بعدم جواز ترشح أي من ضباط القوات المسلحة، سواء كان بالخدمة أو انتهت خدمته، إلى المناصب السياسية المنتخبة إلا بعد موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ولا يجوز الطعن على قرار المجلس أمام أي من المحاكم المدنية.
كما جاء تعديل المادة 2 من قانون رقم 4 لسنة 1968، ليحمل تفسيرًا واضحًا للمادة 200 من الدستور، ليكون بمثابة قانون مكمل للدستور، فجاء النص واضحًا “يكون للقوات المسلحة لممارسة هذه الاختصاصات كافة الصلاحيات اللازمة”، كما ذكرت المادة أمثلة لصلاحياتها، فإن القوات المسلحة لها الحق في إبداء الرأي في مشروعات القوانين المتعلقة بالحقوق السياسية وانتخابات رئاسة الجمهورية والمجالس النيابية والمحلية، كما يحق لها إبداء الرأي في مشروعات القوانين المرتبطة بالأمن القومي.
جاءت هذه التعديلات لتجيب عن كل ما أثير من تساؤلات حول المادة المستحدثة في الدستور، كما نسف القانون التصور القائل بأن المادة لن يتم تفعيلها إلا في حالة حدوث اعتداء على مدنية الدولة أو تهديد لحقوق وحريات الأفراد، ليكتب القانون فصلًا جديدًا من العلاقات المدنية العسكرية، برقابة مسبقة على التشريعات الصادرة من المجالس المنتخبة.
كما جاء قانون 165 لسنة 2020، لتعزيز الفكرة السابقة، فأمر القانون بتعيين مستشار عسكري لكل محافظ، يعينه وزير الدفاع ويرفع تقريره إليه، وجاء بالقانون عددًا من الأدوار المدنية التي يقوم بها المستشار بصفته، ومنها على سبيل المثال “عقد الاجتماعات مع قيادات المحافظة في الأحوال التي يرى فيها لزوم ذلك فيما يتعلق بمهامه”.
إذن، فإننا في خضم وضع جديد للمؤسسة العسكرية، تشغل فيه المؤسسة مساحة كبيرة من الحياة المدنية، وتمارس أدوارًا ترتبط بشكل واضح بالمؤسسات المنتخبة والنظام السياسي والسلطات التشريعية والتنفيذية، وهو ما يفتح الباب لضرورة مناقشة الإشكالية التي تزداد عمقا كل يوم، دون رسم أطر واضحة للعلاقات المدنية العسكرية.
إذا كان عنوان “نحو جمهورية جديدة” هو الشعار الذي ترفعه الدولة خلال جلسات “الحوار الوطني”، فإن هذه الجمهورية الجديدة يجب أن تفتح الملفات الشائكة والمسكوت عنها وتطرح جميعًا على طاولة الحوار، ربما لن يتسع هذا الحوار لقضية شائكة بهذه الأهمية، ولكن لابد من عقد العزم على تنظيم جلسات حوار أخرى، لتفكيك هذه الإشكالية، ورسم مساحات للتفاهم والتعاون بين المدني والعسكري.