إذا كان هناك هدف أساسي ورئيسي للحوار الوطني الجاري التحضير له في مصر من خلال مجلس أمنائه المشكل مؤخرًا والذي عقد ثاني اجتماعاته الأسبوع الماضي، وعبر التفاعلات المستمرة ما بين السلطة والمعارضة، فهذا الهدف يمكن اختصاره بوضوح في إعادة رسم وتأسيس قواعد اللعبة السياسية في مصر، بعد سنوات طويلة من إخماد السياسة ووأد تفاعلاتها، وهذه القواعد وحدها هي الضمانة لأي مسار مختلف فيما هو مقبل.
اقرأ أيضًا.. على بعد خطوات من الحوار الوطني.. تساؤلات ومخاوف ومقترحات
الأسقف المتوقعة من الحوار متفاوتة للغاية حسب تحليل كل طرف للمشهد، والمقصود بالأطراف هنا ليس السلطة والمعارضة، وإنما كل طرف داخل كلا المعسكرين، وهي تبدأ من مجرد اعتباره شكلًا تجري خلاله مناقشات لا تفضي إلى شيء، وتصل في مداها إلى تأسيس حياة ديمقراطية سليمة وتحقيق منهج اقتصادي مغاير لما لا يزال قائما، وإذا كان الأول غير مقبول فإن الثاني غير معقول، فلا يمكن قبول أن يتحول الحوار الوطني إلى مجرد شكل مفرغ من مضمونه، كما لا يمكن تصور أنه من المعقول أن مجرد حوار حول مجموعة قضايا وملفات وعناوين مهما كان اتساعها وشمولها وعمقها كفيل بالتوافق على تغيير واسع وشامل في المفاهيم والممارسات، في ظل فجوة كبيرة وواسعة بين الأطراف المختلفة، عمقتها سياسات وأداءات السنوات الماضية.
لكن الحد الأدنى الذي يمكن تصوره، وقبوله، ومعقوليته، بل وإمكانيته، هو أن يكون هذا الحوار حول أولويات حقيقية يمكنها تغيير شكل المسار خلال المرحلة المقبلة، وبهدف التوافق على قواعد أساسية تستمر وتضمن عدم الرجوع عن المسار الذي يمكن البدء فيه، وتحقق نقلة من مربع إلى مربع جديد.
بدء الحوار في ذاته خطوة، لكنها بالتأكيد ليست كافية، فهي تحتاج أولًا لاعتماد منهج الحوار كآلية واضحة ومحددة ومعلنة لا لفترة مؤقتة تنتهي وإنما كمنهج مستمر ومتواصل، وتحتاج ثانيًا لخطوات مد جسور وتمهيد للحوار وهي عديدة ومتبادلة، الجانب الأكبر منها يقع على عاتق السلطة دون شك، بدءا من تسريع وتيرة وزيادة أعداد الإفراج عن سجناء الرأي عبر قرارات العفو من رئيس الجمهورية لمن صدرت ضدهم أحكام نهائية، وكذلك عبر مراجعات جادة وسريعة من النيابة لملفات المحبوسين احتياطيًا لإخلاء سبيل كل من لم يثبت تورطه في قضايا عنف أو إرهاب وهم كثيرين، وكل من تجاوزوا الحد الأقصى القانوني لمدد الحبس الاحتياطي، وغيرها من المعايير التي سيمثل اعتمادها والعمل بها خطوة مهمة ومتقدمة في هذا الملف، وتسهم في مناخ أكثر إيجابية وأكثر تفاعلًا وأكثر مصداقية.
لكن هذه الخطوات والإجراءات لا تتوقف عند حدود ملف السجناء، لكن دون أن تتجاوزه، فهو الملف الأكثر أولوية والأكثر ضغطا على ضمير ونفس وقلب ووجدان وعقل كل من يرغب في مسار مختلف للمرحلة المقبلة يبدأ برفع المظالم الراهنة، لكن هناك أيضا خطوات وإجراءات أخرى يجب أن تتزامن وتتوازى مع بدء الحوار لا أن تنتظر نتائجه، منها فتح مجال الإعلام المرئي والمسموع والمقروء أمام مختلف القضايا ومختلف وجهات النظر، طالما كانت تلك الآراء في سياق الدستور والقانون، وهو ما كان قد بدأ نسبيًا لكنه لم يستمر ويتسع بالشكل المطلوب، ومن بين تلك الإجراءات المتعلقة بفتح المجال الإعلامي رفع الحجب غير القانوني على بعض المواقع والمنصات الإعلامية المصرية.
وكذلك اعتماد آليات واضحة ومتواصلة فيما يتعلق بعودة المفرج عنهم والمَخليّ سبيلهم والمغلقة قضاياهم لحياتهم الطبيعية بدءا من العودة للعمل والوظائف العامة، وإنهاء إجراءات المنع من السفر والتحفظ على الأموال التي صاحبت قرارات حبسهم أو القضايا الخاصة بهم، وبما في ذلك القضايا المتعلقة بالمجتمع المدني القائمة منذ سنوات طويلة والتي آن أوان إنهائها وإغلاق ملفاتها خاصة في ظل عام يسمى بعام المجتمع المدني، الذي صحيح أن جانبًا رئيسيًا منه هو المنظمات العاملة في المجالات الاجتماعية والتنموية لكن المنظمات الحقوقية أيضا هي جزء رئيسي منه، ومع ذلك كله فتح الباب أمام كل من يرغب في العودة لوطنه والإعلان عن ذلك بشكل واضح طالما لم يكن متورطًا بشكل حقيقي في قضايا عنف أو إرهاب أو تحريض عليه، فمعدلات السفر للخارج تزايدت جدًا في السنوات الماضية بسبب انغلاق المجال العام وتراجع السياسة ومساحات التعبير بالذات من أصحاب وجهات النظر المختلفة وأصحاب الخبرات في ملفات متعددة، وهي آراء وخبرات يحتاجها الوطن بالفعل إذا كان هناك نية جادة لفتح مساحة أمام أصحاب الرأي ووجهات النظر المختلفة.
وإذا كانت تلك إجراءات أولية وتمهيدية بعضها يسبق البدء الفعلي في الحوار بالتزامن مع إجراءاته التحضيرية، وبعضها يتوالى مع الحوار نفسه دون انتظار محطة نتائجه وتوصياته، فهناك أيضًا على الجانب الآخر لدى المعارضة واجب ومسئولية، تبدأ من استمرار التمسك بما هو رئيسي من ضرورة الإفراج عن دفعات معتبرة وأعداد معقولة من سجناء الرأي، لكنها تمتد وتستمر للتعامل بنضج ومسئولية مع هذه اللحظة، دون أسقف غير واقعية لكن أيضًا دون تصورات ترضى بأي نتائج، فالحوار في ذاته خطوة وهذا صحيح، لكنه لن يتحول لخطوة جادة إلا بالإعداد الجيد له وتوفير أجوائه المطلوبة والاستعداد برؤى ووجهات نظر جادة ومتكاملة بدءا من رؤيتها العامة ووصولًا لتفاصيلها، دون الإغراق في العموميات ذات الطابع الأقرب للشعارات، وإنما عبر تحديد أهداف واضحة وملفات محددة وصياغات واضحة لما يمكن النظر له كقواعد مؤسسة لمسار مختلف سواء إجراءات أو قرارات أو تشريعات أو تعديلات تشريعية.
ثم أن المعارضة أيضًا مطالبة بمواجهة شكوكها ومخاوفها، عبر حوارات داخلية جادة وعميقة تحدد طبيعة المستهدف وإمكانياته، وطبيعة الفرصة واحتمالاتها، ليكون الاشتباك مع ما هو مطروح من فرص بما فيها من مخاطر واحتمالات، قائما على تصورات حقيقية وجادة مدركة للوضع الراهن وتوازنات القوى وطبيعة الأزمات القائمة، ودون الاستمرار في سياسة المراوحة في المكان التي تتقدم خطوة وتتراجع خطوة، وهو ما لا ولن يفيد أحدًا.
يعنى ذلك بوضوح شديد، أن هناك تخوفات وشكوك صحيحة وجادة وعميقة، مبنية على مجمل السياسات والأداءات والتفاعلات التي جرت على مدار السنوات السابقة، وهى ليست هينة ولا بسيطة، لكن التوقف عندها وفقط لن يجدي، والمطلوب ببساطة تمهيد الطريق لأجواء حوار إيجابية وجادة، وهو ما لم يتحقق بشكل كامل بعد، ولا يزال يمكن تحقيقه إذا كانت النوايا جادة والإرادة حاضرة لدى مختلف أطراف الحوار، عبر حزمة الإجراءات المقترحة أعلاه، والتي تبدأ بالأساس بملف سجناء الرأي كمرحلة أولى تكتمل باعتماد معايير وآليات مستمرة ومتواصلة، ومع استمرار التحضير الجيد والهادئ لملفات وموضوعات وقضايا الحوار، والاستعانة بأوسع عدد ممكن من أصحاب وجهات النظر والرؤى والخبرات، لكن أهداف ونتائج الحوار المرجوة والممكنة والمعقولة تحتاج لما هو أبعد من تلك الإجراءات، وهو ما يحتاج لإعداد واستعداد جاد وناضج ومسئول، وأن يكون التركيز فيها على ما يمكن اعتباره قواعد مؤسسة تعيد الاعتبار لحق التنظيم والتعبير والحركة في الأطر الدستورية والقانونية السلمية، بالإضافة لحزمة إجراءات اقتصادية واجتماعية تخفف من وطأة وآثار الأزمة، واعتماد لآليات تضمن استمرار ضمان تحقيق نتائج ما يتفق عليه، فضلا عن اعتماد الحوار نفسه كآلية مستمرة ومتواصلة لا مجرد خطوة مؤقتة تنتهى وتعود الأمور بعدها لما كانت عليه، دون ذلك، ودون الحد الأدنى من إجراءات البدء، وضمانات الجدية، ونتائج التقدم خطوة للأمام، فإن كل طرف سيبقى في موقعه على الأرجح، دون حلحلة للأزمة القائمة منذ سنوات، ودون أفق واضح لما هو قادم.
لا يعني كل ما سبق الثقة الكاملة واليقين المطلق في نجاح هذا الحوار المطروح، ولا في خروجه بأفضل نتائج، ولا في قدرته على تجاوز الأزمات، فهو معرض للتعثر في ظل توترات واضحة للمتابعين تلوح بين الحين والآخر، وذلك إذا لم تتوفر الإرادة الحقيقية لدى السلطة والمسئولية الكافية لدى المعارضة، ومعرض ليكون شكلًا بدون مضمون إذا لم تضمن الإجراءات التحضيرية أوسع تمثيل لمختلف الآراء ووجهات النظر والقضايا المطروحة وآليات التنفيذ والمتابعة لتوصياته، لكنه ومع كل ذلك قد يكون فرصة مطروحة الآن لتحريك حقيقي لملفات أساسية وأولويات رئيسية، يمكن البناء عليها في المستقبل. وهذا في ذاته ما تتحمل مسئوليته السلطة والمعارضة معًا، فالشيطان دائمًا يكمن في التفاصيل.