في منطقة الشرق الأوسط، مازالت مجموعة من التوجهات السياسية الاستراتيجية في طور التبلور، وفيها تُتخذ خطوات استكشافية مبدئية تنتظر نتائج التفاعلات المختلفة بين فاعليها، لتقييم مدى شروط نضجها واعتمادها أو تجنبها واعتماد مسارات بديلة. فخلال العام الجاري، شهدت المنطقة الكثير من التحركات الإقليمية التي تهدف لتطبيع العلاقات بين الفرقاء وإنهاء الصراعات. ولكن لا يمكن الحكم على استقرار نتائجها بعد.

آخر تلك الخطوات كانت محاولة الولايات المتحدة رعاية حلف إقليمي أمني تتزعمه “إسرائيل” مع زعامات الدول الخليجية؛ لاحتواء التهديدات الإيرانية. لكن في مقابل هذا النهج تحركت السعودية والإمارات أيضا لفتح خط التفاوض مع طهران. وإن كان في حالة المملكة أمني فني لم يرتقِ للدبلوماسي بعد، وهي عملية مازالت تشوبها الشكوك حتى الآن.

يحاول الجانبان السعودي والإيراني الحفاظ على الأجواء الإيجابية (هدنة وقف القتال في اليمن) للمفاوضات من أجل دفع أجواء الحوارات الثنائية. حتى أنّ الجانبين يحاولان تهدئة مخاوف بعضهما البعض قدر الإمكان.

وتجسد ما حصل في هذا الإطار في قمة جدة، “حيث اتخذت السعودية وحلفاؤها العرب، بما في ذلك الإمارات ومصر والأردن، نهجا وديا تجاه إيران، حتى أنه يتعارض مع رغبات الولايات المتحدة”، بحسب ما يرى علي موسوي خلخالي، الباحث السياسي الإيراني.

اقرأ أيضاهيكل أمني خليجي-إسرائيلي: درء للمخاوف أم جر للتصعيد؟

ما وراء رغبة التفاوض

دلل على ذلك تصريحات وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، على هامش القمة والتي نفى فيها مشاركة بلاده في أي مشاورات لإنشاء “ناتو” بالمنطقة. وأضاف في مقابلة مع شبكة “سي إن إن“: “كل أعضاء مجلس التعاون يتحدثون مع إيران لأنهم يريدون حل الخلافات من خلال المفاوضات”، معربا عن أمله باستغلال إيران لهذه الفرصة وحوافزها التي تشمل تكاملا أفضل في المنطقة وتعاونا اقتصاديا مع الجيران. لكنه أشار إلى أن بلاده تعمل أيضًا مع الولايات المتحدة لبناء القدرة على “الدفاع ضد عدوان إيراني محتمل”.

بعد ذلك بساعات، كتب وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان تغريدة جاء فيها: “إيران تصافح الأيدي المفتوحة تجاهها، وتعطي الأولوية لجيرانها في سياستها الخارجية، وتتجه نحو تعزيز العلاقات مع جيرانها”. وهو ما يُعتبر ردا على نظيره السعودي.

وزير الخارجية السعودي

وتلك الرغبة السعودية الإيرانية جاءت مدفوعة بعدة عوامل:

على الجانب الإيراني ترغب طهران في فك عزلتها الإقليمية ضمن سياسة “تحسين العلاقات مع الجيران” التي تحدث عنها الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، مرارا. بجانب استراتيجية المرشد الأعلى، آية الله خامنئي، “التوجه نحو الشرق” كنهج استراتيجي يُمكن أن يجنب بلاده ضغوط العقوبات الغربية المرتهنة بالتوصل للاتفاق النووي. وكذلك تقويض التحالف السعودي الإسرائيلي الناشئ وما يحمله من أخطار على نفوذها.

أما على الجانب السعودي فقد كان الهجوم على منشآت المملكة النفطية عام 2019 وشعورها بالخذلان من الصمت الأمريكي “لحظة استيقاظ نادرة” أدركت فيها أن سياسة “الضغط الأقصى” -التي دعمتها مع الإدارة الأمريكية في عهد دونالد ترامب- لم تسفر عن النتائج المرجوة. وأن الضغط الشديد ضد طهران قد يكون محفوفًا بالمخاطر، بحسب تحليل لمجلة “inside Arabia” المعنية بشؤون الشرق الأوسط. ولهذا كان عليها التحوّط في رهاناتها.

اقرأ أيضاالعلاقات الأمريكية مع السعودية والإمارات: رحلة الوصول إلى “المنعطف”

حضور تركي في المشهد

يُمثل هذا المشهد جزءا من الإطار العام للصورة التي تتسم بعدم اليقين، وفي جزء آخر منه تظهر تركيا كلاعب أساسي آخر يملك من الأوراق ما يؤهله للعب دور مستقبلي محتمل في هذا الصراع.

لكن هذا الدور منوط بحسابات عدة، منها: خيارات الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الداخلية قبيل الانتخابات الرئاسية في 2023 أو بعدها حال فوزه بالمنصب، وكذلك الأوضاع الاقتصادية المتدهورة في بلاده، والتي كانت إحدى محفزات التصالح مع السعودية وقبلها الإمارات.

واستدعاء الدور التركي المحتمل في هذا الصراع انبثق من مشهدين أساسيين، أحدهما قبل قمة جدة والآخر بعده.

فقبل القمة وضمن جولته الإقليمية لإجراء مشاورات وتفاهمات زار ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، أنقرة حيث حظى باستقبال دافئ وحميمي من أردوغان، الذي سبقه بزيارة الرياض في إبريل/نيسان الماضي، وسط تحليلات ذهبت إلى رغبة سعودية في الاستفادة من الصناعات الدفاعية التركية.

أما بعد القمة، فقط صوبت الأنظار تجاه الاجتماع الثلاثي بين روسيا وإيران وتركيا في طهران، والذي شهد توقيع 8 اتفاقات تجارية بين طهران وأنقرة وتصريحات الرئيسين عن رغبة في رفع التبادل التجاري إلى 30 مليار دولار، ضمنها بيع صفقات دفاعية تركية في مقابل الغاز الإيراني. وبينما قد يظن البعض أن التعاون الوثيق يربط بين البلدين إلا أنه في الواقع “تعاون تنافسي” يدير الصراعات بينهما أكثر مما هي صداقة.

تضع تركيا قدما في المناطق الملتهبة وتضمن وجودا قويا لها وتدير لعبة الخلافات والصراعات وتحقق أدوارا وظيفية للولايات المتحدة والناتو، ورغم التباينات والصدامات معهما إلا أنه في النهاية تظل الحاجة إلى أنقرة كبيرة. ولا يوجد أفضل من مثال وساطتها الناجحة في اتفاق سيسمح باستئناف تصدير الحبوب الأوكرانية العالقة في موانئ البحر الأسود، وما يمثله ذلك من تدارك لجزء من الأزمة الغذائية العالمية.

والانتماء لتحالفات متعارضة في ذات الوقت، هي فكرة سياسية أساسية  تنتهجها تركيا وتديرها بتوازن في غالب الأحيان. وخير تجسيد لها هو انتمائها لحلف الناتو وعلاقاتها الوثيقة مع روسيا في نفس الآن (الدولة الوحيدة في الناتو التي لم توقع عقوبات على موسكو).

اقرأ أيضاالخليج وتركيا: إعادة رسم تحالفات الشرق الأوسط لصالح إسرائيل

روابط تمتين العلاقات التركية مع إيران

يرى بيرول باسكان، الباحث غير المقيم في “معهد الشرق الأوسط” بواشنطن، أن أهمية إيران بالنسبة لتركيا لا تقل عن أهمية دول الخليج، “تركيا خاطرت بعلاقاتها مثلا مع السعودية والإمارات من أجل قطر، لكنها لم تخاطر بعلاقاتها مع إيران من أجل الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي أو إسرائيل. ولم تخاطر بعلاقاتها مع إيران في مطلع الألفية الثانية، حين كانت لها علاقات ممتازة مع السعودية والإمارات. ولم تتدهور العلاقات على الرغم من أن تركيا أرادت الإطاحة بنظام الأسد، حليف إيران في سوريا”.

وعلى الرغم من الخلافات في سوريا والعراق احتفظ الجانبان بزيارات رفيعة المستوى ولم يتفوهوا بتصريحات سلبية علانية، بحسب الباحث المتخصص في الشأن التركي، في حديثه مع “مصر 360“. وقد لفت إلى أن المصالح التي تربط تركيا وإيران قوية ومتينة، ضاربا نماذج عليها:

  • كلاهما لديه نفس المشكلة: القومية الكردية داخل حدودهما وحركات انفصالية تقاتلهما (حزب العمال في تركيا وحزب الحياة الحرة في إيران). كما يتابع البلدان عن كثب تطور القومية الكردية داخل العراق ويعملان معًا لمنعها من بناء دولة كردية مستقلة.
  • لدى البلدان مصالح مشتركة لتطوير التجارة الثنائية وكثيرا ما يعبران عن رغبتهما في توسيعها (يبدو أن تركيا تحترم العقوبات الاقتصادية الأمريكية على إيران إذا نظرت إلى إحصاءات التجارة الرسمية. لكن هذا ليس لأن تركيا تدعم تلك العقوبات). ويأت الإيرانيون إلى تركيا كسائحين ويشترون العقارات بفضل نظام إلغاء التأشيرة بين البلدين.
  • تعتمد تركيا على إمدادات الغاز الطبيعي الروسية، لكنها ترغب في تنويع مصادر طاقتها. وإيران هي أحد الموردين الذين تريد تركيا استيراد الغاز الطبيعي والنفط منهم.
  • تخطط تركيا أيضًا لتكون بمثابة طريق عبور للغاز الإيراني إلى السوق الأوروبية.
  • أخيرًا، تعد إيران وتركيا جزءًا من مشاريع الحزام والطريق الصينية.

اقرأ أيضاتركيا والناتو.. هل يمكن لأردوغان “الضعيف بالداخل” دعم نفوذه بالخارج

 

تشابك المصالح التركية مع السعودية

ساهم سعي السعودية لتنويع علاقاتها الخارجية واقتصادها، وبناء صناعة دفاعية محلية قوية، ومواجهة التحديات الأمنية المتزايدة في اهتمام الرياض بالتصالح مع تركيا، وفق الباحثان في الشأن التركي أيوب أرسوي وعلي باكير في تحليلهما على “معهد دول الخليج العربي” بواشنطن. واعتبرا أن محور الشراكة هذا قد يكون “طموح وبعيد المدى”.

إذ قد يساهم في تغير الديناميكيات الإقليمية بشكل كبير، خاصة فيما يتعلق بالتعاون الأمني ​​المحتمل ضد التهديدات المشتركة، لا سيما إيران وشبكتها الإقليمية من الوكلاء المسلحين. وإلى جانب الكثير من دول المنطقة، فإن السعودية وتركيا تشعران بالقلق من أن أي إحياء محتمل للاتفاق النووي قد يمكّن طهران من مواصلة أجندتها التوسعية، وتمويل وتقوية وكلائها، وتسريع بناء ترسانتها الضخمة من الصواريخ والطائرات بدون طيار.

“قد يسمح هذا لإيران بتشكيل تهديد أكثر خطورة للعديد من البلدان. حتى إذا فشلت محادثات فيينا، فإن التعاون بين المملكة وتركيا يمكن أن يساعد في احتواء طهران وأنشطتها المزعزعة للاستقرار وبالتالي تقوية يد المنافسين الإقليميين لإيران”، وفق تقدير التحليل.

ويعتقد الباحثان أن طهران تشعر بالقلق من أن التعاون الوثيق بين تركيا والسعودية في المسائل الأمنية قد يخلق مركز ثقل جديد يجذب اللاعبين الإقليميين الآخرين نحوها، وبالتالي إنشاء كتلة استراتيجية إقليمية لمواجهة إيران وشبكتها الخاصة.

وقد جادلت وسائل الإعلام الرسمية وشبه الرسمية، بما في ذلك أولئك المقربون من الحرس الثوري الإيراني، وغيرهم من الصحفيين والأكاديميين الإيرانيين، بأن استعادة العلاقات الطبيعية بين الرياض وأنقرة من المرجح أن يقوض نفوذ إيران في دول مثل العراق وسوريا واليمن ولبنان.

يقول “مركز دراسات السياسة الدولية” إنه نظرًا لموقع تركيا الإقليمي ومكانتها وقوتها، فقد حاولت الموازنة بين السعودية وإيران. لكن منذ اندلاع الثورات العربية عام 2011، صعّب سلوك الرياض وطهران تجاه أنقرة تحقيق مثل هذا الهدف.

“خلال السنوات العشر الماضية، يمكن للمرء أن يلاحظ أنه كلما اقتربت تركيا من الرياض، فإن على الأرجح تسوء علاقاتها مع طهران. وبالمثل، كلما اقتربت تركيا من طهران أكثر من المحتمل أن تتدهور علاقاتها مع الرياض”، يشير مركز الأبحاث الإيطالي.

اقرأ أيضا“بن سلمان” والعرش: طريق الأمير الشاب لحكم السعودية يمر عبر إسرائيل

“تركيا لا تنظر لإيران كخصم استراتيجي”

بهذا المعنى، فإن إعادة اصطفاف تركي- سعودي ضد إيران ستقوي أنقرة في سوريا، والرياض في اليمن، والبلدين في العراق، وهو ما سينتهي حتى تقويض نفوذ طهران في المنطقة. وإدراكًا لهذه الحقيقة، هرع وزير الخارجية الإيراني، إلى تركيا، في يونيو/حزيران الماضي، بعد زيارة محمد بن سلمان لأنقرة، لمناقشة العديد من القضايا الثنائية والإقليمية.

فالمناورات الدبلوماسية الإيرانية تهدف إلى معالجة بعض المخاوف المتعلقة بتركيا والمملكة العربية السعودية واستباق إعادة التنظيم المحتمل للقوتين الإقليميتين على أساس مواجهة إيران، وفق المعهد الإيطالي. لذا فإن كيفية تطور التطبيع بين السعودية وتركيا في المستقبل القريب وما إذا كان سيتطور إلى تحالف مناهض لإيران سيعتمد أيضًا على كيفية تصرف إيران تجاه القوتين الإقليميتين.

يقول ياسر ياكيس وزير الخارجية الأسبق والسفير التركي في الرياض سابقا، إن تركيا هي قوة سنية رئيسية أخرى تريدها السعودية إلى جانبها ضد القوة الشيعية إيران. و”يدرك محمد بن سلمان أن الاستقرار الإقليمي ضروري من أجل ازدهاره الداخلي. لكن لا تزال المملكة مدركة أن تركيا يمكن أن تتدخل في الشؤون العربية وأن خطاب أردوغان يمكن أن يعود للتحريض”.

و”بالنظر إلى الديناميكيات الفريدة التي تشكل العلاقات بين أنقرة وطهران، قد لا تشترك تركيا بالكامل في تحالف موازن ضد إيران بالطرق التي يريدها الفاعلون الخليجيون”، وفق سابان كارداس، أستاذ العلاقات الدولية في تحليله لمركز “تريندز” للبحوث والدراسات. وبينما توجد حاليًا مرحلة تنافسية، سوف تستمر التذبذبات المتأصلة في العلاقات بين أنقرة وطهران.

يصر الباحث بيرول باسكان في حديثه مع “مصر 360” على أن “تركيا لا ترى إيران خصما استراتيجيا وتتصرف على هذا الأساس”. وعن دور وساطة تركي محتمل مستقبلا بين السعودية وإيران يوضح “نعم بالتأكيد، يود أردوغان أن يخدم هذا الغرض. لكن، هل سيحدث ذلك أي فرق؟ لا أعتقد هذا. تركيا ليست تركيا في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وحتى في ذلك الحين، لم تستطع أن تخدم كوسيط لأن الخلاف بين إيران والخليج عميق ويبدو أنه من الصعب التغلب عليه”.