أقر مجلس النواب الأمريكي منذ أيام قانون موازنة الدفاع -أو بالأحرى موازنة الإنفاق العسكري- عن العام 2023 والتي بلغت رقمًا قياسيًا وصل إلى 840 مليار دولار بزيادةٍ أضافها النواب إلى الموازنة التي قدمها الرئيس بايدن نفسه بنحو 37 مليار دولار.
وفقًا لما أشار إليه معهد ستوكهولم الدولي لدراسات السلام في أحد تقاريره الصادرة منذ أسابيع، فإن إنفاق الولايات المتحدة الأمريكية العسكري قد وصل في العام 2022 إلى ما يزيد عن الإنفاق العسكري للتسع دول التالية لها “مجتمعة” وهي الصين والهند والمملكة المتحدة وروسيا وفرنسا وألمانيا والمملكة العربية السعودية واليابان وكوريا الجنوبية والذي بلغ في مجموعِهِ نحو 770 مليار دولار. وقد توقع محللون أمريكيون أن يزيد إنفاق بلادهم العسكري في 2023 عن مثيله في الأربعة عشر دولة التالية لها مجتمعة، مُتجاوِزًا المبلغ المعتمد بالموازنة ليصل إلى تريليون دولار لأول مرة في التاريخ.
ولما كانت الأرقام في ذاتها هي مجرد رموز بلا معنى إن لم تُنسَب إلى أرقامٍ أخرى فيتضح حجمها المُقارَن الذي يمكن من خلاله التعرف على دلالاتها بما يتيح إمكانات التنبؤ بملامح مستقبلٍ في عَالَمٍ شديد التعقيد تتبدل فيه المراكز والمواقف التكتيكية -وربما الاستراتيجية أيضًا- بأسرع مما قد يذهب إليه خيال أكثر المُحللين جموحًا، فقد استلزم الأمر عرض بعض من تلك المقارنات والنسب:
- كان المبلغ المُعتَمَد لموازنة الإنفاق العسكري الأمريكي لعام 2022 هو 780 مليار دولار ومن المُتَوَقع أن يصل حجمه الفعلي إلى نحو 800 مليار دولار في 30 سبتمبر (تاريخ انتهاء السنة المالية للحكومة الفيدرالية).
- ستكون الزيادة في موازنة الإنفاق العسكري للعام 2023 في حدود 8% و5% مقارنة بما هو وارد بموازنة 2022 المعتمدة وبالحجم الفعلي المتوقع على التوالي.
- ستبلغ نسبة الإنفاق العسكري المُعتمد بموازنة 2023 إلى الناتج المحلي الإجمالي نحو 3.2% مُقابل 3.1% و3.2% حسبما ورد بموازنة 2022 المعتمدة والحجم الفعلي المتوقع، ويرجع هذا إلى حالة التراجع والانكماش التي شهدها الاقتصاد الأمريكي بالعام الحالي بسبب الأزمة الأوكرانية وتبعات فيروس كورونا.
- بلغت نسبة الدين العام الأمريكي إلى ناتجها المحلي نحو 130% بينما بلغت نفس النسبة في الصين نحو 61% وفي روسيا نحو 20% وقت كتابة هذه السطور.
- قَدَّرَت مجموعة “جي بي مورجان” منذ أيام أن يصل سعر برميل النفط إلى 190 دولار إن قامت روسيا بخفض 3 ملايين برميل من إمداداتها النفطية اليومية إلى الغرب وأن يقفز إلى 380 دولار إن قامت بخفض 5 ملايين برميل من تلك الإمدادات، علمًا بأن المتوسطات الحالية تدور ما بين 100 إلى 105 دولار للبرميل. ولا شك عندي أن هذا التقدير/التخوف كان أساسًا ارتكزت عليه أهم نقاط جدول أعمال زيارة الرئيس الأمريكي للشرق الأوسط منذ أيام، وهي توفير البديل لتعويض النقص الحاد الذي سيحدث إن تحقق هذا التقدير/التخوف لما لتلك الزيادة في الأسعار من آثار مخيفة على المراكز المالية لأمريكا وحلفائها حيث ستزيد النفقات العامة ومن ثَم سيرتفع العجز بتلك المراكز إلى أرقام قياسية ستدفع أمريكا وحلفاءها لتمويله (العجز) من خلال مزيد من الاستدانة التي صارت أثقل بكثير من قدرتها على السداد وتكاد أن تتجاوز سقف الأمان الاستراتيجي.
منذ نحو الشهر وأثناء انعقاد قمة “شانجري لا” الأمنية في سنغافورة، قال وزير الدفاع الأمريكي: “إننا نشهد إكراهًا متزايدًا من جانب بكين. شهدنا زيادة مطردة في النشاط العسكري الاستفزازي والمزعزع للاستقرار قرب تايوان” ثم شدد على أهمية السلام والاستقرار عبر مضيق تايوان ومعارضة أي تغييرات أحادية للوضع القائم، ودعا الصين إلى الامتناع عن القيام بأي خطوات إضافية حيال تايوان ينتج عنها زعزعة بالاستقرار، ليرد عليه نظيره الصيني بما نصه: “إن أولئك الذين يسعون إلى استقلال تايوان في محاولة لتقسيم الصين بالتأكيد لن يصلوا إلى نهاية جيدة. لا ينبغي لأحد أن يقلل من تصميم القوات المسلحة الصينية وقدرتها على حماية وحدة أراضيها. على واشنطون أن تكف عن تشويه سمعة الصين واحتوائها والتدخل في شؤونها الداخلية والتوقف عن الإضرار بمصالحها. سنقاتل بأي ثمن، وسنقاتل حتى النهاية. هذا هو خيار الصين الوحيد”.
شخصيًا، أستبعد احتمالات حدوث مواجهة عسكرية من أي نوع، لكن يبقى الإنفاق العسكري في تزايد مُضطرد ومُقلِق ذَكَرَني بسباق التسلح أثناء الحرب الباردة وما أتبعه “روبرت ماكنمارا” وزير الدفاع الأمريكي منذ 1961 حتى 1968 من أسلوب دَفَعَ بموجبه الاتحاد السوفيتي لمزيد من الإنفاق بغرض تكديس السلاح التقليدي وغير التقليدي لضمان استمرار المنافسة مع الولايات المتحدة الأمريكية فاستُدْرِج لإسراف ضخم أعاق خطط التنمية فَلَمْ يسمح بتحقيق حُلم الرفاه الاشتراكي من ناحية ولَمْ يسفر عن تفوق عسكري سوفيتي من ناحية أخرى، بل آل الأمر في النهاية إلى تفتيت الاتحاد السوفيتي ذاته وتفكيك حلف وارسو بأكمله إثر انهيار جدار برلين الدرامي في 1989.
ما بين خبرات التاريخ وغموض المستقبل، يبقى السؤال المُثير بلا إجابة، هل تستطيع الولايات المتحدة في ظل الصمود الروسي العنيد بأوكرانيا وصعود القوة الواثق بالصين والحشد النووي الإيراني والصعوبات الاقتصادية غير المسبوقة للحلفاء في أوروبا ومُعضلات الإرهاب بالشرق الأوسط والإنفاق الاجتماعي الداخلي بالغ الضخامة أن تحتفظ بهيمنتها على العالم أم أنها سوف تنزلق إلى مستوى من الإنفاق العسكري في سباقٍ حثيثٍ للتسلح قد يخرج عن سيطرتها ليلقي بمزيد من الآثار السلبية على مركزها المالي المأزوم فعليًا وسط أمواج دوامة التضخم العاتية وهشاشة الأسواق واضطراب سلاسل الإمداد والنقص الحاد في الغذاء وفي مصادر الطاقة النظيفة وغير النظيفة وارتفاع أرقام الدين العام القياسية؟ بمعنى آخر، هل تقع الولايات المتحدة الأمريكية في نفس الشَرَك الذي نَصَبَهُ “ماكنمارا” في ستينات القرن الماضي للاتحاد السوفيتي؟ هذا ما ستجيب عنه الأيام القادمة الحُبلى بالأحداث الجِسام.. والله أعلم.