مبدئيا، المثلية الجنسية ليست خطرا يجب التصدي له اجتماعيا وثقافيا. عزيزي المواطن، عزيزتي المواطنة، الميول الجنسية والهويات الجندرية المختلفة عن السائد مجتمعيا ليست ثقافة وافدة وليدة اللحظة وليست أمرا يستدعي تلك الانتفاضة الأخلاقية الكاذبة عبر منصات الإعلام التقليدية والرقمية.

الأهم من كل ذلك أنه لم يعد من المقبول العودة بنقاش الحريات الشخصية في مصر إلى بديهيات. مثلما ليس من المنطقي أن يكون الخطاب الصادر من المؤسسات الدينية (مثل الأزهر والكنيسة) بضرورة التصدي سويا لخطر ما يسمونه الشذوذ الجنسي هو نفسه الخطاب الذي سمعناه في التسعينيات أيام خرافة (عبدة الشيطان). وفي 2001 عندما قررت دولة مبارك شن حرب على مواطنيها ومواطناتها المثليين والمثليات جنسيا. حياة الأشخاص وميولهم الجنسية وهوياتهم الجندرية أكثر تعقيدا وثراءً من أن يتم تعليبها وتغليفها وكأنها خصم يحتاج إلى من يدافع عنه في مواجهة خطابات الكراهية تلك. ولذا السطور القادمة ليست محاولة للرد على مبادرة (فطرة) التي ظهرت (واختفت) فجأة على منصة فيسبوك في مقتبل الشهر الحالي، والتي زعم مؤسسوها أن الغرض منها حماية أطفال المجتمعات العربية من خطر (الشذوذ) عن الفطرة.

هذه ليست محاولة للرد على تلك المبادرة لأن الرد عليها هو موافقة ضمنية على النقاش مع خطابات كراهية ذات غلاف أنيق أخلاقيا. ولكن باعتباري مواطنا مصريا، رأيت أنه ربما يكون من المفيد أن أحاول التفكير مع غيري من المشغولين والمشغولات بسؤال التغيير الاجتماعي في مصر في كيفية الاستفادة من ذلك الاهتمام بحماية الأطفال والمراهقين والمراهقات، ولعلنا ننجح في تحديد مشاكل اجتماعية (حقيقية وليست وهمية) تحتاج إلى موارد الدولة والمجتمع في مصر.

الاكتئاب به سم قاتل

لست أبالغ عندما أقول إن سؤال الصحة النفسية في مصر هو أحد أكثر الأسئلة إلحاحا في هذه اللحظة، سواء بالنسبة للأفراد بشكل عام أو بالنسبة للأطفال والمراهقين بشكل خاص. نحتاج إلى استراتيجية قومية لمواجهة الأمراض النفسية والذهنية في مصر. استراتيجية تنطلق من اقتناع الدولة بأن المرض النفسي هو في النهاية مرض، وبأن توفير سبل العلاج من المرض النفسي ضرورة وليست رفاهية. ولكن لماذا استراتيجية قومية؟ لأن الاهتمام بالصحة النفسية في مصر يحتاج إلى أكثر من تقديم خدمات. نحن نتحدث عن ضرورة التعامل بجدية مع الوصم المجتمعي فيما يخص المرض النفسي. وبالمناسبة، ذلك الوصم ليس حكرا على طبقة أو فئة بعينها، بل المؤسف أن ذلك الوصم يسكن كل الطبقات الاجتماعية في مصر تقريبا. إذا وضعنا الوصم الاجتماعي جانبا، نجد التكلفة العالية نسبيا (وهو أمر منطقي بالمناسبة لنكون منصفين) للخدمات المرتبطة بالصحة النفسية والذهنية. باختصار، ثمن جلسة العلاج النفسي ليس بالقليل، أو على الأقل ليس الثمن الذي من الممكن أن تخصصه أسرة مصرية من ميزانيتها لأجل أحد أفرادها بشكل مستمر. هذا يعني حاجة ماسة إلى فتح نقاش حقيقي عن الصحة النفسية في مصر. نقاش لا غنى فيه عن التعاون مع مؤسسات مجتمع مدني من أجل سد الفجوة المرتبطة بخدمات الصحة النفسية.

والانتحار ليس انحرافا

أعلم أن هناك أكثر من خط ساخن في مصر لتقديم مشورات ومساعدات نفسية لمن يفكر في الانتحار، ولكن أتصور أننا في حاجة إلى أكثر من ذلك. من سنوات قليلة احتلت مصر مرتبة متقدمة للغاية بين غيرها من دول العالم العربي من حيث نسبة الانتحار. وهذه معلومة مرعبة في حد ذاتها. فبين الاحتفاء بالانتحار (باعتباره شجاعة) وبين محاربته (باعتباره كفرا وابتعادا عن الله) يتم تفريغ أي نقاش حقيقي عن الانتحار من محتواه. أفترض أننا بحاجة إلى مزيد من الخطوط الساخنة، مثلما نحتاج إلى أكثر من مجرد الخطوط الساخنة. نحتاج إلى وضع الانتحار في سياقه النفسي والاجتماعي والثقافي حتى نضع أيدينا على طرق علمية وآليات عملية تنقل النقاش حول الانتحار من الأخلاقية الواهية إلى المسؤولية المجتمعية.

وبالرغم من أن الصحة النفسية بشكل عام تحتاج إلى أن تصبح أولوية في مصر، إلا أن الانتحار على وجه الخصوص هو قصة أخرى. لماذا؟ أولا لأن تجريم الانتحار ووصمه يؤثر سلبا على محاولات الأفراد (سواء الذين يحاولون الانتحار أو ذويهم أو أصدقائهم) من طلب المساعدة. في كثير من الأحيان، يصبح الأمر أشبه بورطة قانونية قد تؤذي من يحاول تقديم العون. تكلفة المستشفيات بشكل عام والمستشفيات النفسية بشكل خاص تحتاج إلى مبالغ مالية لا يستهان بها، خاصة وأنه كثيرا ما يحتاج الأمر الى تدخل طبي ومراقبة من قبل متخصصين.

ما أفضل طريقة لعمل إرهابي في المنزل؟

مازلت أحاول حتى الآن استيعاب حقيقة أن مراهقا يبلغ من العمر 13 عاما اغتصب طفلة في أحد المولات التجارية في مصر. أو أن هناك من كان يحاول جمع تبرعات لـ(محمد عادل) قاتل الطالبة (نيرة أشرف) حتى يمكن للمحامي الشهير (فريد الديب) الدفاع عنه. أحاول استيعاب كل هذا العنف بتطرفه وتطرف منطقه في الوقت نفسه الذي يحاول الكثيرون اقناع هذا المجتمع بأن الميول الجنسية والهويات الجندرية المختلفة عن السائد هي الخطر الذي يستدعي أن توليه الأسرة المصرية اهتمامها.

المراهقة سن شديد الحساسية والخطورة، خاصة وأنه السن الذي يشهد ميلاد الكثير من الرغبات والميول والتجارب التي تساهم بشكل أساسي في تشكيل شخصية الفرد. التقليل من حساسية هذا السن أو الاهمال من قبل المجتمع في التعامل مع هذا السن بجدية قد يؤديان إلى نتائج مخيفة حقا. أسمع حكايات كثيرة من أصدقاء وصديقات عن أقارب مراهقين واقعين في هيام شخصيات مثل هتلر النازي أو صدام حسين أو بن لادن أو غيرهم من الشخصيات الفاشية. هذا الهيام ليس أمرا عابرا وإنما هو تعبير من صاحبه عن موقف ما تجاه أسرته أو مجتمعه، وبالتالي لا يمكننا تجاهل هذا الموقف. أتصور أننا نعلم الآن جيدا أن المراهقين والمراهقات في مصر ليسوا في حاجة إلى مواعظ وخطب أخلاقية رنانة، مثلما نعلم جيدا أن العالم حقا أصبح رهن لمسة من يدهم وبالتالي محاولات بعض الأسر فرض اختيارات بعينها على أبنائها وبناتها من المراهقين والمراهقات هو درب من دروب العبث. إذن ما العمل؟ أتصور أن الإجابة تحتاج إلى فتح الباب لنقاشات مجتمعية حقيقية عن سن المراهقة في مصر. نقاشات لا تخجل من الحديث عن الكرامة الجسدية أو الحريات الشخصية. والأهم من ذلك أن تكون نقاشات هدفها فهم أبنائنا والتحاور معهم وليس محاولة فرض قوة أو استعراض لها.


طارق مصطفى

كاتب وباحث في قضايا العنف المبني على النوع الاجتماعي