كيف وصلنا إلى ما وصلنا إليه؟

قيل الكثير، وأغلب ما قيل صحيح، عن ارتباط المصاعب التي يواجهها الاقتصاد المصري حاليا بتعاقب الصدمات الاقتصادية الخارجية لا سيما وباء كورونا وحرب أوكرانيا. كما شرح الخبراء والعارفون ما تركته مجموعة السياسات الاقتصادية التي اتبعتها مصر على مدى السنوات الأخيرة من آثار على قدرة الاقتصاد المصري على النمو المتواصل وعلى تحمل مثل هذه الصدمات.

فرغم ما حققته من نجاح -فى البداية- إجراءات الإصلاح التي صاحبت اتفاق 2016 مع صندوق النقد الدولي، والتي استهدفت استعادة التوازن النقدي والمالي المفقودين، وتثبيت المؤشرات الاقتصادية الكلية، من خلال تعديل سعر الصرف والفائدة لضبط وضع ميزان المدفوعات والتضخم والاحتياطي النقدي، وزيادة إيرادات الحكومة وخفض نفقاتها للسيطرة على عجز الموازنة (الإصلاح الكلي)، فإن الأيام أثبتت أنها لم تكن -على أهميتها- كافية وحدها لتغيير حال الاقتصاد.

ذلك أن التجربة أكدت ما نبه إليه الخبراء مرارا وتكرارا، من أن الإصلاح “الكلي” لا يمكن أن ينجح ويستمر دون أن يصاحبه إصلاح هيكلي، أو ما يسمى عن حق بإصلاح “الاقتصاد الحقيقي”، والمتمثل في الأنشطة الإنتاجية من تصنيع وزراعة وخدمات منتجة، لأنها وحدها الكفيلة بإضافة فرص عمل دائمة، ورفع مستوى المعيشة، وإحداث تحسن دائم في الوضع الخارجي للاقتصاد (الفارق بين الصادرات والواردات من السلع والخدمات)، وبالتالي تقوية الأسس التي تستند إليها المؤشرات الكلية. فالإصلاحات الكلية ليست إلا إجراءات قصيرة- الأجل لتثبيت الاقتصاد وتخفيف حدة لحظات الاضطراب وتمكين الدولة من الوفاء بالتزاماتها تجاه الدائنين بشكل مؤقت، أى إنها فقط ضرورية مثلما يحتاج الجراح إلى ضبط درجة حرارة المريض، ومعدل السكر والضغط ليمكنه إجراء الجراحة بنجاح ودون تعريض حياة المريض إلى الخطر.

كما أصبح واضحا أن انصراف السياسات العامة إلى مشروعات إنشائية ضخمة لا يؤدي إلى إنتاج أو دخل أو فرص عمل دائمة فى أجل معقول، بل إنه يستقطب تركيز المؤسسات العامة والموارد المالية والبشرية التي تحتاجها الأنشطة الإنتاجية، خاصة مع الاعتماد الزائد على الاقتراض، دون توليد ما يكفي من الدخل للسداد، وهو ما يؤدي إلى زيادة هشاشة الاقتصاد في مواجهة الصدمات الخارجية، بدلا من تقوية مناعته.

والواقع أن مصر سبق لها أن واجهت نفس الدورة مع كل برنامج إصلاح كلي، كما حدث في 1991 و2003 و2016، حيث حققت تحسنا ملحوظا في مؤشراتها الكلية، وتدفقات مالية وفيرة، لكنها عادت كل مرة بعد عدة سنوات لتواجه نفس المشكلة (2003 و2016 و2022)، وذلك لأن برامج الإصلاح لم تحدث التغييرات الضرورية في الاقتصاد الحقيقى.

وكما حدث في كل الأزمات السابقة، سارعت الحكومة هذه المرة أيضا إلى التفاوض مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض جديد، ومحاولة تدبير تدفقات مالية خارجية، سواء من دول الخليج أو من أسواق المال أو من مؤسسات التمويل الدولية، على أمل أن يؤدي ذلك إلى أن تمر الأزمة ويستعيد الاقتصاد عافيته سريعا كما حدث في المرات السابقة.

إلا أن هناك ما يكفي من الأسباب للاعتقاد بأن هذه الوصفة لم تعد تكفي حتى لشراء بعض الوقت من الاستقرار الاقتصادي على نحو ما جرى في السابق. فنحن لسنا بصدد عاصفة عابرة كالتي عهدناها، والتي سرعان ما تعود الأمور بعدها إلى سيرها السابق بمجرد اتخاذ مجموعة الإصلاحات المعهودة، وتوظيفها فى جذب تدفقات مالية خارجية، في شكل استثمارات، وقروض من مؤسسات تمويل دولية أو من الدول الصديقة، خاصة العربية، أو من أسواق المال.

***

لكن قبل التطرق للحديث عن أسباب اختلاف الأزمة الحالية عما سبقها، والسياسات التي يلزم اتباعها لمواجهة الواقع الجديد، يصح أن نتعرض أولا بإيجاز لماهية إصلاح الاقتصاد الحقيقى الذى تحتاجه مصر، والتي أعتقد أن قصور التعامل معها على مدى العقود الماضية -بغض النظر عن الشعارات المعلنة- تسبب في بقاء الاقتصاد المصري يراوح مكانه من حيث وضعه بين اقتصادات العالم، ومن حيث تركيبته ومستوى التصنيع فيه، والقيمة المضافة المحلية التي يولدها، والقدرات التكنولوجية التي يمتلكها، ومستوى معيشة السواد الأعظم من السكان، وهى أمور تمثل جوهر أداء الاقتصاد والغاية الحقيقية للسياسات الاقتصادية.

ورغم أن هذه السياسات سيكون لها آثار اجتماعية إيجابية من حيث التوظيف ورفع مستوى الموارد البشرية وجودة الحياة، وهو ما يخفف من وطأة الإصلاحات الكلية على الفئات الأضعف والأفقر، فإنها لا تكتمل إلا بمجموعة سياسات مصاحبة بالغة الأهمية، فى مقدمتها السياسات الاجتماعية والبيئية، والثقافة والإعلام، والتي يصعب التعرض لها بشكل وافٍ وعادل فى هذا السياق.

ويمكن هنا تلخيص ما تحتاجه مصر الآن، والذي أخفقت فى إعطائه مكانته الصحيحة فى برامج الإصلاح السابقة، في المفاتيح السبعة التالية:

الأول: الارتقاء بالموارد البشرية، لتصبح مؤهلة للعمل في العصر الحديث، وقادرة على الابتكار والمبادرة، وليصبح المواطن مستهلكا رشيدا متوازنا، من خلال الارتقاء بالتعليم بكل أنواعه، وبرامج التدريب، والرعاية الصحية، ونشر قيم العمل السليمة، ومقاومة الظواهر الاجتماعية التي تخلق إنسانا مضطربا مشوشا متواكلا قليل الفائدة للمجتمع أو في العمل.

الثانى: رفع كفاءة الجهاز الحكومي، حيث لا توجد سابقة لمشروع تنموي ناجح دون جهاز حكومي كفء ونزيه. وهذا يتعلق بمعايير اختيار العاملين، والأجور، والتدريب، ومنهج الترقي واختيار القيادات، وتحديث المؤسسات من حيث نظام عملها ومن حيث حالتها المادية، وتعميق التعاون والتكامل بين المؤسسات.

الثالث: إطلاق حرية المبادرة للأفراد والقطاع الخاص، أي ما يزيد عن ثلثي النشاط الاقتصادي، في قرارات الادخار والاستثمار والعمل والإنتاج والاستهلاك والمبادرة والابتكار، وهي مهام لم تنجح فيها الحكومات بشكل مستدام قط في أي تجربة، بل إن تدخلها يشوه ويزاحم القطاع الخاص بخلق مناخ منحاز للحكومة على حساب المنافسة العادلة، وبالتالي يحرم المجتمع من مبادرات وأفكار المستثمر الخاص، فلا تبقى إلا الروح البيروقراطية والقطاع الخاص الباحث عن الربح السريع. يتطلب ذلك أيضا تجنيب القطاع الخاص الكثير من التدخلات الحكومية الضارة، وتحميله برسوم وتكاليف واشتراطات غير ضرورية أو غير منضبطة أو صورية، تعطل عمله وتفتح باب الفساد.

الرابع: إصلاح القطاع الخاص من خلال أدوات ضريبية وتشريعية ولائحية تفرض عليه زيادة شفافيته، ووضع حوافز لتشجيع المشروعات على التوسع والتحول إلى شركات مساهمة، ومقاومة التشبث بنمط المشروع العائلي. وكذلك وضع سياسات تقوي القطاع الخاص وترفع درجة تنافسيته، مع إخضاع الشرائح العالية من الأرباح لمعدلات ضريبية أعلى.

الخامس: التوسع في جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، التي تضيف إلى الطاقة الإنتاجية القائمة، لسد فجوة الموارد التي تعانيها مصر، واحتياجها للمعرفة التكنولوجية والصناعية والإدارية والارتباط بشبكات التوريد والتوزيع والتمويل العالمية التي يأتي بها الاستثمار الأجنبي المباشر، ولتقليل الاعتماد على الاقتراض، ليس فقط لتجنب آثاره المدمرة، وإنما أيضا لأن مصر استنفدت بالفعل الجانب الأكبر مما يمكنها اقتراضه.

السادس: إعطاء الصناعة الأولوية الأولى، لتكون قاعدة صلبة للاقتصاد قادرة على الصمود في مواجهة الأزمات، وللحد من الاعتماد على مصادر الدخل والنمو الهشة أو المتقلبة أو قصيرة العمر مثل السياحة وغالبية أنواع الخدمات وتحويلات العمالة في الخارج وعائدات البترول والغاز.

السابع: توفير مناخ داعم للنمو، وهو ما يشمل، بجانب الأمور التى أخذت جل الاهتمام فى السابق، مثل الأمن، والاستقرار المالي والنقدي، والبنية الأساسية، أمورا بنفس الأهمية، مثل كفاءة ونزاهة المناخ القانوني، وغياب أسباب التوتر والانقسام والاحتقان السياسي التي قد تؤذن باضطراب مستقبلي، وحياد الجهاز البيروقراطي بين الفاعلين الاقتصاديين.

***

ما سبقت الإشارة إليه من سياسات، سواء تلك التي تتعلق بالاقتصاد الكلي، أو التي تتعلق بالاقتصاد الحقيقي، هي أسس ضرورية، بل وجوهرية، لنجاح أي سياسة اقتصادية لمصر، مثلها مثل المحركات بالنسبة للسفينة، لكنها -رغم أهميتها الكبرى- ليست كافية وحدها لإحداث النهضة، ما لم يسبقها قراءة دقيقة للواقع السائد للاقتصاد الداخلي والخارجي، الذى يمثل المناخ الذي تتحرك فيه سفينة الاقتصاد، وما لم توضع في إطار رؤية لما يراد أن يكون عليه الاقتصاد مستقبلا، واستراتيجية اقتصادية وتنموية مفصلة تتفاعل مع حالة الاقتصاد الداخلي وواقع الاقتصاد العالمي، لتكون بمنزلة الخريطة والبوصلة والدفة والتوجيه فى تلك السفينة، لتمكنه من الاستفادة مما يأتي من فرص، وتجنب أو تجاوز ما يطرأ من تحديات وصعوبات، ليصل إلى الأهداف التي يقصدها. وهذا ما سيتم التعرض له في الحلقتين التاليتين.


أيمن زين الدين – قانوني وسفير سابق