كنت طفلًا في السبعينيات من القرن الماضي، وفي القرية كان عليَّ بالطبع أن أقطع كل المسافات سيرًا على الأقدام، وأن أذاكر دروسي وسط الحقول على جسر الترعة أو تحت الأشجار وأحيانا فوقها. تعلمت صداقة الأشجار، وعقدت علاقة وثيقة مع بعضها، ولا أنكر صلاتي القديمة بالقرود، كنت تقريبًا مثلهم، أُعَلم كل مكان في القرية بشجرة ما، وأحصي الأشجار على الطريق.
على بعد أمتار من بيتنا، وأمام مضيفة العائلة تجد أول الأشجار، شجرة البونسيانا، وفي الاتجاه الآخر، توجد شجرة التوت أمام دوار الجبيلي، بعدها بأمتار قليلة، وبجوار باب المسجد القديم، تجد شجرة الكافور، وبعد مائة متر تقريبا، وفي جوار حائط الكنيسة ستجد نخلة وشجرة توت وشجرتي ورد، وفي نهاية الطريق على جسر الترعة قبل الكوبري المؤدي إلى كفر الشهيد توجد شجرة الصفصاف العزيزة على قلبي.
وعندما اضطررت لمغادرة قريتي للدراسة أولًا ثم للعمل فيما بعد، توقفت عن إحصاء الأشجار على الطرق، لأن عواميد الكهرباء وخطوط الضغط العالي أصبحت أكثر بكثير من الأشجار. لم أغب طويلًا عن قريتي، لكني عندما عدت إليها هذه المرة، لم أجد أشجار البونسيانا ولا التوت ولا والكافور، حتى شجرة الصفصاف العزيزة على قلبي، اختفت في ظروف غامضة.
ليست أشجار قريتي فقط هي التي تختفي، فأشجار العالم عمومًا تتناقص عددًا ونوعًا، ومعدل انقراض الأنواع النباتية يتزايد، وثلث أشجار العالم حاليًا معرضة للخطر. وقدم “الاتحاد الدولي للحفاظ على الطبيعة” أول “قائمة حمراء” للحيوانات والنباتات المعرضة للخطر في الستينات من القرن الماضي. وتضمنت القائمة الأولى 30000 نوعًا نباتيا وسلالة حيوانية معرضًا لخطر الانقراض. في التسعينات أصدرت حركة “إبطاء الطعام” (Slow Food) الإيطالية نسخة محدثة من القائمة الحمراء المهددة بالانقراض مخصصة للغذاء فقط، أطلقت عليها اسم “فلك المذاق” (Ark of Taste). وتحتوي هذه القائمة الحمراء حاليًا على 5312 نوعًا من الأغذية النباتية والحيوانية المهددة بالانقراض في 130 دولة من دول العالم.
في كتابه “إنقراض ما هو صالح للأكل”: أندر الأغذية في العالم ولماذا نحتاج إلى إنقاذها”- يستعرض الصحفي البريطاني المتخصص في الغذاء، دان سالادينو، قصص أكثر من أربعين نوعًا من النباتات الصالحة للأكل المهددة بالانقراض، وتشمل القائمة أنواعًا من الحبوب والبن والكاكاو، وأنواعًا من المحاصيل الرئيسية كالذرة والبطاطس، وغيرها. وهنا ثلاث أمثلة على هذه النباتات.
المثال الأول من آسيا، ففي منطقة ميجالايا بشمال شرق الهند، اعتاد المزارعون لقرون زراعة نوع من الحبوب يسمى الدخن، أو الجاورس، المعروف باسم رايشان (Raishan). والدخن هو أنواع من الحبوب الغنية بالعناصر الغذائية التي تشبه القمح، لكنها أكثر قدرة على مقاومة آفات وأمراض النبات. لزمن طويل، كانت سلسلة العمليات كثيفة العمالة، لزراعة الدخن وحصاده وطحنه ومعالجته، توفر للناس الغذاء وفرص العمل في نفس الوقت.
لكن المستعمرين البريطانيين لم يدركوا الصفات الفريدة للدخن وقدرته على الصمود، واستبدلوه به أنواعا مختلفة من القمح والمحاصيل النقدية. توقف الكثيرون عن زراعته، وأصبحوا -مثل ملايين الهنود- يعتمدون على نظام التوزيع العام، الذي توفر من خلاله الدولة للأسر الفقيرة المواد الغذائية المدعومة مثل الأرز والقمح والسكر. واستمر التراجع في زراعة الدخن في فترة ما بعد الاستقلال، ومع التوسع في زراعة الأرز والثورة الخضراء، أوشك الدخن على الانقراض.
المثال الثاني هو نوع من البن يسمى ستينوفيلا، وكان قد تم تسجيل هذا النوع لآخر مرة في سيراليون بغرب أفريقيا في الخمسينات من القرن الماضي، وأدت الحرب الأهلية وإزالة الغابات على نطاق واسع إلى دفع هذه الأشجار إلى حافة الانقراض. بحث علماء النبات وخبراء القهوة عن هذه الأشجار لسنوات، حتى عثروا في عام 2018 على عدد قليل منها في سيراليون، وأعادوا زراعة الشتلات ليحصلوا على بضعة جرامات من البن بعد عامين، وفي أغسطس 2020 اجتمع في لندن فريق من علماء النبات وخبراء القهوة، للاحتفال بتناول الرشفات الأولى من قهوة ستينوفيلا التي كان يعتقد أنها ضاعت إلى الأبد.
تكمن أهمية هذه القهوة في أنه، على الرغم من وجود 130 نوع من البن تم تحديدهم حتى الآن، يعتمد العالم على نوعين فقط، هما أرابيكا وروبوستا، وكلاهما عرضة للتأثر بتغيرات المناخ. النوع السائد هو أرابيكا، ويزرع على ارتفاعات عالية نسبيا، ومناسب لدرجات حرارة حول 19 درجة مئوية، ومذاقه جيد، لكن تقلبات درجات الحرارة، تزيد من فرص إصابة الأشجار بالأمراض، خصوصا الأمراض الفطرية، كصدأ أوراق البن، الذي يهدد المحصول ويقلل الإنتاجية. أما النوع الثاني روبوستا، فمذاقه أقل جودة، وينمو على ارتفاعات أقل نسبيا في المناطق الاستوائية الرطبة في أفريقيا، وهو أيضًا عرضة للإصابة بأمراض النبات وفشل المحاصيل.
المثال الثالث هو نوع من الفانيليا البرية يعتمد عليها مجتمع كالونجا سكان منطقة سيرادو الغنية بالتنوع الحيوي في وسط البرازيل. يعتمد هؤلاء على الأرز والفاصوليا والسمسم، وأيضًا على نباتات برية من بينها هذا النوع من الفانيليا، التي تنمو متسلقة على أشجار أخرى، وتنتج قرونا تشبه قرون الخروب، لكن أكبر قليلًا. عادة ما يتم حصاد المحصول في الربيع، وعلى الرغم من خبرة السكان الطويلة بالحصاد، إلا أن الحصول على قرون الفانيليا ليس مضمونا دائما، لأن بعض القرود المحبة للفانيليا تنافسهم عليها.
لكن، لا الناس ولا القرود، هما السبب في كون هذه الفانيليا مهددة بالانقراض، السبب هو الشركات الزراعية وشركات التعدين. من أجل مشروعات التعدين، أو زراعة فول الصويا اللازم لصناعة الأعلاف تربية الماشية وإنتاج اللحوم، تقوم الشركات بإزالة الأشجار والغابات الضرورية لنمو أشجار الفانيليا، ويؤدي تغيير استخدام الأراضي على هذا النحو، إلى تدمير أشجار الفانيليا، وبالتالي، فقدان التنوع في المنطقة، وتدمير سبل عيش الناس والقرود- على الأقل.
النظم البيئية شبكة معقدة جدا، تتكون من النباتات والحيوانات والحشرات والطيور والكائنات الحية الأخرى، التي تتعايش وتعمل معًا، وتعتمد على بعضها البعض، وفقدان جزء أو نوع من هذه الأنواع يمكن أن يكون له تأثيرات هائلة على النظام البيئي الاجتماعي بكامله. والانقراض يولد الانقراض، يؤدي فقدان التنوع النباتي إلى تأثير دومينو خطير، لأنه يؤدي بدوره إلى فقدان التنوع في الحيوانات والطيور والحشرات إلخ، ويجعل النظم البيئية والاجتماعية أكثر هشاشة وأقل مرونة في مواجهة تغيرات المناخ والظروف الجوية المتطرفة والكوارث المناخية والسياسية، وبالتالي، يعرض صحة الإنسان وسلسلة الغذاء بأكملها للخطر.
نحن في لحظة فارقة في تاريخ الغذاء، وفي سباق مع الزمن لحماية الأنواع المهددة بالانقراض واستعادة التنوع الحيوي، إن حماية الأنواع والسلالات المهددة بالانقراض، ليست ضرورية لحماية البيئة واستعادة المناظر الطبيعية الجميلة فقط، لكن أيضًا لضمان أمن الغذاء والدواء وصحة الإنسان، ويمكن أن تكون وسيلة فعالة لمواجهة تغيرات المناخ. لكنها، وقبل كل ذلك، ضرورة عملية وأخلاقية، لحماية الأنواع الحية الأخرى على الأرض من نهم الإنسان الحديث للطعام ونظامنا الغذائي الغبي.
إن إنقاذ قهوة ستينوفيلا ليس ضروريا لعشاق القهوة فقط، لكنه ضروري لمحصول البن في العالم، وضروري لنا جميعًا، خصوصًا إذا تعرض محصول أرابيكا الرئيسي للانهيار مرة أخرى. حدث ذلك التراجع الحاد في محصول أرابيكا من قبل لمرتين. كانت الأولى في القرن التاسع عشر، وانخفض المحصول بشكل كارثي في جميع أنحاء جنوب آسيا. وكانت المرة الثانية في عام 2014 في دول أميركا الوسطى.
أدى نقص المحصول في الحالتين إلى انخفاض كبير في دخول الأسر، وتأثرت حياة الملايين من المزارعين، وتعرضت سلاسل الإمداد للخطر، وانهارت اقتصاديات قائمة على البن، وأدى ذلك في بعض المناطق إلى موجات من الهجرة الداخلية والخارجية. في المقابل، تتميز ستينوفيلا برائحتها الذكية ومذاقها الرائع، لكن الأهم، هو أنها أكثر قدرة على تحمل درجات الحرارة المرتفعة وظروف الجفاف، وأكثر قدرة على مقاومة آفات وأمراض البن، لذلك، يمكن أن تكون ستينوفيلا بديلا مناسبا في حال تعرض المحصول الرئيسي لانهيار جديد لأي سبب كان.
وكانت إعادة زراعة الدخن هي الحل لمواجهة الأزمة الغذائية في عام 2007 في الكثير من القرى في شمال شرق الهند. وتوصلت دراسة حديثة إلى أن استبدال زراعة الأرز- كثيف الاستهلاك للمياه- بالدخن أو الذرة الرفيعة، يحقق عددًا من الفوائد: زيادة نسبة المغذيات في الدخن، تقليل استخدام المياه والطاقة، انخفاض غازات الاحتباس الحراري، وزيادة المرونة في مواجهة تغير المناخ. وأنه يمكن تحقيق كل هذه الفوائد، دون زيادة في الأراضي الزراعية، ودون فقدان سعر حراري واحد. الناس في شمال شرق الهند ينظرون الآن إلى الدخن على أنه يمكن أن يكون أحد الحلول الممكنة للعديد من مشكلات الغذاء في الهند-يقول كايل ديفيز الأستاذ بجامعة ديلاوير الأمريكية- المحرر الرئيسي للورقة-.
إن مشروعات استعادة التنوع الحيوي لا يجب أن تقتصر على حماية النهر والغابات الطبيعية فحسب، يحتاج الناس أيضًا إلى الحماية والدعم. وضمان سبل عيش الناس ضروري لحماية التنوع الحيوي في كل مكان في العالم. الطباخ البرازيلي الشهير، أليكس أتالا، يعمل في مشروع لتدريب سكان منطقة سيرادوا على تلقيح أشجار الفانيليا يدويا، وتحسين طرق الطحن والمعالجة، لزيادة الغلة. وصرح أتالا لموقع إي-360 التابع لجامعة ييل الأمريكية بأنه “يمكن للأسرة الواحدة أن تربح 50 دولارًا يوميًا من حماية الفانيليا، وهو مبلغ أكبر من مخصصات الرعاية الاجتماعية الحكومية، وأكبر من الأجور التي تدفعها الشركات الزراعية وشركات التعدين في المنطقة.
يدافع المزارعون في الهند وغرب أفريقيا والبرازيل عن التنوع الحيوي، لماذا؟
لأن حياتهم تتوقف على وجود هذه الأنواع، وانقراضها يهدد سبل عيشهم ويعني انقراضهم، ولو بعد حين. في كل مكان في العالم، يوجد أفراد وجماعات فلاحون وعلماء يناضلون لحماية الأنواع النباتية المهددة بالانقراض، فهل تنجح هذه الجهود المحدودة في وقف انقراض النباتات واستعادة التنوع؟ أم يستمر النظام الغذائي في تدمير التنوع وزيادة انقراض النباتات والحيوانات وصولًا إلى انقراض النوع البشري نفسه؟!