حراك شعبي انفجر في شوارع ليبيا آخذا في التمدد منذ مطلع يوليو/تموز الجاري. ومواجهات عسكرية في العاصمة طرابلس بين اثنين من المليشيات التابعة لحكومة الوحدة الوطنية. تبعها اشتباكات على الطريق الساحلي بين مليشيات موالية لرئيس الحكومة المكلفة من مجلس النواب -فتحي باشاغا. وأخرى موالية لعبد الحميد الدبيبة -رئيس حكومة الوحدة الوطنية.
حالة الغضب الشعبي ربما جاءت تعبيرا عن موقف الشعب الليبي من الوضع القائم في البلاد منذ سنوات متعاقبة. وسط أزمات يعانيها المواطن في شتى المجالات الاقتصادية والأمنية والاجتماعية. في ظل غياب شبه تام للخدمات التي يجب أن يحصل عليها المواطنون من الدولة ومؤسساتها. في مقابل فقدان الثقة بالكيانات منتهية الصلاحية والمتصارعة لتحقيق مكاسب خاصة بدعم من أطراف إقليمية ودولية.
هذا المشهد الملتبس والمعقد أثار الكثير من التساؤلات بشأن طبيعة الحراك الشعبي الأخير. فضلا عن إمكانية تطوره لقيادة عملية سياسية جديدة تنهي أدوار الكيانات والأطراف المتنازعة في الدولة التي تعاني أوضاعا غير مستقرة منذ 2012.
أسباب الانفجار الأخير في ليبيا
الحراك الشعبي الأخير الذي انحازت له قطاعات كبيرة من المواطنين في مناطق مختلفة من ليبيا جاء رغم محاولات البعثة الأممية أو الأطراف الدولية الفاعلة للسيطرة على الأوضاع هناك عند الحد الأدنى من الاستقرار. وذلك نظرا لعدم تحمل المشهد الدولي والإقليمي لأي انفجارات غير محسوبة من شأنها أن تزيد معاناة دول الإقليم ورعاتها الدوليين. لكن الأسباب الحقيقية وراء ما يمكن وصفه بأول ثورات بركان الغضب الشعبي الليبي جاءت نتيجة تراكمات.
وأولها:
1-حالة الانسداد السياسي وتعثر الاتفاق بين المجلس الأعلى للدولة ومجلس النواب على إنشاء قاعدة دستورية. وذلك في أعقاب جولتي القاهرة وجينيف. كانت بمثابة خيبة أمل وصدمة كبرى للذين كانوا يأملون في التوصل إلى اتفاق يهيئ الأجواء لانتخابات رئاسية وتشريعية تنهي حالة عدم الاستقرار والمراحل الانتقالية المؤقتة. التي تشهدها البلاد منذ سنوات والتي تفاقمت مؤخرا بسبب التنازع بين حكومتي “الوحدة الوطنية” و”الاستقرار”.
فجاء الحراك الأخير للتعبير عن رفض جميع الأجسام السياسية الحالية الموجودة في الساحة الليبية. وإنهاء المراحل الانتقالية المتعاقبة والتي تستفيد منها تلك الأجسام أكثر من أن يكون لها أثر في حلحلة الأوضاع المتعثرة في البلاد. خاصة بعدما تعلقت آمال الليبيين باتفاق وشيك في جينيف بشأن القاعدة الدستورية قبل أن تنهار تلك الآمال على صخرة عدم التوصل إلى اتفاق بشأن الجزئية الخاصة بمزدوجي الجنسية.
غليان في الشارع
2- صاحب فقدان الثقة بإمكانية أن تفضي العملية السياسية الراهنة بأطرافها الحاليين الى فوائد ملموسة للمواطنين، حالة غليان في الشارع الليبي أمام انهيار الخدمات وتردي الأوضاع المعيشية. فعادت انقطاعات التيار الكهربائي لفترات طويلة مع دخول الصيف. في وقت أغلقت فيه الحقول والمواني النفطية في الشرق والجنوب الليبيين. وهو الإجراء الذي جاء في ظل استغلال ذلك المرفق الحيوي الذي يمثل المصدر الرئيسي للدخل الليبي كورقة ضغط سياسي بين الأجسام المتنازعة دون أن تعبأ بتأثيرات ذلك على المواطنين.
توقف إمدادات النفط مع غلق الآبار والمواني خيم بظلاله على تراجع الاعتمادات المالية الموجهة لصالح خدمات وأمور أخرى متعلقة بحياة المواطنين. كان في مقدمتها رغيف الخبز وفشل الحكومة في تأمينه وتوفيره أمام الأزمة العالمية الناجمة عن الحرب الروسية الأوكرانية.
3-أمام الأوضاع الداخلية المنهارة سواء سياسيا أو خدميا وجد الليبيون أنفسهم مجرد ورقة في صراع بين أطراف دولية وإقليمية. رغم ما يملكونه من موارد وإمكانيات تؤهلهم ليكونوا لاعبا رئيسيا في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
ليبيا.. “البقرة الحلوب”
تعاملت الأطراف الدولية والإقليمية مع ليبيا باعتبارها “بقرة حلوبا” يجد فيها كل منهم حلا لأزماته الاقتصادية أمام تحول أنظار بعض الأطراف الغربية إلى قطاعي النفط والغاز الليبيين للفوز بامتيازاته. فيما توجهت أنظار بعض اللاعبين الإقليميين نحو كعكة إعادة الإعمار. بينما كان هناك صراع من نوع آخر يحمل طابعا سياسيا في إطار الصراع الأمريكي الروسي بشأن التنازع على مناطق النفوذ في القارة الأفريقية. خاصة بعدما وجدت موسكو لنفسها موطئ قدم في الأزمة الليبية عبر نشر قوات محسوبة عليها “فاجنر” في ليبيا وبالتحديد في منطقة الجفرة.
وفي سعي الأطراف الدولية والإقليمية لتحقيق أهدافها عمدت إلى استقطاب أطراف داخلية لجانبها تحرك من خلالهم المشهد وتوجهه حيثما كانت مصالحها.
من يقف وراء الحراك؟
ما إن بات الحراك الشعبي واقعا في الميادين والشوارع حتى تزايدت الأطراف التي قد تقف وراءه. ورغم إبداء الكيانات والأجسام السياسية والعسكرية كافة تفهمها للمطالب التي رفعها المحتجون فإن ذلك لم يخل من الإشارة باتهامات في مسعى لتشويه الحراك.
واعتبر رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، أنّ هناك من يريد التشويش ويستغل فئات معينة من الشعب لنشر التوتّر في المدن وحرق المباني والتهجم على المؤسسات. مشيرا إلى أنّ هناك من يريد اختراق المظاهرات بالاتصالات والخطابات والتسجيلات. بينما اتهم رئيس مجلس النواب -عقيلة صالح- أنصار النظام السابق بالوقوف وراء الحراك الشعبي واقتحام مقر مجلس النواب.
فيما ذهب المتحدث باسم الجيش الليبي -اللواء أحمد المسماري – قوات شرق ليبيا– إلى أن هناك أصابع إخوانية في الحراك. محذرا من “استغلال التيارات السياسية للأحداث والتظاهرات. وتحويلها إلى صراع مسلح لإعادة تدوير الفوضى”. وذلك رغم تأكيده على دور القوات المسلحة في حماية المتظاهرين.
مزيد من الارتباك في ليبيا
تسبب تعدد اللافتات المرفوعة خلال الاحتجاجات التي شهدها الشارع الليبي منذ مطلع يوليو/تموز في حالة ارتباك. خاصة بعدما رفع البعض صورا للرئيس المخلوع في ثورة فبراير/شباط معمر القذافي ونجله سيف. إضافة إلى ذلك طرحت عمليات التنسيق الموسعة بين منظمي الاحتجاجات والاتفاق على ارتداء سترات موحدة تساؤلات بشأن الجهات التي تقف وراءهم. في ظل رفض السياسيين وقادة الأجسام السياسية بالتسليم بأن الحراك نابع من محتجين ينتمون في غالبيتهم إلى الطبقات المحرومة والمتضررة جراء الأزمات المتلاحقة التي شهدتها البلاد على مدى عشر سنوات.
اجتماع اسطنبول واحتواء الغضب
في 13 يوليو/تموز الجاري وبعد أيام قليلة من اندلاع الحراك الشعبي فاجأ رئيس “حكومة الاستقرار” فتحي باشاغا الجميع بإعلانه أنه سيباشر عمله من العاصمة طرابلس. بدلا من سرت. وذلك رغم المحاولة الفاشلة التي لم تستغرق سوى سويعات قليلة في يونيو/حزيران الماضي. مؤكدا أنه هذه المرة “سيدخل طرابلس دون إطلاق رصاصة واحدة”. مشيرا إلى أن هناك تفاهمات بين بعض الأطراف داخل العاصمة ستساند دخوله دون اضطرابات.
بعدها بأيام قليلة وقعت اشتباكات دامية امتدت لأكثر من منطقة في العاصمة طرابلس بين جهاز الردع لمكافحة الجريمة المنظمة والإرهاب. وكتيبة ثوار طرابلس قبل أن يتسع نطاق الاشتباكات وينتقل إلى مصراتة بعد صدام بين القوة المشتركة التابعة لحكومة الدبيبة ولواء المحجوب المؤيد لحكومة باشاغا.
بدا واضحا أن إعلان باشاغا جاء استباقا لترتيبات تجري في الكواليس. ولكن هذه المرة بين خليفة حفتر قائد قوات الشرق الذي يعد داعمه الرئيسي ورئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة. ما يعني إزاحته من المشهد.
متى ينجح الحراك؟
التصعيد العسكري جاء في ظاهره نتاج خلافات بسيطة بين المليشيات. لكن أسبابه الحقيقية تكمن في التحركات السياسية والاتصالات السرية لقادة الأجسام السياسية والعسكرية. خاصة بعدما شهدت مدينة إسطنبول التركية مباركة دولية خلال الاجتماع الذي جرى هناك وضم مسئولين بارزين ممثلين عن مصر وإيطاليا وفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة وبريطانيا. لتفهامات جرت بين الدبيبة وحفتر بشأن إقالة رئيس المؤسسة الوطنية اللبيبة للنفط مصطفى صنع الله مؤخرا. وتعيين فرحات بن قدارة ضمن اتفاق يشمل دفع مستحقات متراكمة على المؤسسة العسكرية في شرق ليبيا. وفك التحالف مع فتحي باشاغا ودعم مجلس النواب في الشرق لتعديل حكومي سيجريه الدبيبة على حكومته. ما يعني إسقاط الشرعية تماما عن باشاغا وحكومته.
ختاما يمكن القول إن تجدد الثورة في ليبيا عبر الحراك الشعبي -وإن كانت مقوماتها متاحة الآن بتردي الأوضاع السياسية والمعيشية- فإن هناك عوامل أخرى حاكمة يتوقف عليها الأمر. أولها امتلاك القائمين على الحراك لمشروع قابل للتنفيذ. وأن يكون جزءا من المبادرة والعمل السياسي لا مجرد محرك فقط.
ثاني تلك العوامل هو البعد الخارجي وإمكانية الموازنة بين ما يحتاج إليه الداخل وبين مصالح الخارج بحيث يفضي التنسيق إلى وضع سياسي جديد.