بعد يومين فقط من نجاح “الضباط الأحرار” في إنهاء حكم أسرة محمد علي والسيطرة على مقاليد الأمور، فرض مجلس قيادة الثورة الرقابة على الصحف، وأصبح الحصول على أمر كتابي شرطا لإجازة نشر أي صحيفة، ومن لا يلتزم بتعليمات الرقيب تُصادر دوريته ثم تُعطل نهائيا في حال تكرار المخالفة، وفقا للأمر العسكري رقم 39.

احتجت الجماعة الصحفية حينها على إجراءات الرقابة التي فرضتها الثورة، وإزاء تلك الاحتجاجات أعلن مجلس قيادة الثورة في 31 يوليو/تموز 1952 إلغاء الرقابة، وأشار في بيان له أن سيعتمد على “ضمير الصحفيين وقدرتهم على التمييز بين ما يجب أن ينشر أو لا ينشر”، مؤكدا أنه لن يسمح بالهجوم على الثورة وأهدافها.

ورغم صدور هذا البيان ظلت الرقابة قائمة حتى 12 أغسطس 1953، وسرعان ما أُعيدت مرة أخرى في أكتوبر من ذات العام بالأمر العسكري رقم 52، لأسباب تتعلق بـ”حماية النظام والأمن العام”.

سادت حالة من التوتر والقلق وانعدام الثقة بين الضباط الشباب الذين سيطروا على الحكم وبين الجماعة الصحفية، وفيما توالت قرارت مصادرة الصحف واعتقال الصحفيين، تصاعدت شكاوى الجماعة الصحفية احتجاجا على تقييد حرية الصحافة.

مجلة “روز اليوسف” تصدت للتعبير عن قلق الصحفيين واحتجاجهم مطالبة بضرورة رفع الرقابة، وكتبت مالكة الجريدة السيدة فاطمة اليوسف مقالا تطالب فيه جمال عبد الناصر بتخفيف القيود على حرية الرأي والتعبير.

“أتعتقد أن الرأي يمكن أن يكون حرًا حقًا وعلى الفكر قيود؟.. وإذا فُرض وترفقت الرقابة بالناس، واستبدلت حديدها بحرير، فكيف يتخلص صاحب الرأى من تأثيرها المعنوى؟.. يكفى أن توجد القيود كمبدأ ليتحسس كل واحد يديه.. يكفى أن يشم المفكر رائحة الرقابة، وأن يرى بعض الموضوعات مصونة لاتمس، ليتكبل فكره، وتتردد يده، ويصبح أسيرا بلا قضبان”، قالت فاطمة اليوسف مخاطبة زعيم الثورة.

رد جمال عبد الناصر على مقال فاطمة اليوسف في خطاب نشرته “روز اليوسف” يوم 11 مايو 1953 قائلا: “لا أخشى من إطلاق الحريات، وإنما أخشى أن تصبح هذه الحريات كما كانت قبل 23 يوليو سلعا تباع وتشترى.. أنتِ لا تتصورين كم فُجعت لما أتيح لى أن أطلع فى وثائق الدولة على مأساة الحرية”.

واستعرض عبد الناصر بعضا مما اطلع عليه وقال: “لقد كان للحرية سوق وتجارة وكانت الحرية تضيق وتتسع بالأرقام.. وكانت الأفكار تنقلب طبقا للأسعار التى تُدفع فيها”. وأشار إلى أنه أراد “صون الحرية من هذا العبث”، مضيفا “نحن الآن فى سبيل إرساء الدعائم ووضع الأسُس التى تنهض عليها فى المستقبل حرية جديرة باسمها خليقة بمعانيها السامية مصونة من العبث مرتفعة فوق المساومات”.

وتسأل: “مع ذلك فأين هى الحرية التى قيدناها، أنتِ تعلمين أن النقد مباح وأننا نطلب التوجيه والإرشاد ونلح فى الطلب، بل إننا نرحب بالهجوم حتى علينا إذا كان يقصد منه إلى صالح الوطن وإلى بناء مستقبله وليس إلى الهدم والتخريب ومجرد الإثارة”.

كما شاركت في الحملة صحيفة “المصري” التي كانت مملوكة لآل أبو الفتح، مطالبة بإنهاء الأحكام العرفية، والتوقف عن ملاحقة واعتقال الصحفيين وأصحاب الرأي.

لم تتوقف محاولات السيطرة على الصحف، ودأب أعضاء مجلس قيادة الثورة على توجيه الاتهامات للصحافة كجزء من هجومهم على الأحزاب وقادتها خصوصا حزب “الوفد”، وبلغت الأزمة ذروتها عندما أثيرت قضية “تطهير الصحافة” من الصحفيين الذين كانوا يتقاضون “رواتب سرية” من السرايا أو الحكومات السابقة على الثورة، وشارك في تلك الحملة عدد من كبار الصحفيين ومنهم الأستاذ محمد حسنين هيكل الذي دعا إلى “تطهير بلاط صاحبة الجلالة”، وكتب في مجلة “آخر ساعة” التي كان يترأس تحريرها مقالا ينتقد فيه زملائه ويدعوهم إلى “تطهير أنفسهم قبل أن يدعوا إلى تطهير الآخرين”.

الكاتب والمفكر عباس محمود العقاد نحى نفس المنحى وطالب الحكومة بـ”فضح أصحاب الأقلام المسخرة والضمائر الخربة الذين تقاضوا رواتب سرية في عهد كل وزارة غابرة”.

في كتابها “تاريخ الصحافة المصرية.. دراسة تاريخية ومعاصرة” تقول الدكتورة عواطف عبد الرحمن أستاذ الإعلام في جامعة القاهرة إن “البداية الصدامية بين الثورة والصحافة ترجع إلى غياب تصور لدى الحكام الجدد يحدد كيفية التعامل مع القوى السياسية التي كانت آنذاك تتحكم في الواقع المصري بمختلف قطاعاته الاقتصادية والسياسية والإعلامية، ما أسفر عن العديد من الصدامات التي كانت الصحافة أبرز مجالاتها”.

وترى عبد الرحمن أن الأزمة تصاعدت نتيجة “الخلاف الجذري بين توجهات النخبة العسكرية الجديدة وحداثة تعاملهم مع رجال السياسية والصحافة، وبين هؤلاء الأخيرين الذين لم يتعودوا من قبل مواجهة هذا النمط من السلوك السياسي”.

ونتيجة لتلك الصدامات قرر الحكام الجدد إصدار صحف قادرة على التعبير عن فلسفة الثورة وتوجهاتها وخوض معاركها ضد خصومها السياسيين الذين كانوا يحتكرون العمل السياسي والصحفي في مجتمع ما قبل الثورة، والذين ظل بعضهم يتربص بنظام الحكم الجديد بل ووصل الأمر إلى أن بعضهم كان يستعدي القوى الأجنبية على الجمهورية الوليدة.

أصدرت الثورة مجلة “التحرير” كمجلة نصف شهرية تصدر عن إدارة الشؤون العامة للقوات المسلحة، ثم صدرت في ديسمبر 1953 جريدة “الجمهورية” عن “هيئة التحرير” وهو أول تنظيم سياسي استحدثته الثورة، قبل إعلان حل الأحزاب السياسية بيوم واحد فقط.

وبعد تفعيل قرار حل الأحزاب واختفاء الصحف الحزبية، استمرت الصحف ذات الملكية الخاصة مثل “الأهرام” و”أخبار اليوم” و”دار الهلال” و”روز اليوسف”، وظهرت صحف جديدة ناطقة باسم الثورة مثل “الثورة” و”الشعب”، ولاحقا “المساء”.

في بداية عام 1954 تصاعدت أزمة في البلاد بين فريقين، الأول يدعو إلى تشكيل جمعية تأسيسية لوضع دستور للبلاد وإجراء انتخابات نيابية وإلغاء الرقابة على الصحافة والنشر، والثاني يعتقد أن “الثورة مهددة بالانحلال والبلاد معرضة للعودة إلى الماضي البغيض إذا شرعت في تنفيذ تلك المطالب”.

خضع مجلس قيادة الثورة لمطلب الفريق الأول وقرر في مارس 1954 حل نفسه والسماح بانتخاب جمعية تأسيسية في 23 يوليو من نفس العام، إلا أن الخوف من الديمقراطية والتي قد تعيد الطبقة الإقطاعية التي أفقرت عموم الناس وهُزمت بفعل الثورة، دفع العمال والطلبة المؤمنين بمبادئ الدولة الجديدة إلى الإضراب والنزول للشوراع، وطالبوا باستمرار مجلس قيادة الثورة في مباشرة سلطاته وعدم إقامة أي انتخابات حتى جلاء المستعمر.

إثر حسم أزمة مارس لصالح الفريق الثاني الذي كان يمثله معظم أعضاء مجلس قيادة الثورة، مالت الصحف القائمة إلى مهادنة الحكام الجدد، عبرت عن توجهاتهم ودافعت عن سياستهم، إما قناعة بأفكار الثورة ومبادئها أو تزلفا لقائدها الذي حقق شعبية كاسحة إثر قرارته الاجتماعية والاقتصادية التي انحازت للأغلبية المعدومة المهمشة من الشعب المصري الذي ذاق مرارة الفقر والجهل والمرض وعانى ذل الاستعمار لنحو 70 عاما.

وكإحدى نتائج التحولات الاقتصادية والاجتماعية والتوجهات الاشتراكية التي بدأت في نهاية الخمسينيات صدر في مايو عام 1960 قانون تنظيم الصحافة الذي عُرف بقانون “تأميم الصحافة” والتي آلت بموجبه ملكية المؤسسات الصحفية الخاصة (الأهرام، وأخبار اليوم، ودار الهلال، وروز اليوسف) إلى “الاتحاد القومي” التنظيم السياسي الذي ورث “هيئة التحرير”.

قبل إصدار القانون التقى عبد الناصر بالكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل، وأسر له بنواياه، “لا نستطيع عقلا ولا عدلا أن أفرض سيطرة المجتمع على الاقتصاد ثم أترك لمجموعة من الأفراد أن يسيطروا على الإعلام، إنهم لا يسيطرون الآن عمليا لأن الثورة قوية، وذلك مجرد خوف، وأنا لا أثق فى خائف خصوصًا إذا تغيرت الظروف، ثم إن المرحلة الجديدة من التحول الاجتماعى تحتاج إلى تعبئة شاملة، وأعرف أن الموجودين الآن سوف يصفقون لأي قرار لكن المطلوب شيء آخر غير التصفيق”، يقول عبد الناصر خلال اللقاء.

أبدى هيكل مخاوفه من الخطوة المرتقبة وحاول إقناع عبد الناصر بأن تكون ملكية الصحف مشتركة بين التنظيم السياسى وبين جمعية العاملين فى كل دار صحفية %50 لكل فريق، “لم يقبل عبدالناصر وخرج باقتراح وسط، وهو انتقال الملكية إلى التنظيم السياسى وليس إلى الدولة واحتفاظ كل صحيفة بأرباحها داخلها، ثم توزيع هذه الأرباح مناصفة: نصف للتجديد والإحلال فى دور الصحف، ونصف لجمعية العاملين فى كل دار صحفية”، يقول هيكل في كتابه “بين الصحافة والسياسية”.

بإحكام سيطرتها بالكامل على وسائل الإعلام، وبفرضها قيودا غير مسبوقة على حرية الرأي والتعبير، فقدت جمهورية يوليو المرآة التي كان من الممكن أن تعكس لها عيوبها وأخطائها، فقدت البوصلة التي كان من الممكن أن تصوب توجهاتها، فقدت العدسة التي كان من الممكن أن تكشف لها حجم الترهل الذي ضرب مؤسساتها نتيجة “سيطرة الشلة وتقديم أهل الثقة على أهل الكفاءة”.

الإعلام التعبوي الذي نجحت دولة يوليو في صناعته بعد سنوات قليلة من قيامها، قاد إلى كارثة نكسة يونيو 1967، لم يشارك فقط في تغييب وعي الحشود الهادرة بل غيب أيضا الحقائق عن متخذ القرار وعزله عن أفكار وآراء مغايرة كان من الممكن أن تعدل مساره، حتى جاءت الطامة الكبرى واعترف عبد الناصر بعد الهزيمة بأن “الخوف وغياب الديمقراطية وسيطرة مجموعة مغلقة على كل ملفات الدولة وغلبة الصوت الواحد والرأي الواحد، قاد البلد إلى هزيمة كبرى”.

تكميم الصحافة وفرض الوصاية عليها وإرهاب أصحاب الرأي، هو في الحقيقة تغييب متعمد لمتخذ القرار قبل أن يكون تغييب لوعي المواطن.

كافحت ثورة يوليو حتى تحقق حلم الجلاء، وتمكنت خلال سنوات قليلة من تغيير التركيبة الطبيقة لمجتمع “النصف في المائة”، قضت على الإقطاع والاحتكار وسيطرة رأس المال، وأصدرت قانون الإصلاح الزراعي بعد أقل من شهرين على اندلاعها، حددت فيه حجم ملكية الأراضي الزراعية لتمنح الفلاحين الأُجراء الحق في حياة كريمة، بعدما ظلوا لقرون أشبه بالعبيد في إقطاعيات “العهد البائد”، قادت حركة التحرر الوطني في المنطقة ورسخت من مكانة مصر حتى صارت قوة إقليمية ذات ثقل.

رغم إنجازتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ضيعت جمهورية يوليو على البلاد فرصة تأسيس دولة ديمقراطية حديثة، تمتلك مؤسسات دستورية تحمي الدولة وتعمل على إرضاء الشعب وتحفظ الإنجازات القائمة حتى لو غاب القائمين عليها.. فهل تعي السلطة الحالية الدرس وهي تبشر ببناء “الجمهورية الجديدة”؟.

إذا أردات السلطة الحالية تأسيس “جمهورية جديدة” فعليها أن تنظر في الأسباب التي انتهت بتخريب مُنجزات الجمهورية الأولى، عليها أن تُنجز ما فشلت الجمهورية الأولى في إنجازه،  عليها أن تشرع في وضع قواعد الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة القائمة على تداول السلطة والتعددية والانتخابات النزيهة واحترام الدستور واستقلال السلطات، وقبل كل ذلك رفع القيود عن  الصحافة حتى تتمكن من القيام بواجبها في مراقبة أداء مؤسسات الدولة نيابة عن المواطنين.

للاطلاع على مقالات أخرى للكاتب.. اضغط هنا