الإبحار في محيط اقتصادي متقلب؟

كما بينا في الجزء الأول، فإن مصر تواجه اليوم أزمتها الاقتصادية الكلية على خلفية عيوب قديمة ومتراكمة ومعقدة في اقتصادها الحقيقي، لن يكون ممكنا لمصر تجاوز الأزمة الكلية بدون التعامل معها بحسم وفاعلية. إلا أن ما يزيد الأزمة تعقيدا أنها تتواكب مع واحدة من أكبر الأزمات التي يمر بها الاقتصاد العالمي، حيث يتزامن تراجع سريع وواسع في النمو مع ارتفاع حاد في التضخم، لم يعرف العالم مثيلا له منذ مرحلة التضخم المرتفع التي عصفت به بين سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، مهددا بما يسمى بالكساد التضخمي Stagflation، وهي ظاهرة اقتصادية بالغة الصعوبة والتعقيد، مقرونة -كما هو متوقع- بزيادة تحفظ رؤوس الأموال وبحثها عن ملاذات آمنة، وهو ما يأتي على حساب الدول النامية والمناطق ذات المخاطرة الأعلى.

يعنى ذلك أن فاتورة واردات مصر سترتفع، بينما ستتراجع قدرتها على جذب الاستثمارات، بل وعلى الاقتراض، الذي سيشح وسترتفع تكلفته. بعبارة أخرى، فإن التزام مصر ببرنامج اقتصادي “كلي” صارم لن ينتج عنه تدفقات مالية مثل تلك التى مكنت مصر من تجاوز الأزمات فى السابق. وحتى الوفورات التي ستتاح لدول الخليج نتيجة ارتفاع أسعار البترول لن يتدفق منها إلى مصر ما يكفي لسد الحد الأدنى من احتياجاتها، لأن هذه الدول أصبحت حريصة على اكتناز أكبر قدر من فوائضها أو استثمارها داخليا أو في الاقتصادات المتقدمة، استعدادا لمستقبل يبدو أقل إشراقا بالنسبة لها في المدى الطويل، ولأنها ستكون أقل استعدادا لدعم مصر ما لم تتلق مقابلا يتخطى ما يجوز أن تقبل مصر بدفعه. هذا يعني أن أهمية إصلاحات الاقتصاد الحقيقي ستتضاعف، لتعويض قصور تأثير الإصلاحات “الكلية”، لكي تتمكن مصر من اجتياز الأزمة الحالية، رغم أن الظروف ستجعل النجاح فيه أكثر صعوبة.

وصحيح أن هذه الأزمة ستأخذ مداها ثم سيعود الاقتصاد العالمي للاستقرار والنمو، إلا أن الاقتصاد العالمي الذي ستسفر عنه، والذي سيتحتم على مصر أن تجعله أساسا لسياستها التنموية، سيكون اقتصادا جديدا غير الذي عهدناه، نتيجة التحولات الكبرى التى يشهدها العالم، وما سينجم عنها من تغييرات عميقة فى نموذج التنمية الاقتصادية الذي ساد العالم منذ ثمانينات القرن العشرين، وحدد مسار النهضة الكبيرة التى حققها عدد غير قليل من الدول النامية. بعبارة أخرى، فإن التحدي الذي يواجه سياستنا الاقتصادية اليوم وفى المستقبل، لا يماثل أي شيء عرفناه، ولا يمكن علاجه بالسبل التى اعتدناها.

***

فعلى مدى العقود الأربعة الأخيرة منذ انتهاء الحرب الباردة، تطور ما اصطلحنا على تسميته عصر “العولمة الاقتصادية”، الذي شهد أكبر قدر من الحركة غير المقيدة لرؤوس الأموال والسلع والخدمات، والانتشار الواسع لمراكز الإنتاج وسلاسل القيمة Value chains فى كل أنحاء الأرض، سعيا وراء تعظيم الكفاءة الاقتصادية والربح قبل أي اعتبار آخر. أطلق ذلك موجة مد تنموي كبرى، ارتفعت بها العديد من الدول النامية التى أحسنت إدارة اقتصادها الكلي والحقيقي معا، فاندمجت في الاقتصاد العالمي، وتفاعلت بكفاءة مع العولمة من خلال توسيع مشاركتها في أنشطة التجارة والاستثمار والتصنيع العالمية، فكان أن صعدت إلى مواقع أرقى على سلم التنمية، حتى ارتفع متوسط نصيب الدول النامية مجتمعة من الصادرات والاستثمارات العالمية -بما فيها تلك التي تخلفت عن هذه الموجة- من أقل من الربع في مطلع ثمانينات القرن العشرين إلى ما يقرب من النصف في مطلع عشرينات القرن الحادى والعشرين.

ساعد على ذلك غلبة الاعتبارات الاقتصادية في تشكيل العلاقات الاقتصادية الدولية، وسيادة الاعتقاد، خاصة في الغرب، أن النمو والرخاء والتبادل الاقتصادي بين الدول، الناتجين عن تكثيف العلاقات الاقتصادية، كفيل بخفض أسباب الصدام، وتحقيق المزيد من التقارب والسلام على نحو ما حدث في غرب أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. كما توقعوا أن يؤدى هذا المسار الجديد إلى الحد من الضغوط المؤدية إلى الهجرة والجرائم عابرة الحدود (مثل تجارة المخدرات وأنشطة عصابات الجريمة المنظمة والإرهاب)، وتشجيع التحول نحو الديموقراطية واقتصاد السوق. وقد انعكس ذلك في الترحيب بالصين وروسيا في مؤسسات التعاون الاقتصادي الغربية مثل مجموعة السبعة، ومنظمة التجارة العالمية، ومجموعة العشرين، وتجسد في مبادرات التعاون الاقتصادي عبر المتوسط، وفي الأمريكتين، وفي آسيا والمحيط الهادى، والتي استهدفت تحقيق المصالح الاقتصادية، ومن خلالها تعزيز الاستقرار والأمن.

للأسف، ظلت مصر على حافة هذا المد الكبير، تتطلع دائما للحاق به وبهذه الدول التي صعدت معه، ولكن دون أن تستجمع مقومات الطموح الحقيقي لاقتحامه، وهو الطموح الذي ينبغي أن يعبر عن نفسه من خلال إرادة جادة للتغيير، وبلورة رؤية استراتيجية تنموية متكاملة، ثم القيام بالعمل الصعب اللازم لتطوير الاقتصاد الحقيقي وإكسابه التنافسية التي تجعله قادرا على جذب الاستثمار وتحقيق طفرة إنتاجية وتصديرية، ومن ثم الوصول إلى معدلات النمو الفائقة والمتواصلة التي شهدتها دول مثل الصين وكوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة وهونج كونج وشيلى وماليزيا، أو حتى مثل الهند والبرازيل وتركيا وتايلاند التي حققت تقدما جزئيا لكنه لا يستهان به. لهذا ظلت تعاني من الضغوط التي يخلقها هذا المناخ الاقتصادي الشاق، لكن دون أن تستفيد بما يتيحه من مكاسب.

***

على أي الأحوال، فإن عصر العولمة في سبيله إلى أن ينتهى، صعد معه من صعد، وفاته من فاته. واليوم، يقف العالم أمام مفتتح عصر اقتصادي جديد، لا زالت ملامحه تتشكل تفاعلا وتخطيطا وتطبيقا. فبدءا من الأزمة المالية التي بدأت عام 2007 وتداعياتها السلبية على معدلات حركة رؤوس الأموال، ثم صعود تيارات معاداة العولمة والقومية الاقتصادية من اليسار واليمين، خاصة على يد الرئيس الأمريكي دونالد ترمب والرئيس الصينى شى جينبينج، بدأت معدلات نمو التجارة والاستثمار على المستوى العالمي في التراجع، كما بدأت الأسس التي قام عليها النظام الاقتصادي العالمي من قواعد ومؤسسات وأعراف تهتز. ثم جاءت أزمة وباء كورونا، وكذلك توقف الملاحة القصير في قناة السويس، لتكتشف الدول المتقدمة أن هناك مخاطر فى طول سلاسل الإمداد، والاعتماد الزائد في تدبير احتياجات ضرورية من خامات ومدخلات ومنتجات رأسمالية واستهلاكية على مصادر بعيدة، يمكن بسهولة أن تتعرض للاضطراب لتسبب فى متاعب اقتصادية خطيرة.

إلا أن الغزو الروسى لأوكرانيا كان نقطة التحول الجذرية، بعدما أعاد الاعتبارات الاستراتيجية بكل قوة إلى قلب العلاقات الاقتصادية الدولية، بما فيها قرارات الاستثمار والاستيراد والتصدير، ليس فقط نتيجة تبادل الإجراءات الاقتصادية العدائية بين روسيا والدول الغربية، وإنما أيضا لأنه أكد بشكل حاسم الحاجة للتوافق بين علاقات الاستثمار والتجارة بين الدول من ناحية وبين علاقاتها الاستراتيجية، تحالفا أو اختلافا، من ناحية أخرى. بعبارة أخرى فإننا بصدد عصر تتخذ فيه الاعتبارات الاستراتيجية مكانة حاكمة في تشكيل العلاقات الاقتصادية، لتزاحم اعتبارات الكفاءة والربحية، سواء بغرض تأمين مراكز الإمداد والأسواق، وسرعة الوصول منها وإليها، أو الحد من المعاملات مع الخصوم المحتملين. فالحلفاء هم المصدر المأمون والسوق المضمون، وهم من يؤتمن على الاستثمارات التى يستضيفونها، ومن يُطَمْأن لاستثماراتهم. بينما يكون الخصوم معرضين -مع تصاعد وتيرة الخلافات والأزمات في هذا المناخ- لفرض عقوبات منهم أو عليهم، كما يمكن أن يسحبوا استثماراتهم فى الخارج أو أن يصادروا ما لديهم من استثمارات. وكل ما سبق يمكن أن تترتب عليه صدمات وخسائر اقتصادية ضخمة، تجعل من الواجب التحرك استباقيا لتجنبها.

ومن هنا تتضح ملامح عملية إعادة الهيكلة العميقة وطويلة الأمد التي يمر بها النظام الاقتصادي الدولي، والذي سيشهد قيام الدول والشركات الكبرى ذات الارتباطات عابرة الحدود، بإعادة توزيع سلاسل الإمداد والأسواق، والبحث عن مواقع أكثر قربا وأمانا لتدبير احتياجاتها من المواد الخام والسلع الوسيطة والمنتجات النهائية، أو ما يسمى بـReshoring، بعد أن كان شعار عصر العولمة هو السعي لنقل مراكز الإنتاج إلى حيث يكون الإنتاج أكثر كفاءة وربحية Offshoring، وبدأت تظهر مفاهيم مثل الاعتماد على مصادر توريد داخل الدولة Onshoring، أو الاعتماد على مصادر أقرب جغرافيا Near offshoring، كل هذا مع التمييز بين الحلفاء والخصوم بالمعنى السياسى الإيديولوجى للكلمة.

لا يعنى ما سبق أن دول الاتحاد الأوروبي مثلا ستسحب استثماراتها من الصين، أو أن الصين ستتوقف عن التبادل التجارى مع الولايات المتحدة. فالمصالح المرتبطة بتوزيع العمل الدولي الذي تشكل في عصر العولمة ضخمة، كما أن أحدا لا يمكنه يمكنه تحمل خسائر العودة الكاملة عنها من تراجع اقتصادي وتناقص في مستويات المعيشة. لكن ما سيحدث هو أن منحنى تشابك العلاقات الاقتصادية الدولية سيأخذ اتجاها متناقصا، وأن كثيرا من روابط الاستثمار والتجارة القائمة ستتحول إلى مواقع جديدة، وأن القرب الجغرافى والتقارب السياسى سيكونان فى قلب العلاقات الاقتصادية الدولية. كما أن ما سبق يعنى -وهذه نقطة بالغة الأهمية- أن معدلات نمو الاقتصاد العالمي ستصبح أبطأ مما شهدته العقود الأخيرة، وهو ما سيكون له انعكاسات واسعة تتخطى النطاق الاقتصادي. هذا هو السياق الخارجي الذي سيكون على مصر رسم استراتيجيتها الاقتصادية وتنفيذها فى إطاره، وهو ما سيتم مناقشته فى الجزء القادم والأخير.

أيمن زين الدين – قانوني وسفير سابق