ظل حلم امتلاك طاقة نووية يراود مصر منذ ستينيات القرن الماضي. لكنه تعرض للكثير من العراقيل لأسباب سياسية وإقليمية وأخرى اقتصادية، دعمتها التخوفات التي زادت بعد كارثة تشيرنوبل عام 1986، فضلًا عن سلسلة الأزمات التي واجهت الدولة بعد 2011. استمر ذلك حتى يوليو/تموز الجاري، حينما بدأت الحكومة المصرية أولى الخطوات على أرض الواقع نحو هذا الحلم؛ بصب الخرسانة للوحدة الأولى النووية في الضبعة.

في 2015، اتفقت مصر وروسيا على إنشاء محطة الطاقة النووية بالضبعة، التي تتكون من 4 مفاعلات نووية، بقدرة إجمالية 4800 ميجاوات مقسمة بالتساوي على كل وحدة، بتكلفة ستتراوح بين 25 و30 مليار دولار.

الـ 4800 ميجاوات التي ستتمكن من توليدها هذه المحطة تفرض تساؤلًا هو الأهم حاليًا: كيف للحكومة المصرية أن تستفيد من القدرات الكهربائية المتوقع دخولها من مشروع الضبعة في ظل الفائض الحالي بالشبكة القومية والمقدر بنحو 20%؟ ذلك إلى جانب التساؤل المشروع عن مدى احتمالية تأثير العقوبات المفروضة على روسيا -بسبب حربها على أوكرانيا- على الجدول الزمني لتنفيذ المشروع.

الرحلة إلى إذن إنشاء محطة الضبعة

في 30 يونيو/حزيران الماضي، وافقت مصر، بشكل رسمي، على منح إذن إنشاء الوحدة الأولى لمحطة الطاقة النووية في الضبعة، والتي تتعاون في تنفيذها مع روسيا. ذلك بعدما تلقت طلب الحصول على إذن إنشاء الوحدتين الأولى والثانية في يناير/كانون الثاني 2019.

خلال عامين، استكملت هيئة المحطات النووية إجراءاتها؛ بالتقدم بتقرير تحليل الأمان الأولي للوحدتين الأولى والثانية بداية من يناير/كانون الثاني 2021 وحتى نهاية يونيو/حزيران من العام ذاته.

وذكرت هيئة الرقابة النووية والإشعاعية أنها اتخذت الإجراءات اللازمة للتحقق من توافر أقصى درجات الأمان لهذا المشروع النووي. ذلك وفق أعلى المعايير الدولية، وعبر تأهيل العاملين بالهيئة لتنفيذ عملية المراجعة والتقييم عبر برنامج بناء القدرات. وقد شمل وضع طرق وأساليب المراجعة لكل فصل من فصول تقرير تحليل الأمان الأولي، وفقًا لإصدارات الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والمعايير المطبقة في روسيا.

كما تم إرسال نتائج المراجعة وتقييم المستندات إلى هيئة المحطات النووية لتوليد الكهرباء، التي أرسلت ردها على النتائج. الأمر الذي أعقبه زيارة تفتيشية لموقع المحطة للوقوف على مدى جاهزية الموقع لبدء الإنشاء.

وفقًا لنتائج المراجعة والتفتيش، تم التحقق من الأمان للوحدة الأولى من المحطة النووية لتوليد الكهرباء بالضبعة، ولم يثبت وجود مخاطر تهدد الإنسان أو البيئة أو الممتلكات.

مشروع محطة الضبعة
مشروع محطة الضبعة

إجراء حتمي لبدء التشييد

نائب رئيس هيئة المحطات النووية المصري السابق، علي عبد النبي، أوضح لـ “مصر 360″، أن منح إذن إنشاء الوحدة الأولى لمحطة الطاقة النووية “إجراء مهم في سبيل بدء إنشاء المحطة”. وهو يرى أن المشروع يسير وفق جدول زمني متفق عليه بين الجانبين المصري والروسي.

يقول إن المشروع لم يشهد تأخيرًا في الإجراءات إلى الآن؛ فالخطوات التي تمت على أرض الواقع، في ظل الأوضاع الراهنة المتعلقة بالحرب الروسية الأوكرانية تشير إلى التزام الجانب الروسي بالمخطط الزمني لتنفيذ المشروع.

تشغيل “الضبعة”.. تأخير قد يصل لـ4 سنوات أخرى

في مطلع شهر يوليو/تموز الجاري، أعلنت شركة “روساتوم” الحكومية الروسية للطاقة النووية، البدء في إنتاج معدات أول محطة مصرية للطاقة النووية في “الضبعة”، بالتزامن مع زيارة وفد مصري رفيع المستوى إلى موسكو.

ودخلت العقود الموقعة بين مصر وروسيا حيز التنفيذ عام 2017. ووفقها، يلتزم الجانب الروسي ببناء المحطة وتزويدها بالوقود النووي، إضافة إلى التدريب والدعم والعمل على تقديم الخدمات للمحطة على مدار الـ10 سنوات الأولى من تشغيلها. إلى جانب بناء مرفق لتخزين الوقود النووي المستهلك.

وكانت الرئاسة المصرية أعلنت أنه من المتوقع دخول الوحدة الأولى بقدرة 1200 ميجاوات الخدمة عام 2024. لكن بعد التأخير الذي امتد لسنوات من المقرر مد مرحلة بدء التشغيل إلى 2028.

ويبرر نائب رئيس هيئة المحطات النووية المصرية السابق علي عبد النبي، هذا التأخير في التشغيل بأن تنفيذ المشروع له أبعاد ومراحل عديدة لابد أن يتم اجتيازها أولًا. إذ أن “المشروعات النووية لا تُنفذ بتصريحات مُطلقة ولكن وفق خطط وبرامج ممنهجة ومدروسة كي يُنفذ المشروع بأعلى درجات الأمان”. لذا تم تعديل موعد تنفيذ محطة الضبعة إلى 2028.

هل يتأثر المشروع بعقوبات روسيا؟

رغم الخطوات التي اتخذت من قبل الجانبين المصري والروسي فيما يتعلق ببدء مرحلة التشييد الفعلي للمشروع. إلا أنها تأتي في ظروف صعبة تمر بها روسيا ومصر؛ فالأولى تعاني من عقوبات غربية واسعة بسبب حربها على أوكرانيا، في حين تمر مصر بأزمة اقتصادية كبرى على مستوى ارتفاع سعر الدولار بعد زيادة سعر الفائدة مؤخرًا؛ نتيجة نقص الموارد بالعملة الأجنبية.

يقول أبو بكر الديب الخبير الاقتصادي، في حديثه لـ “مصر 360″، أن أي مشروع مثل هذا المشروع الضخم يحتاج إلى سنوات من التحضير. خاصة في ظل ما يمر به العالم من أزمات، وخاصة روسيا الممولة للمشروع.

تمول روسيا نحو 85% من تكلفة مشروع محطة الضبعة النووية، بقرض تبدأ مصر سداده في أكتوبر 2029، وبأقساط نصف سنوية على مدار 22 عامًا، وفائدة 3%. وهذا أمر قد يفرض تأخيرًا على تنفيذ المشروع، وفق “الديب”. إذ أن الدولة صاحبة التمويل (روسيا) تمر بظروف مادية عصيبة بفعل العقوبات. وهنا، قد تعمل روسيا على تحقيق الأهداف التي تزيد من قواها الاقتصادية عالميًا لمواجهة تحديات أمريكا والاتحاد الأوروبي، مثل دعم مشروعات النفط والغاز الطبيعي. على أن تورجئ قليلًا باقي المشروعات ذات التكلفة الباهظة.

الكهرباء المنتجة مصريًا

خلال 6 سنوات تقريبًا شهدت مصر جهودًا مضنية لزيادة إنتاج الكهرباء، عقب أسوأ موجة انقطاع تيار متكرر ما بين 2011 و2014.

هذه الجهود بلغ معها إجمالي إنتاج الكهرباء بداية 2021 نحو 55 – 58 ألف ميجاوات. في وقت تراوح الاستهلاك بين 24 – 28 ألف ميجاوات خلال أشهر الشتاء، و30 – 32 ألف ميجاوات خلال الصيف (ذروة الاستهلاك)، وفق أحمد مهينة رئيس قطاع التخطيط الاستراتيجي بوزارة الكهرباء لـ “مصر 360”.

واستثمرت مصر أموالًا ضخمة في مجال الكهرباء بهدف حل مشكلتها المزمنة مع عجز الإنتاج. وكان يتراوح ما بين 2-3 جيجاوات منذ 2008، ووصل إلى 6 جيجاوات عام 2014. لذلك تبنت الحكومة خطة طوارئ قومية سعت لإضافة 3.6 جيجاوات باستثمارات 7.2 مليار دولار.

كما أسرعت في إنشاء 3 محطات توليد عملاقة للكهرباء بنظام الدورة المركبة. وذلك بقدرة إجمالية 14.4 جيجاوات. إلى جانب مشروعات للطاقة المتجددة أبرزها حقل “بنبان” للطاقة الشمسية البالغة قدراته الإجمالية 1.8 جيجاوات، وفق مهينة.

ووصل الإنتاج إلى حاجز الـ 58 ألف ميجاوات يوميًا، محققًا فائض يصل لنحو 20 : 25%

وحتى بداية 2020 تمكنت وزارة الكهرباء من إضافة أكثر من 28 ألف ميجاوات من الكهرباء عبر 27 محطة جديدة -دون حساب مجمع بنبان- وهو ما يعادل 13 ضعف ما ينتجه السد العالي في أسوان.

محطة بنبان للطاقة الشمسية
محطة بنبان للطاقة الشمسية

الطاقة المهدرة

يشرح وائل النشار خبير الكهرباء والطاقة، في حديثه لـ”مصر 360″، كيف تسببت مشروعات إنتاج الكهرباء في إهدار الطاقة المولدة. يقول إن هذه المشروعات الضخمة التي نفذتها وزارة الكهرباء على مستوى توليد الكهرباء حولت الدولة من مرحلة العجز الكلي في الطاقة إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي، ثم تحقيق فائض جيد كان من المفترض استغلاله لتحقيق عائد دولاري للدولة بدلًا من إهداره.

ويضيف أنه لم يتم حتى الآن استغلال الفائض في إنتاج الكهرباء. إذ كانت الحكومة تبني آمالًا كبيرة على نجاح مشروع الربط مع السودان للتوسع والتوغل كهربائيًا داخل أفريقيا بتصدير الطاقة لدول وسط وجنوب القارة. لكنها لم تتمكن من ذلك حتى 2022.

وقد جاءت مشروعات توليد الكهرباء على حساب البنية التحتية لنقل الكهرباء. خاصة وأن المشروعات نُفذت في وقت قياسي لتلبية الاحتياجات الطارئة لمصر. لكنها اعتمدت على شبكات نقل قديمة غير قادرة إلا على احتواء قدرات لا تتجاوز 32 ألف ميجاوات من إجمالي الإنتاج، وفق النشار.

يرى أنه كان من المفترض التوسع في تطوير شبكات النقل وإحلال شبكات جهد جديدة محل القديمة كي تكون قادرة على استيعاب الطاقات التي تستهدفها الحكومة توليدها للقضاء على العجز. وأن ما حدث كان العكس وتسبب في إهدار قدرات ضخمة. ولم تتيقن الحكومة لذلك إلا في فترة لاحقة، على حد قوله.

كيف يمكن الاستفادة من محطة الضبعة؟

من المتوقع أن يغطي مشروع الضبعة 10% من احتياجات مصر من الطاقة بعد اكتماله. ذلك وفقًا لتقديرات الحكومة بارتفاع معدلات استهلاك الكهرباء لأكثر من 40 جيجاوات عند اكتمال تشغيل المحطة، مقارنة بنحو 30 جيجاوات حاليًا.

يقول أبو بكر الديب، الخبير الاقتصادي، إن تنفيذ محطة الضبعة يأتي في وقت حققت فيه مصر فائضًا مريحًا في الكهرباء بعد العمل على مسارين منذ عام 2014؛ أولهما رفع الدعم عن الطاقة بشكل تدريجي حتى وصل الدعم إلى صفر في موازنة عام 2019-2020، وثانيهما ضخ مليارات الدولارات في إنشاء محطات طاقة جديدة.

ويفسر تلك الخطوة رغم الفائض في الطاقة الكهربائية بأنها “حاجة ملحة يفرضها التخطيط للمستقبل من أجل الأجيال المقبلة. في ظل تزايد عدد السكان من ناحية، والحاجة إلى الطاقة مع التوسع في مشروعات التنمية”.

ويوضح أن التوسع في خطوط الربط الكهربائي المخطط لها حاليًا ستحتاج خلال السنوات الخمس المقبلة، إلى قدرات إنتاجية كبيرة -من ضمنها مشروع الضبعة- للسماح بالتوسع في تصدير الكهرباء إلى عدد من دول الجوار سواء في أفريقيا من خلال ليبيا والسودان، أو في آسيا من خلال مشروع الربط مع السعودية الجاري تنفيذه حاليًا.

نحتاج لتحفيز تجارة الكهرباء بين العرب

ويرى الرئيس السابق لهيئة الطاقة الجديدة والمتجددة، الدكتور محمد صلاح السبكي، ضرورة تحفيز تجارة الكهرباء بين الدول العربية. ذلك بإنشاء شبكة موحدة تربط جميع الدول. وبما يسمح يتحقيق أقصى استفادة ممكنة من القدرات المولدة وإمكانية تصديرها لأقصى نقطة.

يقول لـ”مصر 360″، إن احتياطي القدرات الكهربائية -من ضمنها مشروع الضبعة- يعطي صورة إيجابية للاستثمار في مصر. خاصة أن أي مستثمر أو مصنع سيطلب الكهرباء سيتم توصيلها إليه على الفور. وبالتالي لابد من التوسع في إنشاء المناطق الصناعية وإمدادها بفائض الكهرباء لاستغلال القدرات المهدرة وتحقيق عائد دولاري جيد للموازنة العامة للدولة.

يضيف السبكي أن مصر تستطيع استغلال فائض الإنتاج -بعد دخول وحدات الضبعة- في تطوير المحطات القديمة ذات الاستهلاك العالي في الوقود. ما يدعم قدرة الدولة على التحول إلى مركز إقليمي لتصدير الطاقة الكهربائية للدول المجاورة.

ويوضح أن القطاع يعمل الآن على تقوية شبكة نقل وتوزيع الكهرباء في ضوء قدرات الإنتاج المتوقع إضافتها في السنوات المقبلة. وكذلك زيادة استخدام الطاقة المتجددة. الأمر الذي يتطلب شبكة كهربائية ضخمة ومرنة على كل الجهود، لمنع تفاقم الكهرباء المهدرة.

الطاقة النووية ودعم الهيدروجين الأخضر

وفق الدكتور أحمد مهينة رئيس قطاع التخطيط الاستراتيجي بوزارة الكهرباء، فإن محطات الطاقة النووية التي تم البدء في تشييدها ستخدم تحول الدولة نحو التوسع في مشروعات الهيدروجين الأخضر. وتعتمد بشكل أساسي على الطاقة النظيفة -لا تعتمد نهائيًا على الطاقة المولدة من الوقود الإحفوري- في تشغيل مشروعات إنتاج الأمونيا والهيدروجين الأخضر.

سيكون لدى مصر قدرات مضاعفة من الطاقة المنتجة من المصادر النظيفة – حوالي 6 آلاف ميجا وات حاليًا. وهي تعزز توجه الحكومة نحو التنمية المستدامة والاعتماد على الطاقة الخضراء. ويتماشى ذلك مع استراتيجية الحكومة نحو دعم قضايا المناخ وخفض الانبعاثات الكربونية. وبالتالي فإن التحول للطاقة النووية رغم تكلفته المرتفعة إلا أنه بمثابة خطوة حتمية نحو تنويع مصادر الطاقة.

ويرى “مهينة” أن تمتع مصر بتوليد الكهرباء من المفاعلات النووية يساعدها في التحول إلى مركز للطاقة عبر الربط الكهربائي مع دول الجوار. إلى جانب أنها طاقة أرخص -على المدى البعيد- وأنظف، كونها خالية من انبعاثات الكربون.

وتسعى مصر إلى أن تكون مركزا محوريا للطاقة عبر مشروعات الربط الكهربائي مع الدول العربية والأفريقية والأوروبية. ويساعدها موقعها الجغرافي والميزات والمقومات التنافسية التي تتمتع بها. إلى جانب الاحتياطي اليومي بالشبكة القومية للكهرباء. فضلًا عن زيادة الإنتاج من الطاقة المتجددة. وأيضًا اكتشافات الغاز في شرق المتوسط. بما يعزز النمو الاقتصادي ويرسخ علاقات مصر الدولية.

انتقادات ومخاوف

ورغم المزايا التي تسعى الحكومة إلى اكتسابها من مشروع الضبعة إلا أن هناك ثمة انتقادات ومخاوف بشأن السلامة. حيث الحديث عن النفايات المشعة. لكن هيئة المحطات النووية تقول إن تصميم المفاعل الروسي يتميز باتباع كافة احتياطيات الأمان التي من شأنها تقليل الآثار البيئية لأدنى مستوى. ذلك من خلال مراعاة أنظمة أمان مطورة.

هناك تخوف أيضًا من التكلفة، إذ قد لا تكون الطاقة النووية أكثر الوسائل فعالية مقارنة بغيرها. فمحطة الضبعة باهظة الثمن وغير فعالة من حيث التكلفة -بين 25 لـ 30 مليار دولار- مقارنة بمشروعات طاقة أخرى نفذتها مصر مؤخرًا. وبالتالي سيزيد المشروع من الضغط على احتياطيات النقد الأجنبي لدى البنك المركزي خلال فترة سداد القرض الروسي، وفق رمضان أبو العلا خبير الطاقة لـ”مصر 360″.

ويعد الجدل حول المخاطر مقابل المكاسب من الطاقة النووية أمرًا مألوفًا في جميع الدول النووية حول العالم. بسبب ما يٌشاع دائمًا حول المخاطر المصاحبة لتنفيذ المحطات النووية. خاصة في الدول التي تتبنى هذه المشروعات للمرة الأولى.