في ليلة ظلماء لا تنساها الكنيسة، كان الأنبا إبيفانيوس أسقف ورئيس دير أبو مقار يتحسس طريقه نحو الكنيسة ليصلي صلاة التسبحة التي يتوق لها قلبه. كان الشيخ يمشي ببطء من فقد بعضًا من نظره بين الكتب والمخطوطات، قبل أن يسمع دبيب خطى خلفه، ظن إنها لأحد الراغبين في مشاركته أناته وتضرعاته لله. ما بين خطاه الهادئة تلك وذلك الصوت كانت رأسه قد تلقت الضربة الأولى من الخلف تلتها ضربتين قاسمتين أخرجت مخه على الأرض فسقط غارقًا في دمائه وكأن حضوره يشبه الاسم الذي اختاره لنفسه “إبيفانيوس”؛ حضور كالأنوار الإلهية تومض وتختفي فجأة.

الأنبا إبيفانيوس رجل النور الإلهي

لم يكن خفوت النور الإلهي الذي تركه الأنبا إبيفانيوس مجرد رحيل عابر، فبغيابه أظلمت الدنيا وفقدت الكنيسة مسارًا جديدًا كان الأسقف المغدور يعده لها بعلمه وعينيه الغارقتين في التاريخ والمخطوطات، وكأنه يرصف ببصره طريقًا للمستقبل بعد أن ساد ليل حالك طوال السنوات الأربعين الماضية قطعه أستاذه متى المسكين الذي تلألأ كنجم بري أراد الظلام إبعاده بالشدة أحيانًا وبالقسوة أحيانًا وبالتشويه أحيانًا كثيرة.

مارس الأنبا إبيفانيوس طوال حياته الرهبنة القبطية الأصيلة التي تعلمها على يد أستاذه متى المسكين، رهبنة لا تقبل المواربة فلا تعرف رغد العيش ولا رغبات الترقية برتب الكهنوت ولا أحلام الأسقفية. رهبنة من نوع خاص تتخذ العلم سلمًا وطريقًا نحو الحياة الأبدية وكأنه العمل الصالح الذي انقطع هؤلاء الرجال عن العالم من أجله. رهبنة تزهد العالم وتتقشف في كل شيء إلا الكتب والأوراق التي كان الرهبان ينفقون لأجلها بسخاء ليس المال فقط بل العمر والوقت وحتى البصر فأنتجوا الموسوعات وترجموا أمهات الكتب عن لغاتها الأصلية وخلقوا بهدوئهم هذا ضجيجًا وصخبًا أزعج من كان يعادي العلم والمعرفة لصالح لاهوت الصوت الواحد.

اقرأ أيضًا: في ذكرى الأنبا إبيفانيوس.. ثلاث سنوات على مقتل الرجل الكبير

لاهوت مستحدث نشأ في صراع مع الدولة من ناحية ومع الجماعات الإسلامية من ناحية أخرى فلم ينجو من أثر الاثنين في العقلية القبطية التي نمت وترعرعت تأكل وتسقي أولادها من هذا الماء الآسن فتقد الكنيسة مع الوقت بريقها القديم ومدرستها اللاهوتية العظمى التي استشهد على اسمها الآباء وذاع صيتها فملأت الدنيا. في زمن الضياع هذا ظهر الأنبا ابيفانيوس يحمل مصباحًا مضيئًا يمشي بتؤدة من القداس إلى المكتبة ومن قلايته إلى المائدة الرهبانية يصلح ويصحح ويعلم لا بكِبر العارف ولا بغرور الأستاذ بل بتواضع العالم فقدم قبل رحيله بشهور ورقة إلى المجمع المقدس يطلب فيها إصلاح الرهبنة القبطية وتنقيتها مما أصابها من عطب كأن يستغنى الرهبان عن رتب الكهنوت.. يعودوا لأديرتهم، ويهجروا ضجيج العالم، يتوقفوا عن ممارسة سر الاعتراف الذي يزعج رهبانيتهم ليستمعوا إلى أصوات أرواحهم الداخلية تلك التي قصدت الله فبحثت عنه في الصحراء تناجيه في وسط الليل.

بين سر الكهنوت وزهد الرهبان

في تسجيل له بصوته الهادئ يحذر الأسقف المغدور تلاميذه الرهبان من السعي وراء رتب الكهنوت وكأنها نار مستعرة اشتعلت في كل الأديرة فخلقت تنافسًا بين الإخوة المتساوين أمام الرب فيقول إنها صنعت حروبًا بينما يتذكر كيف تربى مع أخوته أيام القمص متى على هجر تلك الرتب الزائلة لصالح الرهبنة الباقية فلم ينلها إلا ثلاثة يترأسون بها القداسات ويمارسون بها الأسرار المقدسة على مذابح الدير حتى تغير كل شيء ودخل الدير من يقصد الكهنوت غير عابئ إلا به. يتقاطع مع هذا التسجيل فيديو للبابا شنودة يمنح رتبًا كهنوتية لدفعة رهبان دخلت الدير بعد وفاة القمص متى فيقول لهم: منحتكم رتب الكهنوت لكي تصلوا على مذابح الدير. دفعة لم ترث تعاليم متى المسكين ولم تترب على يديه فترك الدير منها من ترك وبقي من بقي يثير الأزمات والنعرات مع الآباء القدامى الذين لم ينتظروا ذهب المعز ولم يرهبهم سيفه.

اقرأ أيضًا: من حبل المشنقة إلى القداسة.. إشعياء المقاري في الوعي القبطي

كان من بين تلك الدفعة إشعياء المقاري، راهب شاب قصد الدير قادمًا من حر الصعيد وقسوته بعد أن ظن إن الرهبنة طريقه الأصلح والأنسب غير أن سنوات بقائه في الدير قد غيرت في قناعاته كثيرًا فامتلك سيارة فارهة بعد أن تربح من تجارة الأراضي الصحراوية تاركًا زهده في ركن قصي من قلايته التي بناها بعيدًا عن الدير وكأنها استراحة خاصة. أوضاع لم تعجب من تربى على الرهبنة المتاوية القديمة فبدأت الأزمات التي انتهت بقرار إبعاد موقع من البابا تواضروس. لم يرض إِشعياء أن يهجر ديره فجمع من جمع من زملائه يوقعون على عريضة لاسترضاء الأنبا إبيفانيوس الذي لم يرث صلابة متى المسكين وإصراره على رأيه فوافق على إبقاء إشعياء على أن يغير سلوكه فما كان منه إلا أن تغير بالفعل فتحول من راهب مفرط إلى قاتل مدبر.

ليلة القتل تكتب تاريخًا جديدًا

كانت ليلة القتل هي الليلة التي انكتب فيها للكنيسة تاريخًا جديدًا، وكأن الدم قد رصف طرقًا وأسس أعمدة، غير أن القاتل قد ظن إنه سينجو بفعلته قبل أن تفاجئه المقادير بحبل المشنقة يلتف حول عنقه فينقسم الناس بين من يبحثون عن القداسة للقاتل وبين من يرون في رقبته قصاصًا عادلًا لدم الأستاذ الشهيد.

لم يشكل حبل المشنقة دليلًا كافيًا لكي ينظر الناس في الكتب ويتعظون من التاريخ، بل كانت المشنقة مبررًا كافيًا لمنح القاتل قداسة لم يسع إليها ولم يطمح لها طوال حياته. قداسة مجانية تمنح بعد أربعين عامًا من اعتياد القداسة ومن اتخاذها مسكنًا لآلام مبرحة ألمت بالعقل القبطي الذي كان الأنبا إبيفانيوس يطمح في أن يستفيق من محنته.

أما من آمنوا بالقصاص من القاتل فقد أكملوا طريقهم بين الكتب وبين ما تزرعه المعرفة من أشواك. هؤلاء الذين رغبوا في استعادة إرث كنيستهم ولاهوتها من أنياب التغييب والتغريب بعد سنوات عجاف لم يعد فيها المرء يبصر صليبه كما كان.