ما الطريق؟

تناول الجزء السابق في هذه السلسلة المناخ الذي يحيط بمصر اليوم وهي تواجه هذه الأزمة الاقتصادية غير المسبوقة، بجذورها وأسبابها المتعددة، والتي تضع -بدون الكثير من المبالغة- نسيج الوطن ومستقبل أبنائه محل اختبار مصيرى، وتستدعى وضعها في مقدمة الأولويات الوطنية لجميع الأطراف.

ومن الواجب عند هذه النقطة القول إنه لا يوجد طريق سهل أو مختصر أمام مصر للخروج من هذه الأزمة، لأن علاج كل عنصر من عناصرها أصبح اليوم أصعب من ذي قبل، وما كان يكفي لتخفيف وطأة الأزمات فى السابق لن يكفي اليوم. فقد تراجعت قدرة مصر على تدبير التمويل الضرورى لتوفير الاحتياجات وسد العجز. كما أن طاقة قطاعات واسعة من المجتمع على تحمل المزيد من الضغوط تنفد، بينما يتسارع معدل اشتداد الأزمة وترتفع تكلفة عدم مواجهتها. يعني هذا أنه لا مفر أمامنا من مراجعة شاملة لكل عناصر الاقتصاد الوطني، ولكل محاور وأولويات سياستنا الاقتصادية، لوضع رؤية مستقبلية، واستراتيجية تنموية تجمع بين الواقعية والطموح، وخطة طوارئ جادة وصارمة، والاستناد فى كل ذلك إلى المنهج العلمى، والاعتماد على النفس، والفهم الدقيق لطبيعة التحديات والاحتياجات وللظروف العالمية، والمشاركة الوطنية العامة.

وهنا يكمن الجانب الإيجابى لهذا الموقف الكبير، فمثل هذه الاختبارات الوطنية الكبرى هي التي يمكن أن تصبح -عند تجاوزها- نقاط التحول التاريخية التي تصقل روح الأمم وشخصيتها، وترتقي بها إلى مستوى جديد من القوة والتماسك والتقدم، كما حدث لأمم كثيرة في التاريخ.

وتقتضى البداية السليمة لهذه المسيرة التوقف أمام السياسات الاقتصادية القائمة التي تؤثر سلبيا على وضع المالية العامة (الموازنة والمديونية) والميزان الخارجي، وإيقاف أي برامج أو مشروعات عامة لا تعتبر ضرورية وعاجلة مهما كانت درجة التقدم فى تنفيذها، ما لم تكن ذات عائد مؤكد وسريع يفوق تكلفة استكمالها، والاعتماد فى ذلك على دراسات جدوى اقتصادية دقيقة وواقعية ومعلنة، ومرتبطة بالأولويات التنموية الملحة لهذه المرحلة، حيث لا يصح أن يبادر الجراح إلى القيام بعمليات تجميل لمريضه، في الوقت الذي يحتاج بشكل عاجل إلى جراحة فى القلب تنقذ حياته.

بالتوازي مع ذلك، ينبغي وضع وتطبيق برنامج إصلاحي صارم للاقتصاد الكلي الحقيقي معا، مع اعتبار أن متطلبات الاقتصاد الحقيقي، التي تتلخص في تلك المفاتيح السبعة التي تعرضنا لها في الجزء الأول من هذه السلسلة، أسمى وأَوْلَى مقارنة بمتطلبات التوازن الكلي، ذلك إذا ما تعارضتا، مع العمل على استعادة ما فقدته سياسة مصر الاقتصادية من مصداقية، وإعادة إحياء عوامل الجذب للاستثمار الخاص المحلي والأجنبي التي امتلكتها مصر، على قلتها، من الحرص على تشجيع الاستثمار الخاص المحلي والأجنبي، وعلى زيادة مستوى الشفافية والجدية والحرفية في إدارة الأمور الاقتصادية، ومن جودة أداء المؤسسات البيروقراطية والتشريعية والقضائية.

***

إلا أن فاعلية ونجاعة ما سبق تتوقف على رسم خريطة لعلاقات مصر الاقتصادية الخارجية تدعم رؤيتها الاقتصادية واستراتيجيتها التنموية، وتتوافق مع الواقع الاقتصادي العالمي الجديد، والذي تعرضنا لتفاصيله في الجزء الثاني. بل إنه ليس من قبيل المبالغة القول إن البعد الخارجي هو العنصر الحاسم في نجاح أي استراتيجية تنموية لمصر، نظرا لافتقادها بعض أهم العناصر الضرورية للتنمية:

  • فلا خلاف على ما تعانيه مصر من فجوة تمويلية ضخمة، هي الفارق بين مجمل المدخرات المحلية السنوية، والتي يدور متوسطها في السنوات الأخيرة حول 10% من الناتج المحلي الإجمالي، مقابل احتياجات مصر الاستثمارية لتحقيق معدل نمو يواكب متطلبات الزيادة السكانية ورفع مستوى المعيشة عموما التي تبلغ ما بين 25 و30% من الناتج المحلي الإجمالي. يعنى ذلك أن مصر تحتاج إلى تدفقات مالية من الخارج تصل إلى ما بين 60 و80 مليار دولار سنويا سواء من خلال الاستثمار -بكل صوره- أو الاقتراض.
  • إلا أن ما تحتاجه مصر من الخارج يتخطى بكثير تغطية الفجوة التمويلية، ليشمل أيضا شركاء يأتون بالتكنولوجيا والمعرفة الفنية والخبرات الصناعية والارتباطات بشبكات الإنتاج والتوزيع العالمية لمساندة عملية التنمية الضخمة التي تتطلع إليها، وهو ما لا يأتي إلا من خلال الاستثمارات المباشرة، خاصة الصناعية، التي تسعى إلى الاستقرار لمدى زمني طويل، بما يجعلها أهم وسائل التنمية والتحديث.
  • كما أن نجاح التنمية واستمراريتها، بل ودرجة جاذبية الدولة للاستثمار تتوقف على ضمان استمرار تدفق الواردات من المواد الخام والمعدات الرأسمالية والسلع الوسيطة اللازمة للصناعة ولسد الاحتياجات الاستهلاكية، وكذلك توافر أسواق تتيح طلبا كافيا ومستمرا وقابلا للتوسع ويمكن الاعتماد عليه في الأجل الطويل.

وبينما كان تحقيق ذلك في عصر العولمة الاقتصادية يتطلب إقدام مصر على اتخاذ السياسات الاقتصادية السليمة والانفتاح على الاقتصاد العالمي بشكل شامل، أصبح مطلوبا منها اليوم أيضا أن ترسم خريطة لعلاقاتها الاقتصادية الخارجية، وأن تضع فى القلب منها الشركاء، أو بالأحرى الحلفاء، الذين يستوفون المتطلبات التي تم تبيانها في الجزء السابق من هذه السلسلة، أي يملكون المؤهلات الاقتصادية، ولديهم الرغبة المستندة إلى مصالح استراتيجية حيوية، في مساندة مشروع مصر التنموي، والدخول في علاقة اعتماد متبادل، على أساس من الثقة والتوافق في الرؤى السياسية والاستراتيجية للأجل الطويل.

لا يعني ذلك قصر العلاقات الاقتصادية على هذا الشريك أو الشركاء الاستراتيجيين، حيث سيظل ضروريا ومفيدا الانفتاح على أكبر قدر من الشركاء، وتحقيق أقصى استفادة ممكنة منهم جميعا، خاصة القوى الاقتصادية الكبرى والمتوسطة والصاعدة. كما أن مصر تربطها علاقات خاصة وتاريخية بالعالم العربى وأفريقيا، لا سيما شرق القارة، تحمل فرصا لتحقيق مكاسب اقتصادية مهمة، سواء كأسواق للتصدير أو مصادر لرؤوس الأموال أو السياحة أو المواد الخام.

مع ذاك، يظل القرار الأهم فى هذا الصدد هو اختيار الشريك أو الشركاء المركزيين لمصر فى هذه الاستراتيجية، والذين ينبغى أن تتوفر فيهم أولا المعايير الاقتصادية الرئيسية، أى القدرات المالية والصناعية والتكنولوجية، والمكانة الاقتصادية العالمية، بجانب مساحة كافية من المصالح الاستراتيجية المتبادلة، أو التي يمكن بناؤها، لتضع الأساس الذي تقوم عليه هذه العلاقة الاقتصادية الاستراتيجية وتزدهر، ليحقق الاقتصاد المصري معها النقلة التي طال انتظارها، الأمر الذي لم يكن ضروريا في السابق، رغم أن وجود مثل هذا النوع من الشركاء كان دوما من خصائص تجارب التنمية الأكثر نجاحا

والحقيقة أنه لا يوجد من بين كل الشركاء المحتملين -على أهميتهم جميعا- من يجمع جل المتطلبات المذكورة، سوى الاتحاد الأوروبي. فأمريكا تظل أبعد عن مصر جغرافيا، فضلا عن أن الأسس الاستراتيجية للعلاقات معها تحيطها محاذير وتعقيدات عدة، كما أن اليابان لا تملك إلا القليل من المبررات الاستراتيجية لبناء مثل هذه العلاقة مع مصر، بينما لا تملك روسيا ما يكفي من المقومات الاقتصادية. أما الصين، التي ربما تعد البديل الوحيد المحتمل للاتحاد الأوروبي من حيث توافر قدر لا بأس به من القدرات الاقتصادية، وإن كانت لا زالت أقل من قدرات الاتحاد الأوروبي، وكذلك غياب أسباب الاحتكاك السياسي معها ارتباطا بقضايا الديموقراطية وحقوق الإنسان، فإنها تظل شريكا صعب المراس، يقيم علاقات التعاون مع شركائه على منهج يضيِّق عليهم أفق النمو، ويضمن إحكام قبضته على اقتصاداتهم، ولا يقبل إلا بتحقيق أكبر قدر من الربح السريع من تعاملاته.

فى المقابل، يظل الاتحاد الأوروبى، بجانب تفوقه من حيث القدرات الاقتصادية، الأقرب لمصر استراتيجيا وجغرافيا، والشريك الدولي صاحب المصلحة المستمرة والأكبر فى ضمان استقرار مصر وتقدمها ورخائها. فمصر المرتبكة اقتصاديا واجتماعيا ستكون سببا كبيرا للقلق والاضطراب في أوروبا، كما أنها ستؤثر بعمق على استقرار منطقة الشرق الأوسط والمتوسط على اتساعها، وهي أمور تمثل هاجسا أوروبيا كبيرا، لارتباطه المباشر بخطر موجات الهجرة الكبيرة غير المنظمة، ومخاطر التطرف والإرهاب والصراعات، وكلها أمور تمس أمن واستقرار أوروبا أكثر من أي قوة أخرى في العالم. كما أن للاتحاد الأوروبي مصلحة اقتصادية في أن يكون جواره المباشر قريب له، وأن يكون ناجحا اقتصاديا ليصبح مكملا مفيدا للاتحاد الأوروبي، سواء كسوق أكثر قدرة على الإنفاق والاستيراد، أو كمركز لتوريد المنتجات التي لم يعد من المجدِ اقتصاديا إنتاجها في الدول المتقدمة، وبوجه خاص الصناعات كثيفة العمالة قليلة المحتوى التكنولوجي، أو لمواجهة اضطراب الهرم الديموجرافي فيه، والذي يجعله بحاجة إلى نطاق سكاني أوسع أكثر شبابا، لتوفير القوى العاملة الضرورية لاستمرار رخائه وتقدمه.

يعنى ذلك، أننا يمكننا تصور أن تنقل مصر علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي -وهو بالفعل شريك سياسى مهم لمصر، وأهم شريك اقتصادي لها من حيث حجم التجارة والاستثمار والسياحة- إلى مستوى جديد، يماثل، بل ويتعدى فى قوته، ما هو قائم بالفعل بين الاتحاد الأوروبي وشركاء مثل المغرب أو تركيا، وجعل هذه العلاقة القوية، محور مشروع مصر الاقتصادي الأكبر، بل ومشروعها التحديثى بأبعاده السياسية والاستراتيجية والاجتماعية والإنسانية والحضارية، وأن يشمل مجالات حيوية مثل التعليم والبحث العلمي والنقل والطاقة، وغيرها من مجالات يشملها بالفعل باتفاق المشاركة المصرية الأوروبية -الذي كان لي شرف المشاركة في صياغته والتفاوض عليه ضمن الوفد المصري- وما نتج عنه من اتفاقات وآليات للتعاون.

ويكمن التحدي الأهم هنا فى مسألة بناء التوافق السياسي بالمعني الإيديولوجى بين الجانبين، وهو أمر كان دوما له أهميته بالنسبة للاتحاد الأوروبي، متمثلا فيما تتضمنه اتفاقاته مع شركائه من مشروطية سياسية تتعلق بالديموقراطية وحقوق الإنسان، وهي الأهمية التي ستزداد في ظل ما يشهده العالم من تحولات فى تحديد مدى عمق علاقات التحالف الاقتصادي مع مختلف الشركاء. صحيح أن الاتحاد الأوروبي سيبقي على علاقات تعاون اقتصادى نشطة مع أكبر عدد ممكن من الدول، أيا كانت توجهاتها من هذه القضايا، إلا أنه لن يضع ثقله والتزامه الصلب إلا وراء تلك الدول التي يجمعه بها ما يكفي من أسباب التقارب والثقة ما يجعله يستثمر فى تنميتها، وينشئ روابط اقتصادية حيوية معها مطمئنا أنها ستصمد أمام الأزمات والمواجهات الاستراتيجية المقبلة، بل وتكون رصيدا يحافظ على عمل اقتصادها فى هذا العالم الجديد.

والحقيقة أن هذا الملف تحديدا يمكن -بل ينبغي- أن يكون أحد العناصر الداعمة لتوثيق العلاقات الاقتصادية الاستراتيجية مع الاتحاد الأوروبي، بأن تقرر مصر أن تخطو بجدية وحزم وعقلانية على طريق الإصلاح والتحديث السياسي، وبناء الدولة الديموقراطية المدنية الحديثة التي ينص عليها الدستور المصري. فهذا لن يؤدي بذاته إلى خدمة مشروع مصر التنموي خدمة كبرى فحسب، وإنما أيضا سيجعل الاتحاد الأوروبي أكثر حرصا على احتضان هذه التجربة ومساندتها، لا سيما على المستوى الاقتصادي، لضمان نجاحها.

البديل الآخر الذي قد يدفع به البعض بخلاف المشاركة الاقتصادية الاستراتيجية مع الاتحاد الأوروبي، والذي يجد مبرره الوحيد فى الرغبة فى تجنب موضوعات التحول الديموقراطي واحترام حقوق الإنسان، سيكون محاولة تحقيق أكثر ما يمكن تحقيقه من مكاسب من التعاون مع روسيا والصين ودول الخليج البترولية، بكل ما لديها من نقاط ضعف فى قدراتها الاقتصادية بمعناها الشامل (المالية والصناعية والتكنولوجية والتواجد فى قلب شبكات الإنتاج والتوزيع العالمية)، وبكل ما يتسم به التعاون الاقتصادي معها من نفعية بمعناها الضيق المباشر، وهو أمر خبرته مصر وعرفت آثاره فى أوضح صورها خلال السنوات الثماني الماضية، وهو بديل لا يَعِدُ بالدفعة التنموية الاقتصادية التي تحتاجها مصر اليوم بشكل ملح، إن لم يكن مصيري.

***

هكذا يتبدى حجم العمل الاقتصادي الذي ينتظر مصر، وما يتطلبه من قرارات واختيارات مصيرية، إلا أن اللحظات المفصلية من هذا النوع فى حياة الأمم لا تأتى كثيرا، لكنها حين تأتى تضعها أمام خيارات يكون الفارق بينها هائلا. فحسن إدارة الخيارات الاقتصادية لمصر فى هذه المرحلة الحرجة يمكن أن يضعها على منحنى صعودي يجعلها تنطلق إلى آفاق عظيمة، وأن تطوي صفحة الفقر والتخلف إلى الأبد مثلما نجحت فى طي صفحة الحكم الأجنبي والاستعمار فى النصف الأول من القرن العشرين. بينما لو جاءت الخيارات الاقتصادية مترددة وتقليدية وكسولة، أو رهنت تعاملها مع هذا التحدي التاريخي باعتبارات وحسابات قصيرة وقاصرة، فإن ما ينتظر مصر فى المستقبل القريب قبل البعيد سيكون شديد الصعوبة والقسوة.

أيمن زين الدين – قانوني وسفير سابق


للاطلاع على باقي أجزاء هذه السلسلة اضغط على الصورة:

الأزمة وأسبابها والواقع الاقتصادي الجديد.. هل لمصر من طريق؟ (1 – 3)
الأزمة وأسبابها والواقع الاقتصادي الجديد.. هل لمصر من طريق؟ (1 – 3)
الأزمة وأسبابها والواقع الاقتصادي الجديد.. هل لمصر من طريق؟ (2 – 3)
الأزمة وأسبابها والواقع الاقتصادي الجديد.. هل لمصر من طريق؟ (2 – 3)