ثمة نظرية أُطلق عليها نظرية الدوائر، وهي نظريتي الخاصة جدًا عن العلاقات الإنسانية، فلكل منا دائرة تتحرك؛ فتقترب من دوائر أخرى، تتقاطع، أو تتماس أو تتطابق، ثم يدفعها عدد من المتغيرات: محل الإقامة – العمل – تغير الاهتمامات – ضغوط الحياة وعشرات من المتغيرات التي تدفع الدوائر فى حركتها، فنقترب من آخرين لم نكن نظن أننا سنلتقيهم، ونبتعد عن أحبة لم نكن نظن أن الحياة ستبعدهم، لكنها أشبه بالحركة العشوائية للجزيئات.

الوعي بتلك النظرية لا ينفي أن نبكي ونحن نتساءل لماذا ننتظر من الأحبة أن يظلوا على محبتهم على الرغم من حركة الدوائر؟ لماذا أعد أحدهم المقرب رقم واحد بينما هو/هي لا يراني فى عاشر اهتماماته؟

لماذا نتحدث نظريًا عن إمكانية البعد، لكننا لا نقوى على تحمل تبعاته؟

حين نشعر بألم في جزء من الجسد، تحاول أيدينا أن تربت، أو تقطع أو تفعل شيئًا يتفاعل مع ألم الجسد، لكن ماذا إن كان الألم في الروح، وقتها نود لو ننشب أظافرنا في مخالب الروح، علها تدمى، فننشغل بآلام الجرح الواضح عن تلك المغروسة في روحي.

عشرات التساؤلات تعبث بالرأس، تفتك بالباقي من الثقة فى المحبة، كيف تتسرب قلوبنا نحو هؤلاء الذين لا يقدرونها، لماذا نحب أشخاصا يلقون بمحبتنا في أقرب شارع مزدحم؟

يستخدموننا لملء الوقت، وتسلية أنفسهم، بينما نحن نمارس المحبة بجدية تليق بضربات القلب المتلهفة للقاء؟

حين ندخل صراعًا مع أوقات فراغهم؟ نتحول إلى مهرجين يُلقون النكات، وإلى حكائين يُعيدون صياغة الحواديت لينام الرفاق ومن نظنهم أحبة مشبعين بصوت دافئ؟

حين تكون ضحكاتهم هي كل الجائزة، ونحن نهرول سعيًا بين الأحبة ليشعروا ببعض الرضا، نجتذب كل إلكترون سالب يدور فى مداراتهم وتستبدله ببروتون إيجابي، فتشعل الشمس فوق رؤوسهم ليل نهار، فقط ليرتبط النور بحضورنا.

وهم المحبة

هل نُفاجئ حين أقول إن هذا ليس خطأهم، إنما خطأ الرومانسيين من أمثالنا، نحن من نرسم علاقات زائفة من المحبة، نتخيل مساحات كبيرة، بينما الطرف الآخر لم يفعل شيئا ليؤكد حقيقة تلك المحبة المتبادلة، فتصبح صادرة من مصدر واحد فقط، مهدرة فى الفراغ، وحين يمر من نهبهم محبتنا يرسمون على شفاههم ابتسامات بلاستيكية، يحتفظون بها لأغراض المجاملات الاجتماعية، والتعامل مع الأشخاص اللزجين من أمثالنا، الذين يحيطونهم بعطاء ومحبة، هم أنفسهم لا يجدون مبررا لها، هم أكثر صدقًا مع أنفسهم منا.

حين تحكي لي فتاة “شاهدته ذات مساء يضحك دون أن أكون موجودة، تعلم أن يغزل البهجة؛ فاستبدلني، لست بائسة، أو حزينة، إنني أتمتع بثقة كبيرة، أعرف أنه لا يُمكن استبدالي، والحقيقة أقولها لك سرًا، فأنا دومًا يتم استبدالي، أنا لست جزءا أصيلا في حياة أحدهم”.

مثل هذه المشاعر كفيلة بإحداث وجع يفوق ألم بتر أحد أعضاء الجسم.

طريقة انتقاء الذكريات

حين نشعر بالألم فإن الذكريات تكون هذا المحفز للألم، إذ إن عقولنا تعمل بجد لتأكيد حالتنا، فإن كنا نشعر بالتخلي فإن كل الذكريات تؤكد على كوننا لم نشغل سوى دور المهرج، أو بائع الحكايات المؤقتة، وتظل التوكيدات النفسية كوننا بتنا لا نصلح للتسلية أو لرفقة الظروف الصعبة.

ثم تكون الوحدة اختيار أول يعززها الذكريات المنتقاة بانعدام القيمة لدى الآخر، مجتزئين ثقتنا بأنفسنا، ونحن نرى هالات وهمية من الرفاق، ننخدع بوهم الاجتماعية، ونروج للمقولات بكثرة الأحبة والرفاق، نُشخص عشرات الأجسام بابتسامات مفتعلة، ودعاوي اهتمام لا تقل وهمية عن وجودهم، الخداع ينكسر عند أول اختبار حقيقي، حين يكتشف أي منا أنه لا يمثل رقما فى دائرة بعيدة جدًا عن مصدر الجذب.

الثقة يُعززها الفعل، فلمَّا نثق فى أحبة لم يقدموا سوى اتصال في أوقات فراغهم؟ ولقاء وسط رفقة، ومعلومات يعرفها الجميع، لم نشارك فى حفظها، وجئنا فى باب القراء المخلصين. الثقة بحاجة إلى سند ونحن في وحدتنا بلا سند غيرنا.

الوجع

هل تعرفون من أين ينبت الوجع؟ إنه من العشم، نعم هو ذلك الشعور الخبيث الذي يستشري فى الروح، تظن أنك مقرب، تضع توقعات وتخترع أسبابًا لا تقل وهمية وكذبا عن حقيقة مكانتك في حيوات من تظن أنهم أحبة ومقربين.

هم صادقون مع أنفسهم، منحوك جملا من الإطراءات المعتادة والمبتذلة، وأنت صدقتها كتعبيرات أصيلة، أنت خلقت هالات الكذب، وصنعت من العشم سرابا كبيرا تتبعه، فإذا ما اقترب أحدهم أو لاح فى الأفق؛ ظننت نفسك من المقربين، فلم يقترب، فاخترعت أكاذيب لتمرير اللحظة، وتظاهرت بالانشغال، حتى يمروا، ويتكرر الأمر مرات وأنت تختفي في بئرك، وعلى فترات متباعدة قد تلقي ببعض كلمات اللوم، حتي لا تسقط في فخ الاستبعاد، فيردونك بجملهم الزائفة.

هذا العشم المتسرطن بالروح، هو ما يقذف بنا نحو ركن الظلمة، لدينا دموع تكفي لملء الفراغ حولنا، قد نصبح عالقين فى الحزن، وقد نغرق إذا ما أسلمنا نفسنا لهذا الحزن.

ضرورة المواجهة

هل تعرف الإلكترون الحائر؟

هو ذلك الإلكترون الطليق فى مدارات الذرة، يظل وحيدًا حتى يرتبط ببروتون، فتسكن الذرة، وتصبح خاملة، فهل أنت تريدين السكينة حقًا؟ وهل يتقبل أي منا وضع الخمول والملل؟

حين نواجه أنفسنا نشعر أننا عرايا، العُري مخجل ومهين، نعم أعرف، لكنه أفضل من سرطان العشم الذي سيقتلك وهو يستولي عليك، وينشر الظلام بروحك، يفتك بما تبقى من دفء في قلبك، ويُهدر ثقتك في العالم، إنه باختصار يُغير كيميا الروح، فتصير أقسى، أكثر عنفًا وأقل ثقة بالآخرين.

الحزن وتلك المرارة تُغير طعم اليوم، وتُزيد من ضربات القلب كنشاط جسدي بحت، لا حاجة لك بهالات الوهم، ولا دوائر بعيدة جدًا، وأنت تعاني من بعد النظر، حتى بُعد النظر يُعدونه مرضًا، فهناك ضرورة قصوى بأن نُشفي من الأحبة المزيفين.