حالة من الجدل دارت في المجتمع المصري مؤخرًا حول قضية الإعدام العلني، بعد توصية محكمة جنايات المنصورة بإذاعة إعدام قاتل الطالبة نيرة أشرف، في الجريمة المعروفة إعلاميًا بجريمة “طالبة جامعة المنصورة”.
الجدل الذي أثارته القضية ليس جديدًا على المجتمع الإنساني بشكل عام، خاصة أن العقوبة نفسها ظلت لسنوات طويلة مصدرًا للأخذ والرد. كما خضعت لتساؤلات أهمها ما يتعلق بمدى مؤامتها لحقوق الإنسان؟ بالإضافة إلى الأسئلة الأكثر برجماتية، منها مدى كونها أصلًا عقوبة رادعة أم لا؟ وما أثارها على المجتمع؟
في نظر الكثير حول العالم، لايعد الإعدام عقوبة رادعة بشكل عام (والعلني منها بشكل خاص) بل أن هناك من يرى العكس تمامًا. هؤلاء يرون أن الإعدام كعقوبة لها أثار كارثية أولها زيادة معدلات الجريمة والعنف في المجتمعات. كما أنها في شق أخر لا تتماشى مع حقوق الإنسان.
اقرأ أيضًا.. “العفو الدولية” تدين زيادة الإعدامات.. وحقوقيون مصريون يطالبون بسرعة إلغائها
موجز تاريخي
في عالم اليوم أصبحت الإعدامات العلنية عقوبة شديدة الندرة، نتيجة تطور الآليات العقابية بشكل كبير عبر التاريخ.
ففي وقت من الأوقات كانت الإعدامات العلنية شيء اعتيادي تشاهده جموع الناس في الشوارع. يقول المفكر والفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو إنه في العصور ما قبل الحديثة، كان القانون امتدادًا لجسد وإرادة الملك، لذلك فأن أي اعتداء على القانون هو اعتداء على الملك نفسه.
لذلك كان المعتدي يعاقب بما يناسب جرمه، فتوقع العقوبة على جسده علنًا أمام الجميع، ليتم تعذيبه أو إعدامه في الميداين العامة. في ذلك الوقت لم يكن هناك فارق بعد بين التحقيق في الجرم أو تطبيق العقوبة، فكان التعذيب الجسدي عقوبة ووسيلة لانتزاع الاعتراف في نفس الوقت. وكان الإعدام العلني عرضًا مسرحيًا دمويًا يعرض فيه الملك سلطته على جسد المعتدي أمام الجموع، في فرصة لإثارة الخوف في نفوس الآخرين.
وبحسب فوكو لوحظ أن تطبيق العقوبة بشكل علني يثير التعاطف مع المعتدي وأحيانًا تؤدي إلى اندلاع احتجاجات أو حالة من الغضب بين من شاهد تطبيق العقوبة، وبالنظر إلى تاريخ أوروبا فهناك الكثير من حالات التمرد التي اشتعلت بسبب الإعدامات العلنية. لكن مع صعود الطبقة البرجوازية وظهور اتجاهات إصلاحية بدأ يحدث تغيّر في أساليب العقاب.
فوكو يقول إن الجانب الإنساني لم يكن الدافع الأساسي وراء الابتعاد عن مظاهر القسوة، بل كان هذا التحول فرصة لتفادي المشكلات المرتبطة بالعقوبات القديمة مع استحداث أسلوب جديد للعقوبة أكثر فاعلية وتأثير. وهنا ولد السجن بمفهومه الحديث الذي يعتمد على تغيير السلوك (وليس فقط إلحاق العقاب الجسدي) من خلال المراقبة والإجراءات الإصلاحية، وأصبحت العقوبة في العصر الحديث تحدث في الخفاء، بينما الدلائل والمحاكمة علانية.
كيف يتحول المجتمع لقتلة وقتلى؟
في سبتمبر عام 2013 في مدينة كرمانشاه بإيران فوجئت عائلة بابنهم الذي يبلع الثامنة وقد بدت على وجهه مظاهر الرعب والخوف. يذهب الأهل وراءه ليفاجئوا برؤية ابنهم الآخر ذو الـ12 عامًا ميتًا ومعلقًا من رقبته. عندما سألوا الابن ماذا حدث قال إنه لعب مع أخيه لعبة يساعد فيها كلًا منهما الأخر في شنق نفسه. ما كان يفعله هؤلاء الأطفال في الحقيقة محاكاة للإعدام العلني الذي شاهدوه مؤخرًا، حيث ما زالت إيران تطبق تلك العقوبة.
يشير تقرير لمنظمة العفو الدولية المقدم للجنة حقوق الطفل بالأمم المتحدة، إلى أن الحادثة ليست الوحيدة بل هي ضمن سلسلة من الحوادث المتكررة منذ عام 2013 في إيران التي كان يحاكي فيها أطفال بعمر السابعة والثامنة والثانية عشر الإعدامات العلنية التي يشاهدونها.
علم الجريمة المعاصر والإعدام
منظمة العفو الدولية تقول إنه لا يوجد دليل قاطع على أن عقوبة الإعدام عقوبة رادعة. فمعدل الجريمة في 2004 في الولايات الأمريكية التي تطبق عقوبة الإعدام كان أعلى من معدل الجرائم في الولايات التي لا تطبق العقوبة ذاتها. وأما في كندا انخفض معدل الجرائم عام 2003 بنسبة 44% منذ إلغاءها في عام 1975. وتقول المنظمة إن تطبيق عقوبة الإعدام على جرائم الاتجار بالمخدرات في دول مثل السعودية وإيران (من الدول القليلة التي مازالت تطبق الإعدام العلني)، لم يثبت بأنها كانت أكثر ردعًا من عقوبة السجن.
يرى الكثير من الخبراء في علم الجريمة، أن الإعدام عقوبة غير رادعة. أجرى الباحثان مايكل رادليت ورونالد ايكرس دراسة حول رؤية الخبراء الأمريكيين في علم الجريمة عقوبة الإعدام، فاستطلعت الدراسة آراء عدد كبير من أبرز الخبراء في علم الجريمة ورؤساء أهم المؤسسات العلمية المتخصصة فيه. ليتفق أغلبهم على أنه ليس هناك أدلة تثبت أن عقوبة الإعدام تردع الجريمة.
عدد كبير من الدراسات أثبت العكس تمامًا، وهو ما يطلق عليه فرضية “التعنيف”. حيث إن الإعدام يقلل من قيمة الحياة الإنسانية والحق في الحياة. فتقول فرضية التعنيف إن العقوبة ترسل رسالة غير مباشرة للجمهور بأن من يرتكب خطأ في حق شخص أخر يستحق عقوبة قاتلة. فتقول الفرضية إن تلك العقوبة يضعف الموانع الاجتماعية التي تقف حائلًا أمام جرائم القتل، ويعطي انطباعًا بأن القتل الوسيلة الوحيدة لحل المشكلات في عقول من لديهم أصلًا ميول للعنف.
أهم تلك الدراسات، تلك التي أجراها جون كوشران وميتشل شاملين في ولاية أوكلاهوما في الولايات المتحدة عقب إعدام تشارلز كولمان (القاتل المتسلسل الشهير) وجاء هذا الإعدام بعد سنين طويلة من توقف العمل بالعقوبة في الولاية.
وتوصلت الدراسة إلى أن معدل جرائم القتل زاد عقب إعدام كولمان، ما يثبت صحة فرضية التعنيف. كما توصلت العديد من الدراسات الأخرى في الولايات الأمريكية التي تطبق عقوبة الإعدام إلى نفس النتيجة بأن جرائم القتل تزداد بشكل ملحوظ عقب صدور أحكام مماثلة.
الإعدام: اتجاه عالمي نحو الإلغاء
قلة من الدول تطبق الإعدامات العلنية اليوم أبرزهم إيران والسعودية والصومال وكوريا الشمالية. وتواجه تلك الدول انتقادات حقوقية ودولية حادة بسبب ذلك. لكن ليست الإعدامات العلنية هي المرفوضة فقط، بل الإعدام بشكل عام، إذ أصبح هناك اتجاه متزايد لرفضه عالميًا.
الجمعية العامة للأمم المتحدة نادت في قرارها سابق لها بوقف العمل بعقوبة الإعدام، مشددة على أن “وقف العمل بالعقوبة يساهم في احترام كرامة الإنسان وتعزيز حقوق الإنسان وتطويرها تدريجيًا، وإذ ترى أنه لا يوجد دليل قاطع على أن لعقوبة الإعدام قيمة رادعة”، القرار شهد تصويت 123 دولة لصالحه.
ومن المنطلق الحقوقي، تقول المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان نصًا: “لا يتماشى استخدام عقوبة الإعدام مع الحق في الحياة والحق في العيش في مأمن من التعذيب أو المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة”. كما تضيف المفوضية أن 170 دولة حول العالم إما ألغوا العقوبة نهائيًا أو أوقفوا العمل بها.