“ولا حد شاف فين مكاني ورا الشبابيك”، بعتاب للبلد ولنفسه اختار الشاعر الكبير مجدي نجيب أن يكتب عن “الشبابيك” التي تفصل بين عالمه في السجن وبين عالم الناس والأهل والأحباب.
بصوت محمد منير خرج للناس وجع “شبابيك” السجون المغلقة على أصحابها التي تحاصر روحهم قبل أن تحاصر حريتهم.
من وراء جدران السجن تخرج الحكايات التي تعيش للأبد.
شبابيك التي كُتبت من السجن وعنه، وعاشت وعاش كاتبها ومغنيها وملحنها في قلوب ملايين من الذين يحلمون بهدم الشبابيك وبأمل الحرية.
اقرأ أيضًا.. عن “أحزاب يناير”.. وإليها
أنت لم تهزم بعد، هكذا بشرنا علاء عبد الفتاح في عنوان كتابه الذي صدر وهو مسجون، علاء يبشرنا بالأمل الباقي في نفوس الجميع وإن حاصرهم الإحباط، أمل لا يقتله القهر، ولا يسجنه السجن، ولا يقيده هؤلاء الذين يرغبون في أن يعلن الشاب “الثائر” ومن يشبهونه الهزيمة قبل أن يرفعوا راية الاستسلام، أو التسليم.
ولعل هذه هي التهمة الأولى لعلاء عبد الفتاح المسجون لأنه يقاوم، والمقيد الحرية لأنه يؤمن بحتمية الانتصار، والبعيد عن الأحباب لأنه يلهم هؤلاء الباحثين عن الغد الغائب، والسجين لأنه يبني بيوت الحرية فتشع نورا في جيل لا زال يقاوم بدموعه وبانتطاره على أبواب الحلم.
خلال عشر سنوات مرت منذ الثورة الحلم سطعت نجوم وتلالأت في سماء وطن يشعر طوال الوقت بالعتمة، كان علاء أحد هذه النجوم الزاهرة، تنير الطريق لليائسين والمترددين، وتلهم جيلا لا زال يحلم، وتمنح الأمل للمحبطين، وتمزج الأقوال بالأفعال، وشعارات النضال بالنضال ذاته، فلا خوف ولا تردد ولا انكسار.
في أوطان تزعجها الحرية، وتقض مضاجع سادتها كل الأصوات التي تبحث عن الغد، ويقلقها أن أحدا يتمسك بكل ما يؤمن به بلا تردد، كان من الطبيعي أن يكون علاء عبد الفتاح سجينا، وأن يكون التنكيل هو الجزاء الطبيعي على اعتقاده أن شيئا يمكن أن يتغير!
في محاولات هزيمة يناير وأفكارها يؤمن البعض أنه لابد من “دهس” رموزها الشابة في طريق ترسيخ الجديد القديم، هذه الرموز الشابة التي ما زالت تواجه -بالحلم فقط- هؤلاء الذين جثموا على أنفاس الحلم ذاته، فحولوه إلى كابوس لا فكاك منه.
في داخل النظام الحالي جناح ينتقم من كل ما يمثل ثورة يناير، يظن أن هزيمتها ممكنة إذا ما قيد حرية رموزها وممثليها وحاصرهم في بيوتهم أو في الزنازين أيهما أقرب، بهذا المنطق الشاذ يمكن فهم طبيعة حبس علاء عبد الفتاح، وغيره، لسنوات طويلة ضاعت من أعمارهم بلا أسباب اللهم رغبة هذا الجناح في الإيذاء والتنكيل بكل ما يتعلق بيناير.
في نهاية المطاف سينتصر علاء وكل من ينتمون لثورة يناير، فالتاريخ يشهد أن الأفكار لا يمكن حبسها في زنازين، وأن قطار الغد والمستقبل سيدهس هؤلاء الواقفين في الماضي دون فهم ودون اقتناع بأن شيئا قد تغير، سيدهسهم المستقبل ما لم يقتنعوا بأن شبابيك السجون لن تظل مغلقة على من هم بداخلها مهما طال الزمن، ومهما حاول أنصار القمع والحصار.
بحسابات الحكمة فإن الإفراج عن علاء عبد الفتاح وكل مسجون لأسباب سياسية ولم يمارس العنف هو الطريق الأسلم، وهو الأمر الذي سيحدث بلا شك، الأهم أن يحدث بدون المزيد من الخسائر، تلك الخسائر التي يدفعها علاء، ومن هم مثله، من أعمارهم ومستقبلهم وأمان واستقرار أسرهم.
ربما يحتاج علاء وكل المحبطين الآن إلى التذكير بعنوان كتابه الصادر بينما هو خلف القضبان: أنت لم تُهزم بعد، فلا الأفكار تنهزم ولا الإيمان بها يتراجع في النفوس، ستلهمك تلك الأفكار القوة، ولن تنهزم ما دمت مؤمنا أن القادم لا يمكن أن يكون مثل القديم، وأن عجلة التاريخ لا يمكن أن تتوقف، وأن المستقبل القادم سيرسم ملامحه كل المؤمنين بضرورة أن يكون أفضل وأكثر متسعا للعدل والحرية والجمال.
أشعر أن علاء عبد الفتاح في سجنه الآن يتذكر كل هذا، وأؤمن تماما أنه وسط كل الإحباط واليأس سيبتسم ويغني مع منير ومجدي نجيب أغنيتهم الخالدة: “أنا بعت الدموع والعمر
طرحت جنايني في الربيع الصبر
وقلت أنا عاشق سقوني كثير المر
ورا الشبابيك”.
ستنكسر الشبابيك ليطل من بينها كل الذين غابوا وآمنوا وبشروا بأننا: لم ننهزم بعد.