المتابع للشأن السوداني عبر سنوات عمره، لابد وأن يشعر بأسى وحزن عميق لما تؤول إليه الأمور من عجز سياسي، واتساع لدوائر العنف التي أصبحت مهددة لأمن الناس اليومي فضلا عن معاناتهم لتلبية شتى متطلبات الحياة. وعلى الرغم من تميز أهل السودان تاريخيا بتقديم مبادرات سياسية غير مسبوقة، فإن قواهم السياسية تعجز دوما عن توافق يفضي إلى تغيير إصلاحي مستدام يضمن استقرار الدولة، ويضمن قدرتها على القيام بأهم وظائفها وهي التنمية وتطوير حياة الناس على نحو أفضل.
وتحت مظلة هذا التناقض السوداني التاريخي تتسع حاليا دوائر ممارسة العنف بكافة أنواعه، حيث كانت آخر مظاهر العنف السياسي هو ما جرى في منطقة باشدار حيث تم الاعتداء على قادة سياسيين من تحالف الحرية والتغيير المركزي، وهم قادة تولى كثير منهم مناصب ومسئوليات سياسية على عهد حكومتي عبد الله حمدوك بين نهاية 2019 وحتى خريف 2021.
اقرأ أيضًا.. الحوار الوطني المصري.. هل من أبعاد إقليمية؟
مسئولية ممارسة العنف ضد الساسة غالبا ما تتفرق بين قوى النظام الأمني التي تريد المحافظة على حالة السيولة السياسية والأمنية في السودان، وبين شباب لجان المقاومة. الطرف الأول يريد الحفاظ على حالة السيولة الأمنية والسياسية ليكون السياق العسكري هو الحل المناسب والملائم للحفاظ -طبقا لتقديراتهم- على مؤسسة الدولة في السودان، بينما يتم تعرية المدنيين ووصمهم بعدم الكفاءة بسبب انقساماتهم. أما الطرف الثاني من شباب لجان المقاومة فإنهم لا يسامحون على ارتكاب نخب الحرية والتغيير (المركزي) خطايا سياسية ويتناسون أن بعضا من هؤلاء وبقيادة حمدوك قد أخرجوا السودان من عزلة دولية ورفعوا اسم بلادهم من قائمة الدولة الراعية للإرهاب، ومكنوها من الاستفادة من مبادرة هيبك التي تتيح الإعفاء من الديون الدولية.
العقلية الصفرية السائدة في السودان تجاهلت أن هؤلاء الساسة الذين تم الاعتداء على رموزهم مؤخرا في مظاهرة باشدار التي حاولت إعلاء روح الوطنية السودانية الجامعة ضد عنف قبلي تتسع دوائره وتتعدد مناطقه، تجاهلت تحالف قيام الحرية والتغيير (قحت) بمراجعات تقييم لأدائهم الثوري والسياسي، وهو أمر غير مطروق غالبا في منطقتنا ولكن أقدم عليه السودانيون كعادتهم، إذ هم أصحاب المبادرات النوعية على مدى عقود في تاريخنا الحديث، وقد يكون أيضا لإعادة تسويق تحالف الحرية والتغيير سياسيا خصوصا فيما يتعلق بمسألة الشراكة مع المكون العسكري في الوثيقة الدستورية المبرمة بأغسطس/آب 2019.
من المهم الإشارة هنا إلى أن ما جرى في ندوة نظمتها جريدة الديمقراطي كان هاما ومطلوبا، وذلك بشأن تقييم فترة حكم تحالف الحرية والتغيير، بنواته الصلبة (تجمع المهنيين) الذي قاد ثورة ديسمبر 2018 في السودان، ثم حكم البلاد في فترة انتقالية بموجب وثيقة دستورية تم إبرامها في أغسطس/آب 2019، وانتهت في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2022.
مخرجات الندوة بشكل عام ركزت على أمرين: أثر الانقسام السياسي على عملية ممارسة السلطة وكذلك أثرها في اختلال توازنات القوة بين المكونين العسكري والمدني، وهو ما كنا نبهنا إليه، وركزنا على الإشارة إلى أثره السلبي على نجاح الثورة ذاتها في عدة مقالات هنا.
كما أشارت المراجعات إلى فكرة مهمة أخرى وهي انعدام الكفاءة السياسية للكوادر السياسية والمستوزرين بشأن طبيعة أجندة التغيير ومراحلها، حيث تم تجاهل قدرة النظام القديم وقواه السياسية والاقتصادية والاجتماعية في تقويض الثورة ذاتها من ناحية، وكذلك فكرة إمكانية فقد السند الجماهيري الداعم مع الوقت وخصوصا وأن هذا السند غير منظم هيكليا.
وربما تكون فكرة انعدام الكفاءة لا يتحمل مسئوليتها من مارس السلطة بعد الثورة وحدهم، بقدر ما تتحملها نظم شمولية امتدت لفترات طويلة في منطقتنا، وبالتالي منعت الممارسة السياسية الطبيعية التي تتيح فرص التدرب والتعلم والتفاعل الصحي بين الأطراف السياسية في أي بلد، ومن ثم امتلاك التقديرات السياسية الموضوعية والصحيحة والتي تمكن من نجاح الأداء السياسي في مراحل تغيير السلطة.
بطبيعة الحال لا يعاني السودانيون وحدهم من مسألة انعدام الكفاءة السياسية، ولكن تعاني منها أيضا نخب سياسية عدة في منطقتنا وفي أحزابنا السياسية خصوصا الأفريقية، وهي مسألة تم الإشارة لها في مؤتمر الاتحاد الأفريقي بغانا الذي تم عقده في مارس/آذار الماضي وتشرفت بحضوره، وكان تحت عنوان التغييرات غير الدستورية في القارة الأفريقية.
في مسألة الانقسامات السياسية يمكن الإشارة إلى ضرورة معالجة حالة الثأر التاريخي بين الحزب الشيوعي السوداني وباقي الأحزاب السودانية، وهو الانقسام الذي تبلور مؤخرا في تكوين الحزب الشيوعي جسما سياسيا جديدا هو تحالف الحرية والتغيير “جناح الجذري” في مقابل “جناح المركزي” الذي يضم غالبية القوى السياسية. وتبدو هذه المعالجة متطلبة لمبادرات مرشح أن يقوم بها في تقديري شباب من لجان المقاومة الذين تتوافر فيهم قدرة على صناعة التوافق بين الأحزاب الكبرى في السودان، وكذلك قدرة على تجاهل حالة المزايدات السياسية من باقي الأطراف، وهي مسائل لابد وأن تكون مؤسسة على فهم أن المعادلات الصفرية لم تحقق تقدما في المشهد السياسي السوداني حتى اللحظة الراهنة، وأن السودان كبلد مهدد تهديدا وجوديا فعليا.
المشكل الرئيسي هنا أن عملية تجاهل قدرات النظام القديم ممتدة في تجاهل تداعيات العنف القبلي في السودان وأثره ليس فقط على استمرار الثورة وقدرتها على إحداث التغيير، ولكن أيضا على استمرار مؤسسة الدولة في السودان وسلام وأمن مواطنيها.
وفي هذا السياق، فإن العنف الذي جرى في ولاية النيل الأزرق معضلته الرئيسية أنه يمكن أن يستدعي شعوب الهوسا من كل دول غرب السودان إلى الداخل، في مواجهة مع القبائل المستقرة في المنطقة وأهمهما الفونج، وهما الطرفان الأساسيان اللذين مارسا مواجهة عنفية امتدت بين عدة مدن في ولاية النيل الأزرق وأوقعت أكثر من مائة ضحية، كما أن يستدعي صراعا موازيا بين كل القبائل الرعوية السودانية وبين القبائل المستقرة في مناطقها.
عملية الصراع القبلي في السودان تدفعها طموحات سياسية لبعض الساسة وفي حالة النيل الأزرق فإن الشواهد تشير إلى إمكانية تورط مالك عقار في صناعتها وهو العضو السابق في المجلس السيادي، وأحد أطراف اتفاقية جوبا للسلام باعتباره زعيما لحركة مسلحة، ويبدو أن حسابات عقار في الاستقواء بشعوب الهوسا التي تطالب بنظارة محلية، (تكوين محلي) وهي لا تملك أراض في ولاية النيل الأزرق وذلك على حساب قبائل الفونج ذات الغالبية السكانية والممتلكة للحواكير أي الأرض التي هي شرط لازم لامتلاك الهيكل المحلي أي النظارة.
وتبدو أن أسباب عقار في الاستعانة بقبائل الهوسا أنه لا يمتلك قاعدة قبلية ترشحه أن ينجح في أي انتخابات عامة قادمة بالسودان، وهو التطور الذي يبدو أن التفاعلات السياسية المحلية والإرادتين الإقليمية والدولية قد تقود له في وقت قريب باعتباره الحل الوحيد لمعالجة فراغ حالة فراغ السلطة الشرعية أولا، والصراع السياسي بين الأطراف ثانيا، وربما هذا ما يفسر أن غالبية الرموز السياسية السودانية في المرحلة الراهنة تنسج علاقات بالمكونات القبلية المنتمية إليها أو الأقرب لمصالحها وذلك في كافة المناطق السودانية شرقا وغربا جنوبا وشمالا من هنا فإن الصراع السياسي في السودان مرشح أن يتخذ عمقا ومظهرا قبليا، وهو ما يفتح بوابة العنف بين جميع الأطراف، ولعله في هذه الحالة لا نملك إلا أن ندعو أن يسلم الله السودان وأهله.