في أواخر مارس/ آذار، طلب المدعي العام في إسطنبول، والذي كان يحقق في قضية مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي. من وزارة العدل التركية إحالة القضية إلى السعودية. كانت هذه المحاولة لإخفاء التحقيق، بداية جديدة، سمحت للحكومة التركية بالشروع في إصلاح علاقتها مع الرياض.

بعدها، زار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان العاصمة السعودية. حيث التقطت له صورة جيدة مع ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان. بعد بضعة أشهر، قام محمد بن سلمان برحلة إلى أنقرة.

كانت الصداقة المفاجئة بين الجانبين مفاجأة. بعد مقتل خاشقجي بوحشية في القنصلية السعودية في اسطنبول عام 2018، قادت الحكومة التركية حملة دولية لفضح دور الدولة السعودية في الجريمة. وشاركت تركيا تسجيلًا صوتيًا من مسرح الجريمة مع حلفائها. بينما كتب أردوغان نفسه مقال رأي في صحيفة الواشنطن بوست -حيث كان خاشقجي يكتب عموده- ألقى فيه باللوم على النظام السعودي في جريمة القتل.

كان هذا التأكيد نموذجيًا للسياسة الخارجية التي اتبعتها تركيا في معظم العقد الماضي. حيث سعت إلى إعادة تشكيل الشرق الأوسط على صورتها الخاصة. دعمت أنقرة فروع جماعة الإخوان المسلمين في جميع أنحاء المنطقة، وأدانت علانية السياسات الداخلية لدول الخليج. ووسعت أنشطتها العسكرية في سوريا والعراق. وفي شرق البحر المتوسط ​​، كانت دبلوماسية الزوارق الحربية التركية في مواجهة تكتل يضم السعودية والإمارات ومصر وإسرائيل.

اقرأ أيضا: تركيا والناتو.. هل يمكن لأردوغان “الضعيف بالداخل” دعم نفوذه بالخارج

مع ذلك، فقد غيرت البلاد مسارها الآن. تشكل مفاتحات أنقرة الأخيرة للرياض جزءًا من جهد أوسع لتحسين علاقاتها مع خصومها السابقين في الشرق الأوسط. يعتزم أردوغان تعديل هذه العلاقات مع الواقع الجديد في المنطقة. والأهم -بالنسبة له- في السياسة التركية.

توضح ورقة سياسات أعدتها آشلي آيدنتدسباس للمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية. أن الرئيس التركي صار يقر بـ “أننا بحاجة إلى الدخول في عملية جديدة مع دول المنطقة التي نتشارك معها نفس الإيمان والأفكار. هذه ليست عملية حول زيادة أعدائنا، بل تتعلق بكسب الأصدقاء”.

عملية توازن جيوسياسية

كما يجادل جوليان بارنز-داسي وهيو لوفات من ECFR. فإن دول الشرق الأوسط مصممة بشكل متزايد على تقليل اعتمادها على الغرب لتصبح أكثر اكتفاءً ذاتيًا. لذلك، في منطقة متعددة الأقطاب بشكل متزايد، لا يمكن لتركيا أن تكون قوة ليس لها شركاء سوى قطر. ولا تريد أن تكون قمراً صناعياً للغرب.

تشير آشلي إلى أنه يمكن القول إن الهدف الرئيسي لأنقرة في الشرق الأوسط يتمثل الآن في الانخراط في عملية توازن جيوسياسية تعزز اقتصاد تركيا وتحمي مصالحها الأمنية قدر الإمكان. يرجع ذلك إلى أن أردوغان يركز بشكل أساسي على حماية النظام، في طريقه إلى انتخابات عامة في عام 2023.

تقول: بعد عقدين في السلطة، يواجه أردوغان احتمالية حقيقية لهزيمة انتخابية. إنه بحاجة إلى تعزيز اقتصاد تركيا المحاصر بأي طريقة ممكنة. ويبدو أن أفضل طريقة لخدمة هذه القضية هي العودة إلى العلاقات التبادلية مع دول الخليج.

بينما يحدث هذا، والحديث لآشلي، سيحتاج الاتحاد الأوروبي إلى فهم البراجماتية الجديدة لتركيا في الشرق الأوسط -والشعور بالضعف الكامن وراء ذلك- إذا أرادوا تحسين علاقاتهم واغتنام الفرص الناشئة للتعاون مع أنقرة في مختلف قضايا السياسة. والاستعداد لتحول محتمل في السلطة.

خفض التصعيد على عدة جبهات

بحلول أوائل عام 2021، كانت تركيا معزولة في الشرق الأوسط، وواجهت تهديد عقوبات الاتحاد الأوروبي. وكانت تعاني من تدهور اقتصادي حاد. حافظ حزب العدالة والتنمية الحاكم على قرع طبول الاتهامات ضد القوى الخارجية التي يُفترض أنها تهاجم تركيا. لكن هذا لم يفعل شيئًا يذكر لمنع المشكلات الاقتصادية للبلاد من زعزعة هيمنة الحزب طويلة الأمد على السياسة التركية.

على مدار العام نفسه، تواصلت تركيا بهدوء مع مصر وإسرائيل والإمارات، وأخيراً المملكة العربية السعودية. من خلال الاتصالات الدبلوماسية والاستخباراتية، حاولت أنقرة تهدئة نزاعاتها طويلة الأمد معها جميعًا. فاجأت السرعة التي فعلت بها ذلك العديد من صانعي السياسة الأوروبيين.

بناءً على دعوة المستشارة الألمانية -آنذاك- أنجيلا ميركل. سحبت تركيا سفنها في مجال التنقيب عن الطاقة والسفن البحرية في شرق البحر المتوسط، وهي خطوة أعاقت عقوبات الاتحاد الأوروبي. وبدأت محادثات مباشرة مع اليونان. كما طورت خارطة طريق لخفض التصعيد مع فرنسا.

وكجزء من محاولة لتحسين العلاقات مع الرئيس الأمريكي جو بايدن، قلص أردوغان مؤقتًا الحملة العسكرية التركية ضد الأكراد في سوريا. وبدأت الحكومة التركية مفاوضات مع الاتحاد الأوروبي بشأن تغير المناخ، وتجديد اتفاق 2016، الذي يقتضي بتقديم مساعدات مالية، مقابل استضافة تركيا لملايين اللاجئين السوريين.

كان تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة وأعضاء الاتحاد الأوروبي هدفًا رئيسيًا آخر لوقف التصعيد. بالنسبة لإدارة بايدن وحكومات أوروبا. كانت تحركات تركيا الجازمة والتعديلية في جوارها مصدرًا لعدم الاستقرار الإقليمي. القادة الغربيون -بما في ذلك بايدن- أبقوا نظيرهم التركي على مسافة ذراع، وتجنبوا الدبلوماسية الشخصية التي ميزت علاقة أردوغان مع دونالد ترامب.

تلفت آشلي إلى أن قادة أوروبا لم يعقدوا قمم مع أردوغان، بل “اختاروا بدلاً من ذلك مقابلته على هامش الاجتماعات متعددة الجنسيات”.

اقرأ أيضا: التصعيد في إدلب.. مدخل لفهم “التحالف الصعب” بين بوتين وأردوغان

محاولات تحسين العلاقات

لم تعمل سياسة خفض التصعيد على تحسين العلاقات مع إدارة بايدن على الفور. ولكن -في الوقت المناسب- لاحظت واشنطن جهود أنقرة لإصلاح العلاقات مع حكومات الشرق الأوسط الأخرى.

وبسبب دعمها لأوكرانيا. من خلال بيعها طائرات بدون طيار، وعملها على منع السفن العسكرية الروسية من دخول البحر الأسود. في نهاية المطاف، حصل أردوغان على لقاء مع بايدن وقادة الاتحاد الأوروبي في قمة الناتو في يوليو/تموز. بعد الموافقة على رفع حق النقض التركي على طلبات السويد وفنلندا للانضمام عضوية الناتو.

مع ذلك، بينما عكست أنقرة مسارها، لم يكن الجميع في المنطقة ينتظرون بأذرع مفتوحة. قوبلت تركيا في البداية برد حذر، عندما حاولت التواصل مع دول أخرى في الشرق الأوسط. وعدت دول الخليج وإسرائيل بمزيد من التعاون والاستثمارات، لكنها كانت مترددة في المتابعة حتى تتأكد من أنها غيرت موقفها الاستراتيجي حقًا.

تلفت الباحثة بالمجلس الأوروبي إلى أن مصر كانت أكثر ترددًا من دول الخليج. حيث رضيت بالمشاركة المؤسسية الهادئة مع تركيا، بشأن القضايا المتعلقة بليبيا وأجزاء أخرى من أفريقيا. لكن، لم تكن هناك اجتماعات بين أردوغان والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.

كانت الإمارات -أكبر منافس سياسي لتركيا في السنوات القليلة الماضية- تضع العلاقة مع تركيا تحت الضغط بسبب الصراع الليبي. واعتقاد أنقرة أن أبو ظبي دعمت محاولة الانقلاب ضد أردوغان في عام 2016. في مقابل الدعم التركي للإخوان المسلمين.

جاء ضغط أنقرة من أجل خفض التصعيد مع أبو ظبي، بعد أن هرب رجل عصابات تركي رفيع المستوى، هو سيدات بيكر. في مايو 2021 إلى دبي. والذي شرع في صنع مقاطع فيديو تكشف الفساد وانتهاك القانون في المستويات العليا من النظام السياسي التركي. تواصلت تركيا مع أبو ظبي لإسكات بيكر، والتي بدأت في النهاية محادثة تهدف إلى حل الخلافات بين الجانبين.

بعد شهور من الدبلوماسية، زار ولي العهد الشيخ محمد بن زايد آل نهيان أردوغان في أنقرة في نوفمبر/ كانون الثاني 2021. وفي فبراير/ شباط 2022، سافر أردوغان إلى أبوظبي، في محاولة لتحسين العلاقات.

التقارب مع القاهرة

كانت عملية التطبيع التركية أبطأ مع مصر. أرسلت أنقرة وفدين دبلوماسيين إلى القاهرة في عام 2021 لمحاولة إصلاح الأضرار الناجمة عن خلافاتهما. حول الصراع الليبي، والدعم التركي لجماعة الإخوان المسلمين، وخطط خط أنابيب البحر الأبيض المتوسط ​​الذي سيتجاوز تركيا.

تقول آشلي: أدى هذا إلى انفراج ولكن ليس عناق. تركيا ومصر على دراية بنفوذ بعضهما البعض في المنطقة، وحريصان على تجنب التصعيد، خاصة في ليبيا. تتوقع القاهرة أن تعترف أنقرة بشرعية حكومة السيسي. التي انتقدها أردوغان لسنوات، منذ الإطاحة بنظام الإخوان المسلمين عام 2013.

تضيف: في الوقت الحالي -على الأقل- يبدو أن هناك زيادة تدريجية في المشاركة بين الجانبين. والتي تعتمد على تدابير بناء الثقة، ولكن لا توجد مظاهر تعاون علنية.

أشارت آشلي إلى حزمة الإجراءات التي اتخذتها السلطات التركية من أجل التقارب مع القاهرة. حيث “ضغطت على شبكات المعارضين، ووسائل الإعلام المرتبطة بالإخوان المسلمين في إسطنبول لتهدئة نبرتهم على نظام السيسي. وفي النهاية أغلق البعض عملياتهم في تركيا. كبح أردوغان انتقاداته العلنية لنظام السيسي ولم يعد يُظهر دعمه للإخوان المسلمين.