كثُر الحوارُ عن الحوارِ، اختلفت الآراء، وتباينت ردود الفعل، وتراوحت بورصة التوقعات، واتفق الجميع على أن محفزات الحوار ما تزال أقل من المأمول، وبدا المشككون في أصل الفكرة وقد كسبوا نقاطًا أمام الذين راهنوا عليه منذ البداية، وظهرت في أوساط هؤلاء أصوات تنادي بتعليق مشاركة المعارضة في فعاليات الحوار، بعد أن خمدت جذوة الوهج الأولى التي صاحبت انطلاقة دعوة الحوار، وإن بقي الأمل في أن تسارع السلطة بتبديد أجواء الشكوك، وإعطاء الفكرة قوة دفع جديدة تصل بها إلى الدوران من جديد.

من الأمور المختلف عليها حتى الآن ما يتعلق بموضوعات الحوار، البعض رأى أن يقصره على حوار سياسي، وذهب آخرون إلى أولوية الأوضاع الاقتصادية الخانقة، ودمج كثيرون بين كل ما يمكن طرحه في الحوار من موضوعات وقضايا حتى يكاد يطرح للنقاش كل ما جرى ويجري على أرض مصر في العقد الأخير.

منذ اللحظة الأولى كنتُ أميل إلى أن ينحصر جدول أعمال الحوار في بند وحيد (على الأقل في مرحلته الأولى) يتعلق بكل ما يؤسس للجمهورية الجديدة، أن يُكرس الحوار لوضع معالم الطريق إلى الجمهورية الجديدة، وينطلق منه إلى توصيف وتحديد وتوضيح لكل عناصر التأسيس لهذه الجمهورية الجديدة.

**

دخلت فكرة الجمهورية الجديدة فضاء الجدل العام منذ مارس 2021، وصارت وسمًا (هاشتاج) ثابتًا على جوانب شاشات التلفزة، وحظيت بقدر كبير من التغطية الإعلامية، وكثُر الحديث عن تلك الجمهورية من دون أن يواكبها توصيف لماهيتها، ولم نعرف عنها غير أنها ستكون الجمهورية الثانية، وبدون تحديد الجديد فيها.

ومن بعد، ومع انطلاقة فكرة الحوار الوطني عاد الكلام عن تلك الجمهورية، وما زلتُ أقرأ مقالات، وأسمع تصريحات، تحاول أن تتلمس جوهر الفكرة، وأن تستبطن دواخلها، والتعرف على حقيقة بواطنها.

رغم الزخم الذي شهدته الأشهر الماضية، ما زال الحديث عن الجمهورية الجديدة جنينيًا، يكتنفه الغموض، وما يزال الحوار في طور التحضير، يعطله تلكؤ من جانب السلطة، وتحوطه مخاوف من المعارضة، فما يزال الحديث عنه يراوح مكانه ويدور حول مفاهيمه وضروراته ومناخاته الأساسية.

ورغم انتظام اجتماعات مجلس أمناء الحوار، إلا أن فكرة الحوار في حد ذاتها ليست من مفضلات السلطة، وإعلامها شاهد، واستجاباتها المحدودة لتهيئة مناخات تنمو فيها سنابل التحاور وزهرات التوافق، تدعو إلى القلق بأكثر مما تدعو إلى التفاؤل.

**

حديثي هنا أقصره على الحوار كما أتصوره، لا أتحدث عن الحوار كما تراه المعارضة بتبايناتها واتفاقاتها، ولست أقصد الحوار كما تنظر إليه السلطة وأهدافها المعلنة والمضمرة، نقطة حديثي الرئيسية تتعلق بالحوار كما يجب أن يكون.

الحوار كما يجب أن يكون بين معارضة لا تضمن أن يتوصل الحوار مع السلطة إلى توافق مجتمعي على قضايا هي بطبيعتها خلافية، وللمعارضة برامجها، وهي مختلفة، وإن بدا توافقهم على برنامج حد أدني يجمع اتفاقهم تحت راية الحركة المدنية الديمقراطية، وللسلطة برنامجها الذي تمعن في تنفيذه، وتصر على الاستمرار فيه، رغم بدء فاعليات الحوار مع المعارضة.

من ناحية أخرى لا تملك المعارضة قدرات حقيقية على إنفاذ الاتفاق، إن تمكنت من الوصول له، مع سلطة يمكن أن تعزف في أي لحظة عن الاستمرار في الحوار.

مثل هذا الحوار لا يجدي، واحتمالات تحوله إلى أسواق للكلام أقوى من احتمال وصوله إلى محطة توافق حقيقي، خاصة في ظل التوجه إلى فتح أبواب النقاش بين أحزاب الموالاة وأحزاب المعارضة وإشراك كل من يرغب في المشاركة، مع طرح كل الموضوعات، وهو بهذه الصورة بمثابة تضييع للوقت، وإهدار للجهد، وابتعاد عن الطريق إلى الجمهورية الجديدة.

**

نحن في حاجة إلى جمهورية جديدة، هذا صلب التوافق القائم حاليًا بين طرفي المعادلة المختلة بين السلطة والمعارضة، واليوم بعد القفز في نهر الحوار الوطني عاد الحديث عن تلك الجمهورية إلى الواجهة من جديد، واستقر على رأس جدول أعمال الحوار.

أعرف أن البعض من المعارضة قبل الحكومة يؤثر أن يضع الأوضاع الاقتصادية على رأس جدول أعمال الحوار، وأن يناقش تأثيراتها على الأحوال الاجتماعية ويتخوف من نتائجها المحتملة على استقرار البلد وسلامه الاجتماعي.

ولكني أوقن بأن إدخال الحوار الوطني في قضايا متعددة، وإشغاله بكل ما يدخل تحت بند المشاكل والمعوقات والأزمات التي تعاني منها الدولة ويعاينها المجتمع المصري، ليس إلا إهدارًا لفكرة الحوار الأساسية، والتي صارت تتصدر مقراته ولافتاته: “الحوار الوطني الطريق إلى الجمهورية الجديدة”.

**

كتبت من قبل -وما زلت أرى- أن الحوار الوطني المطلوب -وربما هو المسموح لأن يصل إلى نتائج مرضية، بحكم أنه حديث عن المستقبل- هو الحوار حول تأسيس تلك الجمهورية الجديدة، ولست أبالغ إذا قلت إنه يجب أن يكون التأسيس هو النقطة المحورية التي يُنظر من خلالها إلى باقي البنود الأخرى المطروحة على موائد الحوار.

هذه النقطة التي تفرض نفسها على أي حوار جاد وصادق تتلخص في سؤال:

ما الجديد في هذه الجمهورية الجديدة المنشودة؟

**

صار من نافلة القول التذكير بأن بناء مدن جديدة، أو تأثيث عاصمة حديثة، لا يؤسس لجمهورية جديدة، ولا كل هذه القائمة الطويلة من الإنجازات التي تمت على مدار السنوات القليلة الماضية يمكن أن تكون هي التأسيس الحقيقي لجمهوريتنا التي نتطلع إليها.

فرق كبير بين التأسيس والتأثيث، رغم الفارق الضئيل بين حروف الكلمتين.

معادلة الجمهورية الجديدة -فيما أرى- تتضمن خمسة عناصر رئيسية، إلى جانب عناوين أخرى متفرعة عنها:

أولًا دسترة نظام الحكم.

ثانيًا فك الدمج بين السلطات.

ثالثًا تهيئة البيئة القانونية لتسييد حكم القانون.

رابعًا تفكيك منظومة الفساد.

خامسًا تأسيس وبناء بيئة قانونية حاضنة لتوسيع وتعميق المشاركة الشعبية في صناعة القرار الوطني.

**

ربما لا نكون في حاجة ماسة اليوم إلى إجراء تعديلات على الدستور القائم، (كما أنه أمر لا يمكن التوافق عليه في الظروف السياسية الراهنة)، لكننا في أمس الحاجة إلى التوافق على ما يُسمي بالمبادئ فوق الدستورية، تكون الأساس المتين والتأسيس الحقيقي لجمهورية جديدة تدخلنا التاريخ مجددًا.

نحن في حاجة إلى وثيقة مستقلة يمكن أن نطلق عليه “وثيقة التوافق الوطني”، تتضمن القواعد الدستورية الأكثر سموًا من قواعد الدستور الأخرى، بحسبانها تمس قضايا مصيرية، وذات أبعاد استثنائية في النظام السياسي، وتتعلق بمستقبل الدولة، وتُعطى حصانة استثنائية تجاه التغيير والتعديل، تفوق الحصانة التي تعطى لغيرها من قواعد الدستور، يكون تعديلها أو تغييرها أو إيقافها، عبر إجراء تعديلات على الدستور أو تغييره أو تعطيله، أمرًا بالغ الصعوبة على السلطات الحاكمة.

**

أول حجر أساس للجمهورية الجديدة هو التوافق على المبادئ فوق دستورية التي لا يجوز تغييرها ولا تعديلها ولا الانتقاص منها بأي صورة من الصور، ويتم التوافق على أن شرعية أي حاكم تسقط إذا أقدم على مثل هذا التغيير أو التعديل أو الانتقاص منها، ويكون وجوبيًا على المحكمة الدستورية العليا التصدي من تلقاء نفسها بالحكم بعدم شرعية أي إجراء يتضمن تعديلًا لأيٍ من تلك المبادئ الفوق دستورية، والحكم بعدم دستورية كل ما يترتب على هذا الإجراء من قوانين أو قرارات.

وأول بند على قائمة ميثاق التوافق الوطني هو النص على غلق باب التعديلات على الدستور في صيغته النهائية بعد إقرار المبادئ لمدة 15 سنة.

وثاني بنود المبادئ فوق الدستورية عدم جواز استفادة أي رئيس من أي تعديل أثناء فترة حكمه إذا تعلق التعديل بالفترة الرئاسية، سواء ما يخص عدد المدد المسموح له بها، أو ما يتعلق بمدة الفترة الرئاسية.

**

لابد أن تتضمن تلك المبادئ قضية التداول السلمي للسلطة واعتبارها أساس الشرعية، ويجب أن يضمن الدستور والقوانين نزاهة وحرية الانتخابات، تحت الإشراف القضائي، وفقا لنظام انتخابي يضمن عدالة التمثيل للمواطنين دون أي تمييز أو إقصاء، وعلى أساس القائمة النسبية.

النص على أولوية التزام السلطة التنفيذية بالاحترام الكامل غير المنقوص للحريات الأساسية المنصوص عليها في الدستور، وفي إعلان حقوق الإنسان العالمي، وكل المعاهدات الدولية المتعلقة بهذا الخصوص، وتجريم القبض والحجز خارج نصوص القانون، وتغليظ عقوبة أي صورة من صور التعذيب المادي أو المعنوي، والقهر النفسي، واعتبارها كلها جرائم ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم، وإلزام الدولة بتعويض مادي ومعنوي لكل ضحايا القبض غير القانوني أو الحجز خارج القانون، ويشترك مرتكب الجريمة في التعويض من ماله الخاص، ومن أموال اسرته وعائلته متضامنين.

لابد أن يُنص على اعتبار حرية الرأي والتعبير وحرية الصحافة ووسائل الإعلام على رأس الحريات التي يحتاج إليها المجتمع، بكل فئاته وسلطاته ومنظماته الوطنية، وأن يحظر فرض الرقابة على وسائل الإعلام أو مصادرتها أو تعطيلها إلا بموجب حكم قضائي مسبب، ولمدة محددة، وفي حالات محددة على سبيل الحصر، ويحظر الحجب أو المصادرة لغير هذه الحالات المحددة.

**

لا شك أن نقاط هذه المبادئ فوق الدستورية أكثر مما ذكرت، وهي ستكون بالضرورة مجال واسع للحوار والتوافق عليها.

لكن يبقى أن نقطة الانطلاق وضربة البداية من التوافق على دسترة نظام الحكم.

مشكلة مصر الرئيسية -منذ بدأت تعرف الدستور في الربع الأخير من القرن التاسع عشر وحتى اليوم- تتمثل في أن الدستور ظل طول هذه المدة التي تقارب القرن ونصف القرن، لعبة الحكام، ومطية المتحكمين، لم يكتب تاريخنا في أي سطر من سطوره اسم حاكم واحد لم يتلاعب بالدستور، ولا عرفت صفحات ذلك التاريخ الطويل أي درجة من درجات الاحترام للدستور الذي أقسم كل الحكام على احترامه.

**

في تاريخ الأسرة العلوية في مصر، ومن توفيق حتى فاروق تكالب الاحتلال والاستبداد على الدستور، وجعلوه أوراقًا لا قيمة لها، وتلاعبوا بأحكامه، وضربوا عرض الحائط بكل نصوصه.

وفي تاريخ الجمهورية المصرية تم إعلان الجمهورية في ظروف استثنائية، بعد إسقاط حكم الأسرة، وطرد الاحتلال من البلاد، وحكمت مصر طوال الفترة من اندلاع ثورة يوليو وحتى دستور 1971 تحت مسمى الشرعية الثورية، وهي الفترة التي صنعت الثورة خلالها أكبر إنجازاتها التاريخية، وفي الوقت نفسه أسست نظام حكم قام على الدمج الكامل بين السلطات، ما أضر بقضية الديمقراطية، وأسس للسلطوية التي استخدمت ما تحت يدها من سلطات مدمجة في يد الحاكم للانقضاض على إنجازات تلك الفترة التي حكمت مصر فيها تحت مسمى الشرعية الثورية.

وحين دخلت مصر تحت حكم ما سمي بالشرعية الدستورية (من 1971 حتى 2019) عادت إلى سيرتها الأولى تحت حكم أسرة محمد علي، ولم تفرق كثيرًا عن مرحلة الشرعية الثورية طوال السنوات الثمانية عشر الأولى من زمن ثورة يوليو.

انتهك الدستور في مرحلة الشرعية الدستورية، وشهدت تلك الفترة أسوأ صور انتهاك الدساتير، وبيع القطاع العام في ظل نصوص دستورية لا تجيز ذلك، وانقلب السادات على ما أقره في دستور 1971، وأطلق المدد الرئاسية، ولم يستفد من تعديله، وجاء مبارك ليكون هو المستفيد الوحيد من تعديلات السادات، ومكث في الحكم قرابة ثلاثين سنة متصلة، ووصل الأمر إلى التلاعب بنصوص الدستور لتحمل نجله الصغير إلى سدة الحكم من بعده.

كل تلاعب بالدساتير كان هدفه الأساسي ومبتغاه الرئيسي أن يبقى الرئيس في سدة الحكم حتى وفاته، لم تنعم مصر -حتى اليوم- برئيس قبل أن يخرج من الحكم طواعية بانتهاء مدته الدستورية، حتى وصل الأمر إلى أن يفكر أحدهم في توريث الحكم لنجله.

**

لكل ذلك نقول إن دسترة نظام الحكم تعني الكثير في عملية التأسيس، ولكني أركز هنا على ثلاث نقاط بغيرها لا نستطيع أن ندعي أننا بإزاء تأسيس حقيقي للجمهورية الجديدة:

أولها: قصر المدد الرئاسية على فترتين رئاسيتين متواليتين، حتى لو بعث الله لنا نبيًا مرسلًا، أو أنزل إلينا ملكًا مجنحًا.

وثانيها: تحجيم سلطات واختصاصات الرئيس ووضعها في إطار مؤسسي دستوري يقوم على الفصل بين السلطات واحترام اختصاصات كل سلطة وعدم الجور عليها.

وثالثها: أن يواكب تأسيس الجمهورية الجديدة إعادة تأسيس للمحكمة الدستورية العليا لتكون هي المرجعية العليا، وأن تكون مهمتها الأساسية هي الحفاظ والسهر على حراسة الدستور وتطبيق القانون وتكريس وحماية وتكريس مبدأ الفصل بين السلطات.

**

دسترة نظام الحكم هدفها الرئيسي هو إخراج مصر من جعبة الحاكم، وإنزال الرئيس من موقع القائد الملهم، والزعيم التاريخي، والفيلسوف العارف بكل شيء، المطلع على كل صغيرة وكبيرة، إلى موقع الموظف الأعلى رتبة في سلم الموظفين بالدولة، يؤدي دورا يرسم الدستور حدوده، تقيده القوانين، وتراقبه السلطتان التشريعية والقضائية، يمارس وظيفته لمدة محددة سلفا، ويمضي بعد انتهائها.

لا جمهورية جديدة بدون إخراج مصر من جعبة الحاكم، والقضاء على أي فرصة لتحويل الرئيس إلى فرعون، يحكم ولا يحاسب، ويتحكم ولا من رقيب، ويتجبر وليس من رادع.

وتلك هي المسألة.

**

(المقال المقبل نواصل الحديث: جمهورية الدمج بين الثورات والفصل بين السلطات)