أتذكر أفكاري في سنوات الطفولة الأولى حين أمسكت مسبحة والدي وحاولت تحريك حباتها. جربتها مرة وثلاثا وعشرات المرات في محاولة لفك لغز تلك الكرات التي تدور بين أصابعه. ما المغزى من وراء إزاحة ذلك الخرز المنظوم في الخيط ليتبعه آخر في حركة رتيبة منتظمة. وذلك في جو من السكينة لا يسمع فيه سوى تكتكات الخرز لحظة الاصطدام.
كان أبي يجلس ساعات وأياما على الهيئة نفسها لا يشغله من الدنيا شيء. فقط المسبحة تدور في يده. أتذكر جيدا حين سألته عن سبب استخدام تلك الأداة غير المفهومة. أخبرني بأنها للذكر والتسبيح. ولكني لم أفهم لماذا يحتاج الذكر إلى أداة للحساب. ألا يكفي أن يذكر دون أداة أو حركة.
حين بدأ جسدي وأفكاري في النمو ودخلت مرحلة المراهقة كنت قد كونت فكرة نتيجة مشاهدتي السطحية لعدم جدوى تلك الأداة البسيطة. ولما سمعته من شيوخ المساجد ببدعية المسبحة وبعض السخرية ممن يعدون أذكارهم ويضعون المسبحة حول أعناقهم من الدراويش والجوّالة.
بالطبع لم أصارح والدي ولكني لا أتذكر أني عدت إلى تجربة مسبحته طوال ثلاثين عاما. فقط احتفظت بأفكاري لنفسي ضمن باقي أفكار المراهقة المتمردة وحماس الشباب. لن أقبل أن أجلس ممسكا المسبحة منعزلا عما حولي. سوف أتحرك دائما وأتفاعل. أتشاجر وأثور. سوف أغير العالم.
انضمت المسبحة إلى سلسلة طويلة من الأفكار التي أنكرتها على نفسي. الموسيقى الكلاسيكية وكتب التاريخ وأفلام ما قبل الألوان وحب الانعزال. ثم مضت سنوات من الزحام والركض والثورة. سنوات من الجدال والشك والنضال حتى حانت لحظة الحقيقة.
كنت دائم الانتقاد لجيل أبي. الجيل الذي تصالح مع الاستبداد ورضي بالخنوع. الجيل الذي أحب “عبد الناصر” وأخلص له. الجيل الذي مرت عليه الهزيمة والنصر دون دروس أو عبر. أحبوا “ناصر” وآمنوا به ونصروه. ثم صدقوا السادات بعد أن انتصر ورفع راية السلام. وبعد ذلك استكانوا مع مبارك ليلتقطوا أنفاسهم. لكي يرضوا بحياة “أكل العيش” وتربية الأولاد.
قضيت سنوات وسنوات أركض هربا من صورة والدي وجلسته المحببة منعزلا في غرفته وبين أصابعه تدور حبات الخرز. دون أن تتحرك شفتاه ودون أن تختلج جوارحه بينما صورة جمال عبد الناصر معلقة في غرفته.
قرأت في صغري أدبيات السجون وخصوصا ما كتبه محمود السعدني. أحببت التجربة والنضال وتحمل الكلفة. حين أصدر “السعدني” كتابه الأخير وهو مجمع لعدد من المقالات المنشورة له اشتريت الكتاب فورا مع أول طبعة له. قرأت الكتاب ولكني لم أجد في الكتاب “الولد الشقي” الذي خرج من السجن. بل وجدت شيخا مهذبا يتحدث بسخرية تليق بعواجيز المقاهي. وبحكمة تليق برواد صالونات الزمالك. احتوى الكتاب على مقال للسعدني يدعم فيه الرئيس مبارك. مشددا على أبرز محاسنه وهي أنه “لا يحبس المعارضين”. أتذكر صدمتي وقتها من المناضل الذي أصبح أقصى أمانيه هو ألا يكون مهددا. وأن يقضي الباقي من حياته في سكون.
في أيامي الأولى من السجن أهداني زميل مسبحة حباتها من الخشب. صنعت خصيصا لي خلف القضبان. مطرز عليها بالخيط اسم الحبيبة بعد أن فرقتنا الأسوار والحرس. كما أهداني آخرون كتبا للتاريخ وراديو صغيرا. بعد أيام الاضطراب الأولى والتخبط وبعد أن استقر بي المقام واعتدت ظروف الاحتجاز لاحظت تدريجيا أني لم أعد أحب الإذاعات الجديدة وأغنيات جيلي والذي تلاه. وجدت ضجيجا لم أعتده في البرامج والضيوف. عدت إلى إذاعات “البرنامج العام” و”الشرق الأوسط”. صرت من متابعي برامج “صوت العرب” و”إذاعة الأغاني”. حتى وجدت غايتي في “البرنامج الموسيقي” ومقطوعاته الهادئة.
حين قرأت كتب التاريخ هذه المرة لم أجدها مضجرة كالعادة. كنت شغوفا بربط أحداثها ومقارنة ما ذكرته من وقائع مع ما احتواه غيرها من الكتب. لم أمر على التواريخ والأرقام مرور الكرام كما اعتدت دائما. بل توقفت عند كل رقم وكل تاريخ ورسمت الخرائط وحسبت المسافات المكانية والزمانية. لم أتوقف عند انحيازات الكاتب ومحاولات تمرير أفكاره بين المعلومات. أدركتها ولكني لم أعرها انتباها كبيرا. كانت قراءة التاريخ هذه المرة أكثر صدقا.
في إحدى الليالي الهادئة قررت أن أعيد تجربة المسبحة. خلعت عن رقبتي المسبحة المهداة والتي ظلت حول عنقي شهورا. تحسست حباتها الخشبية. ثم بدأت بتحريك الحبات بالطريقة التي ألفت والدي عليها. استويت في جلستي لأكون على هيئته. بدأت أسحب الحبات بين الإبهام والسبابة ثم أزيحها بالوسطى لتلقى مصيرها عبر السقوط الحر فوق الحبة التي سبقتها.
مضى الوقت وبدأت أشعر لأول مرة بألفة مع العملية التي أجريها. مضى الوقت واستمرت الحركة وازدحمت الرأس بالأفكار والذكريات والضجيج. ثم بدأت الأفكار في الهدوء وتراجعت الذكريات قليلا. كانت أولى لحظات اختبار ما سعيت خلفه ولم أصل إليه أبدا “السكينة”. بعد وقت أطول بدأت أسمع صوت تكتكات خرز المسبحة في سقوطه الحر. ولكني لاحظت هذه المرة تزامنه الغريب مع تكتكات عقارب الساعة في يدي. بعد وقت أطول تزامنت تكتكات حبات المسبحة وعقارب الساعة مع نبضات قلبي.
بعد مضي مزيد من الوقت وقد استسلمت تماما لحالة السكينة أغمضت عيني. وراح عقلي يرسم صورا للحياة. رأيت حركة السحاب والأمواج وشعرت أنها متزامنة مع حركة حبات المسبحة ونبضات قلبي. كانت حبات المسبحة بين أصابعي تعمل كمايسترو يضبط إيقاع الكون. رأيت طائرا يخفق بجناحيه فوق حقول تتمايل أغصانها وفق تناغم وتزامن لا يديره سوى حبات المسبحة بين أصابعي.
بعد ساعات شعرت برابط بين حركة المسبحة وجريان الأجرام السماوية. فكانت الأرض تدور حول نفسها وحول الشمس في إيقاع منضبط مع تكتكات عقارب ساعة يدي وخفقان قلبي وحركة المسبحة. كان الكون كله يدور بين يدي. فالمسبحة تتحكم في تتابع الليل والنهار. تضبط تعاقب الفصول. توجه حركة الموج ونسيم الحقول. تحكم المكان والزمان.