قال لها مُحتَدًا: “إقعدي وإنطُري للآخر وإسكتي”، فما كان منها إلا أن ردت عليه قائلة: “بأعترض على الكلام بِهَيدى الطريقة ووَقفُوا بقى هذا النظام البطريركي”. كان هذا هو حوار النائبة اللبنانية “حليمة القعقور” مع رئيس مجلس النواب الأستاذ “نبيه بِري” في جلسة 26 يوليو 2022 الذي انفتَحَت من بعده بوابات الجحيم بوجه النائبة عن دائرة جبل لبنان الرابعة أستاذة القانون في كلية الحقوق والعلوم السياسية بالجامعة اللبنانية والحاصلة على شهادة الدكتوراه في القانون الدولي العام من جامعة مونبيلييه الفرنسية.

كانت النائبة “قعقور” واحدة من ثمان نساء فقط تَمَكَنَّ من الحصول على مقاعد بمجلس النواب الذي يبلغ إجمالي عدد مقاعده مائة وثمانون مقعدًا، أي بنسبة 6.25%، كما شاركت في تأسيس حزب “لنا”* وهو حزب ديمقراطي اجتماعي يعتمد ثلاثة مبادئ أساسية هي الحرية والعدالة والتضامن. وتجدر الإشارة إلى أن اسم “لنا” يمثل الحروف الأولى من الكلمات التي تَكَوَنَ منها شعار الحزب “لن نترك أحدًا” والذي يعكس -على مستوى الفِعل السياسي- شعار ثورة أكتوبر-تشرين 2019 العَفوي “كِلُن يعني كِلُن”.

كان الهجوم على النائبة من زملائها بالمجلس التشريعي اللبناني مدفوعًا بانتماء بعضهم لحركة “أمل” التي يتزعمها رئيس مجلس النواب ذاته أو بانتماء البعض الآخر للتحالف الذي تشارك به حركة “أمل”، أي أن الهجوم عليها كان بمثابة دفاع تلقائي مُجَرد من هؤلاء النواب عن رئيسهم الذي اعتادوا طريقته في التعامل معهم على مدار ثلاثين عامًا كان يجلس فيها على مقعده الوثير الأثير رئيسًا لمجلس النواب، وهو أمر غير مُستغرَبٍ في السياق العام لطريقة إدارة العملية السياسية في لبنان التي مازالت تحكمها موائمات متعددة الاعتبارات. لكن تَمَثَلَ الجديد هذه المرة في مستوى التعليقات التي لم تشهد أروقة وقاعات مبنى المجلس التشريعي العتيق بقلب بيروت مثيلًا لها من قبل.

“أنتم صراصير ولستم نسورًا، لم نخف منكم في الشارع ولا هنا تستطيعون إخافة أحد” هكذا تحدث أحد النواب الذين ينتمون إلى حركة “أمل” عن النائبة “حليمة القعقور” وزميلتها “سينثيا زرازيز” التي نالها من التحرش ما نالها حسبما صرحت هي شخصيًا في مؤتمر صحافي.

المثير للتعجب من وجهة نظري كمُتابعٍ مُهتمٍ بالشأن اللبناني كان ما قاله النائب “فريد الخازن” سليل العائلة التى شَيَّدَت دير “بكركي” في 1703 بالقرية التي تحمل نفس الاسم في مدينة “جونيه” والتي صارت منذ ذلك التاريخ مقرًا للبطريركية المارونية حيث قال نصًا أثناء جلسة مجلس النواب تعقيبًا على ما قالته النائبة “القعقور”: “أرفض استخدام عبارة بطريركية، قولي سلطانية أو إمبراطورية”، ثم طالب بشطب تعبير “بطريركية” من مضبطة الجلسة! أما الأكثر إثارة للتعجب فهو أنه قد تمت الاستجابة لطلبه بالفعل وتم شطب “البطريركية” من المضبطة!!

تحدثت النائبة “القعقور” كثيرًا لوسائل الإعلام مُعْرِبَة عن صدمتها واستياءها من عدم إلمام نواب يتمتعون بخبرة طويلة في العمل العام بالمدلول السياسي لتعبير “البطريركية” المعروف عِلميًا باعتباره النظام الذي يتولى فيه الرجل/ الأب الأكبر سنًا السلطة المركزية للتنظيم الاجتماعي ليديره منفردًا كيف شاء بحُكم النوع الاجتماعي. شخصيًا، لم أجد نفسي مُتَفِقًا مع النائبة “القعقور” في صدمتها من عدم إلمام النائب بالمدلول السياسي لتعبير “البطريركية”، وأظنه كان يعيه تمام الوعي بحُكم انخراطه في العمل العام منذ ما يقرب من ربع القرن ناهيك عن نشأته في بيت سياسيٍ عريق- اتفقت معه أو اختلفت- وإن صاغ موقفه باعتباره رافضًا المساس بمقام البطرك الرفيع.

وهنا تكون نظرتنا للمسألة مختلفة ويكون تحليلنا لها مُغايرًا في السياق العام الذي يعكس حالة من السَلَفية الثقافية القائمة علي المنطق الصوري والتي ضربت أوصال بعض المجتمعات العربية التي كان لها نصيبٌ من الحداثةِ مُعتَبَرٌ، إلى الدرجة التي صارت فيها تلك المجتمعات تضع بمحض إرادتها الحرة من الحواجز المجتمعية- وربما التشريعية أيضًا- ما يعوق تطورها لتتحول تلك الحواجز بمرور الوقت وبتكريس الممارسة إلي ما يشبه المُقدسات التي لا يجوز الاقتراب منها فتُهدر بذلك ما توصل إليه الفكر الحديث بما يضع العلم والبحث العلمي بمجتمعاتنا في مأزق تاريخي كبير.

كان المرحوم الدكتور “فؤاد زكريا” يعزو هذا المأزق إلى غياب إطار عام يحدد العلاقة بين العقيدة الدينية والبحث العلمي بصورة قاطعة**، حيث كان -رحمه الله- يرى أن المشكلة في الغرب تتمثل في كيفية أن يجد الإيمان الديني لنفسه مكانًا في مجتمع يحكمه التفكير العلمي وتشكل التقنية أسلوب حياته، أما لدينا نحن، فالمشكلة هي كيف يجد العلم لنفسه تبريرًا في مجتمع تسوده قيم الإيمان الديني. لم تكن موقعة النائبة “القعقور” وما نتج عنها من ردود أفعال تجاوزت قاعات المجلس التشريعي إلى وسائل التواصل الاجتماعي والفضائيات، تتعلق في تصوري بعدم إلمام نائب خبير بمدلول أحد مصطلحات الأنثروبولوجيا المتعارف عليها قَدْرَ ما كانت في جوهرها انعكاسًا لثقافة رجعية تعتمد التَعَالي على مخرجات العلم الحديث ماديةً كانت أم فكرية لِتَرُد كل الأشياء إلى مرجعياتٍ عقائدية بغرض تخويف وقمع وإقصاء المُختلِف على أي نحو لأجل الحيلولة دون أن تختل موازين مصالحها القبلية ومكاسبها الاجتماعية والسياسية واضعةً تيجان القداسة في غير موضعها.

*https://lnalebanon.org

**راجع كتاب “خطاب إلى العقل العربي” -طبعة دار مصر للطباعة- إصدار 1990