دوامة تيه سترى نفسك داخلها إذا حاولت التحويل لابنك أو ابنتك من مدرسته لأخرى. إنها فتوى اخترعها مستشار قانوني لوزارة التعليم عام 2018. هذه الفتوى تعطي الوزير أحقية زيادة كثافة الفصول بالمدارس بنسبة 10%. مع تأكيد عدم جواز رفع الكثافة لمديري المدارس أو الإدارات التعليمية أو مديرية التربية والتعليم بالمحافظة عن النسبة المقررة. إلا بموافقة كتابية من الوزير شخصيا.
كل ذلك جاء عقب أزمة عدم توافر فصول تستوعب الأعداد المتزايدة من التلاميذ الملتحقين برياض الأطفال. أو تلبي الطلبات العديدة للتحويل من المدارس الخاصة للحكومية أو التجريبية أو الرسمية لغات.
الظروف الاقتصادية ومصروفات المدارس الخاصة وعدم بناء مدارس جديدة جاءت بين أسباب أولياء الأمور لنقل أبنائهم. بالإضافة إلى انتقالهم في محل السكن.
من هنا جاءت رحلة البحث عن التأشيرة السحرية لـ”فوق الكثافة”. باعتبارها جواز مرور لنقل الطالب.
التأشيرة المقبولة
قصة التحويلات بين المدراس أزمة قديمة تتكرر سنويا منذ 1995 -أيام الوزير الراحل الدكتور حسين كامل بهاء الدين.
يقول محمد شمس الدين -مدير مدرسة سابق: “كنا نستقبل تأشيرات من وكيل الوزارة للاتصال السياسي مثل (لا مانع من قبول الطالب) ونقوم بأخذ الملفات مباشرة من ولي الأمر دون الرجوع للإدارة”. ويضيف: “التأشيرة الوحيدة التي كنا نقبل فيها الطالب دون النظر لنسبة الكثافة المقررة هي التي تأتي من الوزير شخصيا بعبارة متعارف عليها وهي (يقبل الطالب مع الإفادة)”.
وهكذا ظل الوضع في التحويلات والقبول مع كل وزراء التعليم من بعد حسين كامل. ما عدا أيام الدكتور أحمد زكي بدر عام 2009. إذ رفض التوقيع على طلبات التزكية ونبّه على المديريات ضرورة التزام التعليمات الصادرة في الكتاب الدوري السنوي المنظم للتحويلات.
مدارس أقل وأزمة اقتصادية أكبر
مع تفاقم الأزمة الاقتصادية في السنوات الأخيرة وقلة عدد المدارس وفتوى مستشار الوزير بزيادة الكثافة بالمدارس تبدأ رحلة العذاب لولي الأمر لينقل ابنه من مدرسة لأخرى. يقول زهران سليم –محام: “بنلف على المديريات والمعارف ومكتب خدمة المواطنين لنواب الشعب بحثا عن واسطة للحصول على تأشيرة “فوق الكثافة” من مكتب الوزير”.
تأشيرات فوق الكثافة
“عشت رحلة العذاب دي السنة اللي فاتت”. يقولها هيثم السيد –ولي أمر. ويضيف: “3 شهور بادور على تأشيرة الوزير دي لغاية ما ربنا وفقني وخدتها عن طريق نائب برلماني عن العجوزة. لإلحاق ابني في مدرسة الأورمان التجريبية بالدقي. الأول خدت تأشيرة (لا مانع من قبوله). ولما قدمتها للمدرسة بعد ختمها من المديرية والإدارة رفضوها لعدم وجود أماكن والكثافات زايدة. وقال لي مسئول بالمدرسة: “بنقبل تأشيرات (فوق الكثافة) فقط. رجعت لمكتب النائب وبعد أيام حصلت على تأشيرة (لا مانع فوق الكثافة)”.
يضيف: “رجعت بالتأشيرة فقالوا لازم تدخل لجنة التجريبيات في الإدارة. عشان هي اللي بتبحث كل تأشيرات فوق الكثافة وتحدد المقبولين في كشف يرسل للمدرسة. فضلت أروح الإدارة كل أسبوع لمعرفة قرار اللجنة. وأخيرا وافقت بعد أسبوع من بدء الدراسة”.
مجرد صلاحيات أكثر للوزير
فتوى المستشار القانوني للوزارة “لم تكن بهدف استغلالها في قبول الطلاب”. حسب حمدي لاشين -مدير إدارة تعليمية سابق– وإنما الهدف كان منح الوزير صلاحية لزيادة النسب المقررة للفصول. نظرًا لعدم وجود مدارس جديدة والزيادة الكبيرة في أعداد الطلاب. لدرجة أن بعض المدارس اشتغلت ثلاث فترات لمواجهة الكثافات.
أحد مسئولي الوزارة -رفض نشر اسمه- قال إن هذه الفتوى أدت لحدوث “بيزنس كبير من بعض مسئولي الوزارة الحالية. وذلك باستغلال مناصبهم في تحقيق أرباح طائلة نتيجة بيع تأشيرة “يُقبل فوق الكثافة” للمواطنين بأسعار تصل إلى 5 آلاف جنيه للطلب الواحد. وللمدارس الخاصة 10 آلاف جنيه من المدرسة للسماح لها بقبول طالب فوق الكثافة.
فساد تأشيرات التحويل
“فساد التأشيرات يبدأ من المدارس” بحسب محمود فوزي -ولي أمر.
يقول: “سجلت بيانات ابني على موقع التحويل الإلكتروني التابع لمديرية التربية والتعليم بالجيزة. للنقل من مدرسة خاصة لمدرسة رسمية في نطاق نفس إدارة شمال الجيزة التعليمية. ولما رحت أسأل في المدرسة عن الأوراق المطلوبة بلغوني أن المدرسة كاملة العدد والتحويل سيتم رفضه إلكترونيا”.
في أثناء مغادرتي المدرسة –يحكي “فوزي”- اقترب مني شخص وهمس لي: لازم تلاقي حد يجيب لك تأشيرة “فوق الكثافة” من الوزارة. قلت له ماعرفش حد في الوزارة. قالي أعرف واحد يقدر يوصل للمسئولين بس بياخد 5 آلاف جنيه في الطلب. فرفضت لأني أصلا بانقل ابني لظروفي المادية الصعبة. وبالتالي مفيش 5 آلاف جنيه أدفعهم للنقل.
“بيزنس التأشيرات” لم يكن في المدارس فقط. وصل إلى الإدارات التعليمية كما يقول محمود مجاهد –ولي أمر طالب. يقول: “رحت إدارة الدقي التعليمية لاستخراج بيان حالة. سألني شخص يجلس بجوار باب الإدارة إذا كنت عايز أنقل ابني من مدرسة. كلمني عن التأشيرة وأنه يعرف أشخاص يساعدوني. لكني سبته ومشيت. لأني ماكنتش عايز تحويل. كنت عايز بيان نجاح لابني بس”.
عمرو محمود –ولي أمر آخر- قال: “قدمت طلب لمكتب خدمة المواطنين التابع لأحد نواب دائرة بولاق الدكرور والعمرانية (بالجيزة) لتزكية طلب نقل ابني يوسف من مدرسة المستقبل للغات لمدرسة جمال عبد الناصر التجريبية بالدقي. وبعد أسبوع اتصل بي مكتب النائب وابلغوني بالحصول على موافقة الوزير. ولما رحت للمدرسة بالتأشيرة قالوا لي الكثافة بالمدرسة كبيرة والتأشيرة غير ملزمة”.
يضيف: “نصحني أقارب بالتوجه لمكتب نائب دائرة الدقي وتقديم طلب آخر. عملت كدا. وبعد أسبوع تاني جاءت التأشيرة بعد تزكية النائب (يقبل فوق الكثافة). قدمتها للمدرسة بعد موافقة لجنة التجريبيات في الإدارة”.
نسف للمساواة
تقول الدكتورة سهير عبد السلام -عضو لجنة التعليم بمجلس الشيوخ- إن تأشيرة فوق الكثافة تساعد في حل مشكلة ملحة للطلاب الذين يرغبون في التحويل للمدارس الحكومية. وذلك بسبب ظروف تغيير محل السكن أو لظروف اقتصادية.
وأوضحت أن التأشيرة تساعد على تسكين الطلاب حال عدم وجود أماكن لهم وتسد احتياجاتهم الملحة.
لكن الدكتور أحمد عبد اللطيف الطحاوي -الأستاذ بكلية طب بنها وعضو مجلس النواب- يرى أن تأشيرة فوق الكثافة تنسف مبدأ “تكافؤ الفرص بين الطلاب”. لأن هناك أولياء أمور لا يستطيعون الحصول على التأشيرة. “مالهمش حد في وزارة ولا برلمان. يعملوا إيه؟”. مؤكدا أن التأشيرة “باب خلفي للفساد والمحسوبية والمفروض الوزير لا يوافق عليها”.
ويرفض الدكتور حسن شحاتة -الأستاذ بتربية عين شمس- السماح بقبول طلاب فوق الكثافة أصلا. “هذا الكم من التحويلات دون ضابط يؤدى إلى كارثة تربوية وزيادة كثافات الفصول بالمدارس التجريبية. وبالتالى يقل التفاعل داخل الفصل والاستيعاب ويصعب السيطرة على الطلاب”.
إسهام مجتمعي قبل التحويل
يؤكد أحمد إبراهيم –محام- أن ولي الأمر الذي يرغب في التحويل لابنه من مدرسة لأخرى “يتعرض لمساومات”. مرة من مديري المدارس الرسمية المتميزة “التجريبية” تحت شعار “المساهمة المجتمعية”. فقبل إبداء رأي المدرسة بالموافقة أو الرفض يسألون ولي الأمر: ايه المساهمة اللي هتشارك بها في المدرسة؟.
من هنا تبدأ سلسلة احتياجات للمدارس: “جهاز تكييف. كولدير. طابعة. أجهزة كمبيوتر. ورق وعلب دهانات. سجاد. أبواب حديد وألوميتال. وغيرها من الطلبات التي يسردها مسئولو المدرسة. وحال رفض ولي الأمر يكون رد المسئولين (لا يوجد بها مكان فوق الكثافة المقررة).
هذا الكلام يعترف به أشرف سلومة -وكيل وزارة التربية والتعليم بالجيزة.
يقول: “دا كان موجود في السنوات الماضية. لكن بعد تطبيق التحويل الإلكتروني من العام الماضي الوضع اختلف”. ويضيف: “لم يعد هناك تقديم مباشر للمدرسة. وقد نشرنا تحذيرا لأولياء الأمور على موقع المديرية ولافتات في الإدارات التعليمية بمنع إعطاء أي مبالغ مالية للمدارس نهائيا”. وناشد أولياء الأمور الذين يذهبون للمدارس مباشرة الالتزام بالقواعد. وهي أن التحويلات المدرسية تتم إلكترونيا فقط. وعبر موقع المديرية لجميع مراحل التعليم الرسمية والرسمية لغات والرسمية المتميزة لغات. ولا يُعتد بالتحويل الورقي (يدويا) إلا للتعليم الخاص والتعليم الفني.
وأوضح أن نتيجة التحويلات تظهر إلكترونيا على الموقع نفسه أول سبتمبر القادم. مشيرا إلى أن اختيار ولي الأمر مدرسة ذات كثافات على مسئوليته لا يعد موافقة بالتحويل إليها. إلا بعد ظهور نتيجة التحويلات. حيث تبدأ مرحلة تقديم الملف للمدرسة. وهي المرحلة التي يتعامل بها ولي الأمر مباشرة مع المدارس. ويُمنع فيها جمع أو دفع أي مبالغ تحت أي تسمية.
أزمة الكثافات والتحويل الإلكتروني
بعد ظهور أزمة الكثافات وظهور مبدأ التبرعات والمشاركة المجتمعية لجأت وزارة االتعليمالتحويل الإلكتروني بحسب محمد عطية -مدير مديرية التعليم بالقاهرة.
وقال: “المديرية فتحت باب التحويلات بين المدارس الحكومية والمدارس الخاصة والتجريبية الرسمية بجميع مراحل التعليم حتى منتصف أغسطس. وذلك عبر رابط تحويل إلكتروني. ووضعنا شروط التحويل بين المدارس متاحة إلكترونيًا فقط بين الإدارات المختلفة. وهي من خاص عربي لحكومة عربي. ومن خاص لغات إلى تجريبي لغات ومتميز. أو إلى المدارس الحكومية عربي والتحويل إلى الخاص أو من خارج مصر أي العائدين من الخارج يكون ورقيًا ولا يوجد لهم تحويل إلكتروني. وغير مسموح بالتحويل من مدارس عربي سواء حكومة أو خاص إلى تجريبي لغات. وغير مسموح بالتحويل في مراحل ابتدائي للمدارس الرسمية لمن لم يحصل على شهادة مرحلة رياض أطفال من مدرسة خاصة لغات.
السبب الرئيسي للتحويل
الظروف الاقتصادية في السنوات الأخيرة لأولياء الأمور تسببت في زيادة أعداد المحولين من المدارس الخاصة لغات لمدارس الحكومة. وذلك بسبب العجز عن تدبير المصروفات الدراسية.
يقول أحمد سيد -ولي أمر: “موجة التحويل للمدارس التجريبية والخاصة عربي بسبب ارتفاع أسعار المصروفات. فأنا مثلا عندي ولدين في ابتدائي بمدرسة لغات. وبسبب ارتفاع المصروفات المبالغ فيها –وصلت 18 ألف جنيه للطالب. بخلاف مصروفات الباص”.
تراجع أحمد سيد من التحويل لولديه خشية تأثير ذلك على مستواهما التعليمي. “قررت أقرب من نفس المستوى لمدارس اللغات. فحولت لهم لمدرسة لغات قومية مصاريفها 10 آلاف للطالب. أهو شوية أقدر اتصرف وسط الغلا دا”.
الأمر نفسه يؤكده عماد وحيد -ولى أمر طالبة بمدرسة خاصة لغات. يقول: ارتفاع المصروفات بيزيد كل سنة بدون سند قانوني. ووصلت المصروفات بالمدرسة 14 ألف جنيه. ومدير المدرسة بيتحجج بأن الكهرباء والإسعافات ووسائل الأمن وكل شيء زاد عليهم. وبالتالي بيعوضوا دا من أولياء الأمور.
قرر “وحيد” التحويل لابنته إلى مدرسة تجريبي. على أن يعوض الفرق في المستوى التعليمي بالدروس الخصوصية.