لا يزال السودان قابعا في براثن الفوضى دون أية تطورات في سبيل إقرار الأمن والاستقرار. وهو الوضع الذي توظفه الأطراف الفاعلة لأجل اجتذاب السلطة لصفوفهم.
وقد شكلت أحداث عنف إقليم النيل الأزرق إضافة جديدة في سلسلة الفوضى والاضطراب. الذي بدوره يضع السودان على صفيح ساخن من مختلف الجهات. ما من شأنه أن يضع الحرب الأهلية كاحتمال قائم.
وتهدد تلك الأحداث الأمن الإقليمي في المنطقة بأكملها والجنوب المصري خصوصا. حيث يشكل السودان جزءا رئيسيا من دائرة الأمن القومي المصري.
وعلى صعيد آخر تمثل تلك الأحداث فرصة ثمينة لدول أخرى. لما قد تتضمنه من إمكانية إفساح المجال لممارسة تدخلات أجنبية لصالحها.
أحداث العنف الأخيرة بولاية النيل الأزرق
أحداث ولاية النيل الأزرق التي وقعت خلال الأيام الماضية خلفت 105 قتلى و230 مصابا في السودان. فضلا عن نزوح الآلاف من السكان من مناطق الاشتباكات. فيما تشهد الولاية هدوءا حذرا بعد فرض حظر تجوال وانتشار قوات الجيش السوداني بجانب قوات أمن الولاية.
بدأت شرارة الاشتباكات في منطقة قيسان على الحدود السودانية الإثيوبية بعد مقتل أحد أفراد قبيلة البرتا. وذلك نتيجة نزاع على الأرض مع أحد أفراد قبيلة الهوسا. وسرعان ما امتدت الاشتباكات بين القبيلتين إلى مناطق عدة في ولاية النيل الأزرق. حتى وصلت إلى العاصمة الدمازين نتيجة الشحن القبلي والشحن المضاد وانتشار خطاب التحريض والكراهية بصورة غير مسبوقة.
وقبيل اندلاع الاشتباكات كانت هناك مطالب لقبيلة الهوسا بإدارة محلية ونظارة (الحق في ملكية الأراضي) أسوة بباقي المكونات الموجودة في الولاية. وذلك بعد تلقيهم وعودا من حاكم الولاية بتلبية مطلبهم. وهو ما أثار حفيظة القبائل الأخرى. وفي مقدمتها البرتا. حيث رفضت تلك القبائل حصول الهوسا على نظارة بدعوى أنهم وافدون ولا يمتلكون أراض. الأمر الذي أدى إلى تصاعد خطاب الكراهية.
ويؤكد الباحث محمد عليوة أن ظاهر الأمر يقول إن الاشتباكات وقعت في منطقة النيل الأزرق نتيجة نزاع حول الأرض والموارد. إلا أن هناك بُعدا سياسيا لا يمكن فصله عن تلك الأحداث.
وأضاف أن الأنظمة السودانية على تعاقبها بعد الاستقلال -خاصة نظام البشير- استخدمت الجماعات القبلية لتحقيق مصالحها. وبات هناك ما يعرف بـ”تسييس القبائل” وتوظيفها لخدمة أطراف داخلية لفرض سيطرتها وحصولها على مكاسب. لا سيما في أوقات الانتخابات. لذلك عمدت تلك الأنظمة على توسيع سلطات الإدارات المحلية. والتي يترأسها المشايخ والعمد والنظار. ما أدى إلى عسكرة القبائل خاصة في الأطراف.
وهناك روايات عديدة داخل السودان ترد ما حدث في النيل الأزرق إلى محاولات استقطاب لجماعات قبلية من بعض الأطراف الداخلية. التي تتصارع على السلطة والثروة في السودان. وذلك لتحقيق أهداف ومكاسب سياسية وتكوين حاضنات سياسية قبلية تستقوي بها تلك الأطراف وتستخدمها في صراعها الحالي على السلطة. ما يشكل تهديدا خطيرا على أمن وسلامة واستقرار السودان ويهدد وحدة وسلامة أراضيه.
مآلات الصراع
ما حدث في النيل الأزرق مرجح أن ينتقل إلى مناطق أخرى بنفس الحدة. حيث تتصاعد النعرات القبلية وتشتد سطوتها في ظل ضعف وترهل مؤسسات الدولة.
فمنذ قيام ثورة ديسمبر 2018 وهناك حالة سيولة سياسية وانفلات أمني نتيجة للصدام والصراع القائم في الخرطوم بين المكون العسكري والقوى السياسية المدنية.
فما شهدته ولاية النيل الأزرق ومن قبل شرق السودان وأحداث الجنينة يمثل جرس إنذار للقوى كافة عسكرية ومدنية. فإن لم يتم تدارك الأمر والتدخل السريع عبر مؤسسات الدولة لإنفاذ القانون ونبذ العنف وخطاب التحريض والكراهية. فإن السودان سيقترب من مرحله اللا عودة. لأن تفاقم الصراع وزيادة وتيرته وانتقاله من إقليم لآخر سيعرض السودان للتفكك والانقسام. لا سيما أن هناك أطرافا خارجية تسعى إلى تزكية ذلك الصراع للنيل من وحدة واستقرار السودان. وذلك لتحقيق مصالحها وأهدافها سواء المرتبطة بالصراع مع السودان على أراضي الفشقة أو إخراج السودان من الحسابات في مفاوضات سد النهضة الإثيوبي. بجانب أطراف إقليمية أخرى تسعى لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية وزيادة نفوذها في المنطقة لتهديد الأمن القومي السوداني والمصري.
أحداث السودان.. والتأثير على الأمن القومي المصري
الأمن القومي السوداني جزء لا يتجزأ من الأمن القومي المصري. ويشكل كل منهما عمقا استراتيجيا للآخر. فمصر والسودان يواجهان تحديات مشتركة وتهديدات متعددة في ظل إقليم مليء بالاضطرابات والصراعات. وتشكل التوترات والخلافات السياسية الحادة والمتصاعدة وحالة انسداد الأفق الحالية في السودان بين العسكريين والمدنيين فضلا عن الصراعات الإثنية وانتشار السلاح تهديدا حقيقيا للأمن القومي المصري. لا سيما أن هناك تداخل مع مصادر تهديد أخرى. الأمر الذي يشكل ضغطا كبيرا على الأمن القومي المصري.
يقول الدكتور خيري عمر -أستاذ العلوم السياسية في جامعة صقريا التركية- إن أحداث ولاية النيل الأزرق واحدة في سلسلة صراعات أهلية وسياسية في السودان. وبجانب انعكاساتها الداخلية على تماسك الدولة فإنها تضفي تعقيدات من شأنها تعطيل المرحلة الانتقالية. وذلك من وجهة أنها تؤدي لعدم استقرار اتفاقيات السلام السابقة.
وبشكل عام لا يساعد التوتر السياسي في السودان على استقرار العلاقة مع مصر. حيث إن إطالة المرحلة الانتقالية يزيد اختلاف الأطراف السودانية على تكييف العلاقة مع مصر. وقد ظلت هذه الجزئية مثار خلاف بين المكونات المختلفة. خصوصًا في حكومة عبد الله حمدوك وكذلك حاليا.
ويختم الدكتور خيري عمر: وبالنسبة لإمكانية أن تفتح التوترات في السودان مجالا لتدخل إثيوبي فمتوقع أن يكون التدخل الإثيوبي سياسيا عبر التأثير على الحكومة أو الجماعات المنقسمة. مع استبعاد أن يكون تدخلا مباشرا.
وإلى جانب ما ذكره الدكتور عمر، فإنه مع غياب دور الدولة وضعفها وانتشار العنف وحدوث فراغ أمني يسمح بأن تكون هناك مناطق داخل السودان تشكل ملاذا آمنا لجماعات الإسلام السياسي المتطرفة. فإن هذه الملاذات يمكن استخدامها من جانب أطراف خارجية كورقة ضغط ومساومة مع القاهرة أو اتصالها بجماعات الإسلام السياسي في مصر وعودة نشاطها وعملياتها الإرهابية من جديد.
فالحدود المصرية السودانية تمتد لمسافات كبيرة يصعب معها أن يقع عاتق تأمينها فقط على الجهات الأمنية المصرية،. وإلا نتج عن ذلك ممرات للمهربين إلى جانب عرقلة المشروعات المشتركة والتجارة البينية بين البلدين.
وفيما يخص تهديد الأمن المائي المصري السوداني تضع الأحداث الجارية السودان في موقف ضعف. ما يجعل مسألة سد النهضة في آخر أولويات القوى السودانية سواء العسكرية أو المدنية. وليس هناك مجال للشك أن عدم الاستقرار السياسي والأمني في السودان يشكل تحديا كبيرا ومشكلة أمنية لمصر. لذلك تسعي مصر دائما لدعم استقرار السودان وتؤكد القيادة السياسية في مصر خلال مناسبات عدة حرصها على أمن وسلامة ووحدة الأراضي السودانية. ودعمها الثابت للحلول السياسية والبعد عن الصراعات المسلحة إلى جانب الدعم الاقتصادي والتنموي للأشقاء في السودان. وذلك عبر المشروعات المشتركة في المجالات الاقتصادية والعسكرية.