كتبت- هنا الداعور
كل مجتمع يصنع أوهامه ووهم أولياء الأمور في مصر هو ما يسمى “كليات القمة”. إذ يحلمون لأبنائهم بمستقبل “الدكتور والباشمهندس” بناء على تسمية توارثها المصريون تقريبا “من أيام الفراعنة”. بينما بقية المجالات تحظى بنظرة أقل دون أن يعرف أحد سببا لذلك.
ولا نعلم على وجه اليقين مَن الذي أطلق على الطب والهندسة تسمية “كليات قمة”؟. وليس من المعروف أي توصيف يمكن أن نطلقه على كليات أخرى كالآداب والتجارة والحقوق.
العجيب أن كلية كالحقوق كانت منذ 100 عام سيدة كليات مصر. لكن تراجع بها الحال وصار خريجوها كل عام يعدون بـ100 ألف لا يجد أغلبهم وظيفة تليق باسم كليته التي تعلم القانون وتلعب دورا من أدوار العدالة.
وهم “كليات القمة” وواقع مخرجات التعليم
من هنا ننتقل إلى التركيز على مخرجات التعليم. فالكلية التي يحظى خريجوها بفرص عمل وفيرة ومطلوبة هي التي يمكن تسميتها بـ”كلية قمة”. لكن هل كل مهندسينا يحظون بهذا التهافت أم أن لتسمية دكتور وباشمهندس رنينا سحريا في أذن المصريين؟. يبدو في الأمر وجاهة ما يحبها المصريون دون أن نخضع الأمر إلى دراسة إحصائية. لكن هذا التهافت الذي تدفع فيه الأسر مئات الآلاف ليحصلوا على خريج طب وهندسة “بالعافية” يكمن وراءه سر لا علاقة له بالعلم أو سوق العمل. وحكاياتنا هنا جديرة بأن تكشف شيئا عن هذا السر الدفين في حياة المصريين الذي يسمونه “كليات قمة”.
“كان حلم بابا زي أي أب مصري بنته تبقى دكتورة وابنه يبقى مهندس”. هكذا وصف يوحنا إسحاق سنواته العشر التي قضاها في الجامعة بـ”المأساوية”.
“يوحنا” حكى لـ”مصر 360″: “من طفولتي وأنا عاشق لمجال التصوير. وبالفعل اشتغلت مصور وأنا في ثالثة إعدادي. وكنت محافظ على تفوقي الدراسي بجانب عملي. لكن بعد حصولي على مجموع 93% في الثانوية العامة شعبة علمي رياضة -وهو أقل مما تتطلبه كليات الهندسة- اتجه تفكيري لمعهد السينما أو كلية الإعلام. حيث يمكن دراسة التصوير.
والد “يوحنا” كان له رأي آخر: “حد يبقى متفوق زيك ويشتغل مصور؟! أنت هتبقى مهندس حتى لو هادخلك جامعة خاصة. عشان دا هيضمن لك مستقبل منوّر وفلوس أكتر”.
وعلى درب “المستقبل المنور والفلوس الكتير” غرق “يوحنا” في الفشل الدراسي: “كنت باخد السنة في سنتين بعد ما دخلني هندسة في جامعة خاصةغصب عني”.
وبعد قضاء 6 سنوات في كلية الهندسة حوّل “يوحنا” وجهته من إلى كلية الإعلام. أما رد فعل والده فكان “لازم يوافق لأن اللي راح كان سنين كاملة وفلوس وتعب وجهد اترموا على الأرض”.
بعدها حصل “يوحنا” على بكالوريوس إعلام قسم الإذاعة والتلفزيون وهو في سن 31 عامًا.
“كليات القمة” -بحسب “يوحنا”- مصطلح عفا عليه الزمن. الأهم دراسة سوق العمل والمهارات الشخصية بدقة قبل تحديد المصير الجامعي.
عرض مهندسين أكبر من الطلب
طارق النبراوي -نقيب المهندسين- يقول لـ”مصر 360″ إن سوق العمل للمهندسين في مصر لا تستوعب أعداد خريجي كليات الهندسة سنويا. واستكمل: “بنواجه أزمة كبيرة في القطاع الهندسي نتيجة كثرة الراغبين في الالتحاق بكليات الهندسة. وهناك ضعف كبير في مستوى خريجي الهندسة”.
وقال إن “المسئوليات اللي على الشباب أكبر مما يتقاضونه من رواتب. فضلا عن زيادة العرض على الطلب في سوق العمل. ودا انعكس سلبًا على أجور المهندسين بكل تأكيد”.
وأكد أن “النقابة تسعى الآن إلى وضع قانون يلزم خريجي الهندسة باختبار مجاني لقياس قدراتهم. وبناء على هذا الاختبار يتم السماح للمتقدم بمزاولة المهنة. بشرط أن يحدث كل ذلك خلال شهر أو شهر ونصف على الأكثر من التخرج”.
يبلغ عدد خريجي كليات الهندسة في الجامعات الحكومية 10 آلاف خريج سنويا. أما الجامعات والمعاهد الخاصة والبالغ عددها 25 يتخرج فيها سنويا 25 ألف خريج.
نقيب المهندسين يقول إن “تفاقم مشكلة التعليم الهندسي في مصر أدت لوجود فجوة واضحة في القطاع العملي على أرض الواقع”. وأشار إلى أن التعليم الخاص ربما يخرج طالبًا ليس على المستوى المطلوب. لذلك فإن النقابة تعمل الآن على إعداد بروتوكول مع مسئولي وزارة التعليم العالي في مصر لزيادة فرص التدريب من جهة وتقنين أعداد المعاهد المرخصة من جهة أخرى.
نقيب المهندسين يرى أن من أهم أسباب إقبال الطلاب على الهندسة ما يسمعونه عنها ويترسخ بأنها “كلية قمة”. وقال إنه لا بد من تغيير هذا المفهوم. فلكل إنسان قمته الخاصة في مجال يحبه.
الوجاهة الاجتماعية وكليات القمة
وعن “مأساتها” تحكي رانيا نادر -طالبة بالفرقة الثالثة بقسم علم النفس بكلية الآداب جامعة عين شمس. تقول لـ”مصر 360″: “مجموعي العالي سبب ضياع سنة من عمري. لأن أهلي رفضوا أحقق حلمي. كنت باروح الجامعة كل يوم معيطة”.
وتضيف: “طول عمري من الأوائل في مدرستي. ومجموعي في ثانوي كان بداية المشكلة لأني جبت مجموع كلية سياسة واقتصاد. وأنا كان نفسي أدرس علم نفس لأني عندي شغف بفهم الطبيعة البشرية. وعمري ما فكرت في كلمة كليات قمة”.
أسرة رانيا “استخسرت” مجموعها الكبير في الثانوية ورفضت التحاقها بكلية لدراسة علم النفس. فكلية السياسة والاقتصاد على رأس قائمة كليات القمة بالنسبة للشعبة الأدبية. فكان مجموع “رانيا” حجة كبيرة للأهل أن يصروا عل اختيار السياسة والاقتصاد.
وتابعت: “افتكروا أن إمكانياتي في المذاكرة تؤهلني لتحصيل المواد ويمكنني الحصول على أي فرصة عمل في السلك الدبلوماسي فيما بعد. عشان كدا كان تفوقي الدراسي بالنسبة لي طريق للفشل. لأني ماحققتش اللي أنا عايزاه. فتحولت من طالبة مجتهدة إلى أخرى لا تعرف حتى أسماء أساتذتها”.
“رانيا” رسبت في السنة الأولى بكلية سياسة واقتصاد في أكثر من ثلاث مواد. وحوّلت دراستها من اقتصاد وعلوم سياسية إلى آداب جامعة عين شمس لتحقق حلمها بدراسة علم النفس. لكن خسارة السنة لم يحاسب أحد عليها بفضل وهم “كليات القمة”.
الدكتورة علياء المهدي -عميد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية السابق- تقول لـ”مصر 360″: “أنا ضد إجبار الأهل لأولادهم على دخول كليات معينة. حتى لو كانت ما نقول عليها كليات قمة”.
وأكدت أن “حال كلية الاقتصاد والعلوم السياسية كحال أي كلية. فإذا لم يرغب الطالب في الدراسة لن ينال أي فرصة عمل في مجاله”. ولفتت إلى أنه من الممكن أن تكون “الوجاهة الاجتماعية” هي التي تجعل الآباء يتمسكون بكليات بعينها. دون النظر لرغبة أبنائهم. فلدينا في مصر حالة من النظر إلى الذات باعتبارها أهم من الآخرين بناء على الدراسة والمناصب. وهذا خلل مجتمعي خطير بدليل أن كل مصري إذا تورط في فعل غير قانوني يلجأ إلى التساؤل الوهمي: “انت ما تعرفش أنا مين؟!”.
كليات القمة في الوطن العربي
تتربع كليات الطب والصيدلة والهندسة والإعلام والسياسة والاقتصاد على أغلب قوائم كليات القمة في العديد من الدول العربية. ويعكس الواقع الإقبال الكبير من الطلبة للوصول إلى هذه الكليات. حيث يرى الطلاب أن وصولهم إليها مسألة حياة أو موت فضلا عن أنها حلم آبائهم. لكن في النهاية قد يكون المردود للطالب من هذه الكليات غير مناسب له على المستوى العلمي أو حتى على المستوى المهني مستقبلا.
كليات القمة في الخارج
طبقًا لتصنيف كيو إس لعام 2020 الخاص بأهم التخصصات في العالم. فقد صنفت أهم عشرة تخصصات تعد من كليات القمة في العالم لما تتمتع به هذه التخصصات من أهمية كبيرة في المجتمعات وللاحتياج المتزايد إليها مؤخرا. وهي:
– الهندسة والتكنولوجيا. ويأتي هذا التخصص الهندسة كمرتبة أولى في الجامعات بالخارج. والتي تغطي خمسة فروع مختلفة من الهندسة. بالإضافة إلى علوم الكمبيوتر. وهي تهتم بموضوعات علوم الحاسوب ونظم المعلومات والهندسة الكيميائية والهندسة المدنية والإنشائية والهندسة الكهربائية والإلكترونية والهندسة الميكانيكية وهندسة المعادن والتعدين.
وتليها علوم الحاسوب ونظم المعلومات. وهذا التخصص يأتي في المركز الثاني من كليات القمة. ويعد واحدًا من أسرع المجالات نموًا في مختلف أنحاء العالم. لقدرة التكنولوجيا على تغيير العالم من الذكاء الاصطناعي إلى البيانات الضخمة التي يستطيع إدارتها والتحكم فيها.
ثم تأتي كلية دراسات الأعمال والإدارة. والتي صارت تتمتع بإقبال شديد من الطلاب حول العالم. لا سيما الدراسات العليا وماجستير إدارة الأعمال. فيما تأتي دراسة الطب في المرتبة الرابعة في الخارج. وبالطبع يظل الاحتياج إلى هذه المهنة بسبب ضرورة الكوادر الطبية أكثر وأكثر في ظل ما يمر به العالم من أوبئة وأزمات صحية. وفي المرتبة الخامسة تأتي دراسة الاقتصاد بعدما شهد العالم الأزمة المالية في 2007 و2008. ومع استمرار الأزمات المالية في دول مثل اليونان والتقلبات الأخيرة في سوق البورصة. لذا يعد هذا التخصص من التخصصات التي تحسب ضمن كليات القمة في العالم حاليا.