خفّض صندوق النقد الدولي توقعاته لنمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي لمصر في السنة المالية الحالية 2022/2023 إلى 4.8% مقابل 5% في توقعاته السابقة قبل أربعة أشهر. ذلك رغم توقع الحكومة نموًا بنحو 5.5% للفترة الزمنية ذاتها. فكيف إذًا يحسب الناتج المحلي الإجمالي في مصر، والذي تقدره الحكومة بنحو 7 تريليونات جنيه.
النمو الاقتصادي ليس نسبة مجردة. لكنه مؤشر عام على عافية الاقتصاد وقدراته، يتداخل في جميع جوانب الحياة اليومية للمواطن البسيط. وهو يعني -ببساطة- ارتفاع السلع والخدمات التي يتم إنتاجها. الأمر الذي ينعكس إيجابًا على توسع الاقتصاد وزيادة التشغيل، ومن ثم تقليل البطالة.
ويمثل النمو أيضًا مؤشرًا أساسيًا للحكم على الوضع الاجتماعي. أو بمعنى آخر مستوى الرفاه الاقتصادي ومعيشة المواطن. إذ يتضمن بين طرق حساباته الدخل وأرباح الشركات. كما يعكس قدرات الحكومة على القيام بأدوار أكبر في ملفات الصحة والتعليم والبحث العلمي، وكلها أمور وثيقة الصلة مباشرة بالمواطنين.
لماذا خفض صندوق النقد توقعاته لمصر؟
يرتكز النمو الاقتصادي لمصر، خلال السنوات الأخيرة، على الأداء الإيجابي للاستهلاك. فالاستهلاك العام والخاص ساهما معًا بنسبة 6.2% خلال العام المالي السابق. وعلى مستوى القطاعات، كانت الخدمات الاجتماعية، خاصة الأنشطة العقارية والحكومة العامة وقطاع تجارة الجملة والتجزئة والاتصالات والنقل والتشييد والبناء والغاز أهم محركات هذا النمو لمصر.
لم يشر صندوق النقد إلى أسباب تخفيضه توقعاته بشأن نمو الاقتصاد المصري. لكن محللون ربطوها بتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية. وسببت ارتفاعًا بأسعار السلع الأساسية المستوردة من الخارج. فضلًا عن الضغط على الموازنة العامة للدولة، وتراجع إيرادات السياحة، وخروج الأموال الساخنة بنحو 20 مليار دولار. ما سبب نقصًا بالمعروض الدولاري، وتباطؤ بالنمو الاقتصادي، وجعل الاقتصاد أكثر عرضة للصدمات الخارجية.
وقد أشار الصندوق -في بيان توقعاته للنمو العالمي- إلى أسباب عامة تنطبق على مصر. منها انخفاض القوة الشرائية للأُسر، وتشديد السياسة النقدية (رفع البنوك المركزية أسعار الفائدة). الأمر الذي يرتد عكسيًا على النمو وارتفاعه.
بينما في بيانه للأسباب الخاصة بشأن تخفيض توقعاته، لفت الصندوق إلى إغلاقات الصين بسبب جائحة كورونا، والأزمة العقارية التي تعيشها، وإمكانية وقف إمدادات الغاز لأوروبا بشكل عام. بالإضافة إلى حدوث مديونية حرجة في اقتصادات الأسواق الصاعدة والنامية بسبب ارتفاعات أسعار الفائدة.
كيف تتباين حسابات الناتج المحلي؟
تستهدف الحكومة في مشروعها للموازنة العامة للدولة للعام الحالي، تحقيق معدلات نمو سنوية تتراوح بين 5.5% و6% كأقل نسبة مستهدفة في المدى المتوسط. وهي تبني آمالها هنا على افتراض عودة مسار التعافي الاقتصادي العالمي واستمرارها الالتزام بالإصلاحات الهيكلية والنقدية والاقتصادية التي من شأنها خلق استدامة للنمو الاقتصادي.
إلا أن تقارير البنك الدولي وصندوق النقد وإن كانت تتوقع لمصر أن تحقق أعلى معدل نمو بين أهم اقتصادات المنطقة خلال العامين المقبلين. فإنها تبقي هذا التوقع عند سقف 4.8% في العام 2022 /2023، و5% في العام 2023 /2024. وليس 6% كما تسعى الحكومة.
للناتج المحلي أكثر من حساب ما بين الإنتاج والإنفاق والدخل. وهي عناصر متداخلة فيما بينها.
غالبًا ما تعتمد القياسات المحلية على الإنفاق في حسابات الناتج المحلي. فالإنفاق الحكومي لا يسهم فقط في زيادة معدل النمو الاقتصادي. ولكن في التكوين الرأسمالي الثابت من خلال الاستثمار في البنية التحية وتطويرها. إضافة إلى إسهامه في تكوين رأس المال البشري من خلال إنفاق على الصحة والتعليم.
والتكوين الرأسمالي الثابت هو قيمة حيازة قطاع الأعمال والحكومات والأسر للأصول الثابتة الجديدة أو القائمة مطروحة منها الأصول الثابتة المتصرف فيها، لقياس حجم القيمة المضافة الجديدة في الاقتصاد المستثمرة وليس المستهلكة.
تعتمد حسابات المصروفات على جمع الإنفاق الذي يحدث بالاقتصاد، متضمنًا الإنفاق الحكومي، وإجمالي الاستثمار، وصافي الصادرات، ونفقات المستهلكين. والأخيرة هي الأموال المستخدمة لشراء جميع السلع والخدمات. أما الإنفاق الحكومي فيتمثل في الأموال التي تنفقها الحكومة على رواتب الموظفين والمعدات والبنية الأساسية مثل الطرق والمجاري وشبكات الطاقة والمطارات.
وتشمل نفقات الاستثمار مصروفات الشركات على شراء المعدات أو بناء المصانع أو بشكل عام الاستثمار في أعمالها. أما صافي الصادرات فهو صافي قيمة جميع السلع والخدمات التي تقوم الدولة بتصديرها إلى الدول الأخرى. ويمكن أن تكون قيمتها بالموجب أو بالسالب في الناتج المحلي الإجمالي.
الناتج المحلي الحقيقي.. مقياس يراعي العلاقة مع التضخم
تفضل بعض الدول في حسابات الناتج المحلي التركيز على الإنتاج في تقدير قيمته الإجمالية. ذلك بعد خصم تكاليف المدخلات مثل المواد الخام والمواد الأخرى، التي تدخل في عملية الإنتاج. أما حساب الناتج المحلي وفقًا لمنهجية الدخل، فتتعلق بافتراض أن إنفاق كل شخص في الاقتصاد يمثل دخلًا لشخص آخر (ما تنفقه يدخل في جيب غيرك).
حسابات صندوق النقد الدولي تفضل الناتج المحلي الحقيقي الذي يخلق علاقة بين الناتج المحلي الاسمي (بالأسعار الجارية) وبين آثار التضخم، ويعزز من آليات مقارنة الناتج الاقتصادي من عام لآخر. فالتضخم الموجب يعمل على تضخيم قيمة الناتج المحلي الإجمالي الاسمي والعكس صحيح. لكن الناتج الحقيقي يتجنب تلك المشكلة ويعطي مؤشرات أكثر دقة. فعندما يكون الناتج الاسمي أعلى من الحقيقي يحدث التضخم. وعندما يكون الحقيقي أعلى من الاسمي يتولد الانكماش.
تلك الحسابات تجعل الناتج المحلي المصري متباينًا حسب طريقة حسابه. فالناتج المحلي حينما يتم حسابه بأسعار السوق (الأسعار الجارية للسلع والخدمات النهائية خلال فترة زمنية) يعادل 6.3 تريليون جنيه. وحينما يتم حسابه بتكلفة عوامل الإنتاج يهبط إلى 6.01 تريليون جنيه، وسر الاختلاف بينهما في أن الناتج بتكلفة عوامل الإنتاج يتم حسابه عبر معادلة يتم خلالها طرح الضرائب غير المباشرة، وإعانات الإنتاج من الناتج المحلي بالأسعار الجارية.
المواطن في خضم حسابات الناتج المحلي
من الإشكاليات الكبيرة في حساب الناتج المحلي الإجمالي لمصر الحجم الكبير للاقتصاد غير الرسمي، الذي لا يتم احتسابه في الناتج المحلي الإجمالي ويحرم الموازنة العامة للدولة من حصيلة ضريبية بنحو 400 مليار جنيه، يمكن أن تغطي ما يقرب من 85% من إجمالي العجز الكلي (475 مليار جنيه) في موازنة هذا العام (2021/2022). هذا بخلاف أرصدة الديون المستحقة للحكومة (ضريبية وغير ضريبية) البالغة نحو 440 مليار جنيه حتى نهاية يونيو/حزيران 2021.
شكوى المواطنين قديمة ومتواصلة منذ عقود. إذ لا يشعر المواطن بوصول نتائج النمو الاقتصادي إليه. وهو ما تلقي الحكومة بمسئوليته على الزيادة السكانية التي تأكل عوائد التنمية، وتقلل من إحساس المواطن بتحسن أحواله.
وزيرة التخطيط الدكتورة هالة السعيد، تقول إن الزيادة الكبيرة والمطردة في نمو السكان، تؤثر على عوائد التنمية وجودة حياة المواطن المصري. فنسبة الفقراء ترتفع كلما زاد حجم الأسر، و7% فقط من الأفراد الذين يعيشون في أسر بها أقل من 4 أفراد فقراء. بينما تزيد تلك النسبة إلى 48% للأفراد الذين يقيمون في أسر بها 6-7 أفراد. وتصل إلى 80% من الأفراد الذين يعيشون في أسر بها 10 أفراد أو أكثر.
ما تم تجاهله
يتم حساب نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي من خلال قسمة قيمة الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الجارية على عدد السكان. وبالتالي كلما ارتفع الناتج المحلي كلما زاد مستوى دخل المواطن ومستوى معيشته.
وبحسب بيانات رسمية، فإن حصة المواطن من الناتج المحلي سنويًا سجلت خلال العام المالي 2021/2022 نحو 62.3 ألف جنيه مقابل 59.7 ألف جنيه خلال العام السابق.
وحسب وزارة المالية، فإن النمو الحقيقي للاقتصاد المصري خلال السنوات الماضي أدى لحدوث تراجع مستمر في معدلات البطالة وخلق فرص عمل حقيقية وبأعداد جيدة للراغبين في العمل. إذ يؤكد الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، أن معدل البطالة بلغ 7,2% من إجمالي قوة العمل في الربع الأول يناير – مارس لعام 2022، مقابل 7,4% خلال الربع السابق من عام 2021 بانخفاض قدره 0.2%
لكن الخبير المالي هاني توفيق يقول إن الأهم من معدل النمو الاقتصادي هو مصادر هذا النمو، وهل تمويل ذاتي أم قروض أم استدانة؟ إلى جانب طبيعة هذا النمو ومدى استدامته (طفرة إنشائية، أم دخول ريعية، أم استثمار وتصنيع وتشغيل وتصدير). علاوة على التوافق الزمني بين التدفقات النقدية لمتطلبات النمو. وكذا موعد بدء تحقيق عوائده الاقتصادية. وهو ما تجاهلوه عن عمد وأدى إلى تمويل مشروعات طويلة الأجل بقروض ذات أجل أقصر أو أموال ساخنة، على حد قوله.