قد يبدو من القراءة الأولى لتصريحات القائم بأعمال مرشد جماعة الإخوان إبراهيم منير الأخيرة والتي أعلن فيها أن جماعته “لن تخوض صراعا جديدا على السلطة، ولن تطرح نفسها كمنافس سياسي في الاستحقاقات الانتخابية، أن التنظيم التسعيني رفع “الراية البيضاء” معلنا استسلامه بعد تأثره بموجة الضربات الموجعة التي انهكته خلال السنوات التسع الماضية.

منير قائد جناح الجماعة في لندن والذي يخوض صراعا ضاريا مع الجناح الذي يتزعمه الأمين العام للإخوان في اسطنبول، أكد في تصريحات لوكالة رويترز قبل أيام أن جماعته ترفض العنف تماما وتعتبره خارج فكر الإخوان، وقال: “لن نخوض صراعا على الحكم في مصر بأي صورة من الصور.. حتى لو الصراع بين الأحزاب في الانتخابات السياسية أو غيرها التي تديرها الدولة.. هذه الأمور عندنا مرفوضة تماما ولا نقبلها”.

ورغم إبدائه استعداد جماعته لاعتزال العمل السياسي بمفهومه الحزبي التنافسي وعدم خوضها صراع من أي نوع للوصول إلى السلطة، إلا أن القائم بأعمال المرشد وصف الحوار السياسي الذي من المتوقع أن تبدأ جلساته خلال أسابيع بأنه مبادرة “غير جادة” ولن يحقق نتائج إذا تم استبعاد الإخوان أو غيرهم منه، “الحوار مطلوب صحيح إنما لا بد أن يشمل الجميع”.

وتعد تلك هي المرة الثالثة التي يطالب فيها جناح إخوان لندن بالمشاركة في الحوار الوطني، ويرى هذا الجناح أن استبعاد الإخوان من أي حوار سياسي يجعله والعدم سواء، وهو ما يعد تضاربا واضحا مع حديث اعتزال العمل السياسي، فالجماعة التي تعلن استعدادها الابتعاد عن الممارسة السياسية أولى بها عدم المشاركة في فعالية تجمع القائمين على العمل العام (سلطة ومعارضة) على مائدة واحدة لتحديد أولويات العمل الوطني خلال المرحلة المقبلة.

حديث قائد جناح لندن عن اعتزال الإخوان المنافسة السياسية ليس الأول من نوعه، فكلما اشتد التضييق على الجماعة وتوالت عليها الضربات الأمنية، يخرج من صفوفها من يطرح مبادرة مماثلة، بهدف تخفيف الضغوط الأمنية وتصدير رسائل إلى الرأي العام بأن الجماعة لا تسعى إلى السلطة وأن هدفها تحسين المناخ العام.

قبل ثورة 25 يناير بشهور، وإثر تلقي التنظيم عددا من الضربات الأمنية التي ألحقت بصفوفه ضررا بالغا، أعلن أحد نواب الجماعة السابقين في البرلمان عن مبادرة تقضي بالتزام الإخوان بعدم المنافسة في الانتخابات الرئاسية ولا حتى دعم مرشح قريب منها لدورتين كاملتين (12سنة)، وعدم خوض الانتخابات البرلمانية إلا على 20% من المقاعد ولمدة دورتين كاملتين أيضا، وطالب القيادي الإخواني سلطة مبارك والقوى السياسية باعتبار تلك المدة الـ«12 عام» فترة انتقالية هدفها تطمين النظام بأن الجماعة لا تسعى إلى وراثته.

قبل تلك المبادرة طرح عبد المنعم أبو الفتوح والذي كان لايزال حينها قياديا بالجماعة مبادرة مشابهة تقضي بانسحاب الإخوان من المشهد السياسي وعدم المشاركة في أي استحقاق انتخابي لمدة 10 سنوات، وذلك بهدف تفويت الفرصة على نظام مبارك الذي يمارس القمع ويزور الانتخابات لمنع وصول الإخوان إلى السلطة.

وفي نفس الفترة توالت دعوات من داخل الإخوان وفي محيطها بضرورة فصل العمل الدعوي عن السياسي، إلا أن كل تلك المبادرات ظلت معلقة في الفضاء الإعلامي، فالجماعة تؤمن بأن العمل السياسي ركن أصيل من أركانها لا يجوز هدمه أو تعطيله.

حسن البنا مؤسس الجماعة ذكر في رسالة المؤتمر الخامس أن «فكرة الإخوان المسلمين نتيجة الفهم العام الشامل للإسلام، قد شملت كل نواحي الإصلاح في الأمة، فهي دعوة سلفية، وطريقة سُنية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، ورابطة علمية ثقافية، وشركة اقتصادية، وفكرة اجتماعية».

وفي مؤتمر الطلاب عام 1938 قال البنا إن «المسلم لن يتم إسلامه إلا إذا كان سياسيا بعيد النظر في شئون أمته مهتما غيورا عليها»، رافضا دعوات فصل الدين عن السياسة، «الإخوان ما كانوا يوما من الأيام غير سياسيين، ولن يكونوا يوما من الأيام غير مسلمين، وما فرقت دعوتهم أبدا بين السياسة والدين».

ويضيف البنا في رسالة المؤتمر السادس: «وأما أننا سياسيون بمعنى أننا نهتم بشؤون أمتنا، ونعتقد أن القوة التنفيذية جزء من تعاليم الإسلام تدخل في نطاقه وتندرج تحت أحكامه، وأن الحرية السياسية والعزة القومية ركن من أركانه وفريضة من فرائضه، وأننا نعمل جاهدين لاستكمال الحرية ولإصلاح الأداة التنفيذية، فنحن كذلك، ونعتقد أننا لم نأت فيه بشيء جديد».

الإخوان إذن طُلاب حكم ومُريدي سلطة، وهدفهم ليس فقط إدارة الدول بل إعادة إحياء الخلافة الإسلامية وإدخال أقطار العالم الإسلامي تحت مظلة تلك الخلافة بأي طريق وعبر أي وسيلة حتى لو كانت القوة القاهرة، «إن الإخوان المسلمين سيستخدمون القوة العملية حيث لا يجدى غيرها»، يقول البنا في رسالة المؤتمر الخامس.

وإذا كانت الجماعة أو بعض أفرادها تطرح من آن لآخر فكرة اعتزال العمل السياسي أو المنافسة الانتخابية، فذلك من باب الاستضعاف ليس إلا، فعندما تُحاصر تلجأ إلى إطلاق مبادرات الانسحاب من المنافسة على السلطة اتقاء للملاحقة وتجنبا للضربات التي قد تخلل البناء التنظيمي ما يؤثر على مستقبل الجماعة.

في مرحلة الاعتزال والانكفاء تستغل الجماعة ما تملكه من خبرات وقدرات لإعادة بناء التنظيم،  فتبدأ بالدعوة في المساجد والزوايا ثم تقديم الخدمات الاجتماعية في المناطق الفقيرة والمتوسطة وحل المشاكل الصغرى والمحدودة المرتبطة بالواقع الاقتصادي والاجتماعي للمواطنين، وتمكنت الجماعة من قبل بهذه الطريقة أن تكسب مساحات ومواقع كثيرة وكسبت ثقة فئات مجتمعية عديدة.

وبعد أن تثبت أقدامها في الأرض تشرع في عملية ممنهجة لاختراق مؤسسات الدولة ونشر أفكار الجماعة بها، وبالتوزاي تبني نظامها الاقتصادي الخاص القائم على جمع الاشتراكات من أعضائها وتبرعات أهل الخير، في تلك المرحلة تستخدم الإخوان أدواتها في المناورة وعقد التحالفات والصفقات، ثم تعرض نفسها على الجمهور باعتبارها البديل الجاهز، وما أن تتأكد بأن النظام القائم انتهت صلاحيته وأن الملعب خالي من البدائل حتى تثب على مواقع السلطة.

في أعقاب ثورة 25 يناير تعهدت الجماعة مرارا بعدم المنافسة على منصب الرئاسة أو خوض انتخابات البرلمان على أغلبية مقاعد البرلمان، رافعة شعار “مشاركة لا مغالبة”، وقررت فصل عبد المنعم أبو الفتوح بعد إعلانه خوض معركة الرئاسة في يوليو 2011، حينها وصف محمد بديع مرشد الإخوان قراره بفصل أبو الفتوح بأنه كمن قطع أصبعه، “لكن قطع أصبعي أهون عندي من نقض عهدي مع الله”، قاصدا تعهدهم بعدم الدفع بمرشح في معركة الرئاسة بعد الثورة، وما هي إلا شهور حتى خالف الإخوان كالعادة عهدهم مع الله وقرروا ليس المنافسة على موقع الرئاسة فقط بل بلع الدولة بأكملها، لكنهم فشلوا على النحو الذي جرى وتسببوا بإفساد المسار الديمقراطي الذي بدأ في مصر بعد 25 يناير.

معضلة الإخوان ليست فقط في أنها جماعة تجمع بين ما هو سياسي وما هو ديني، إنما في خصامها العميق بتراث الدولة الوطنية المصرية بمبادئها المدنية، فخطابهم قادم من خارج خبرة الدولة الوطنية الحديثة، ورغم أن هذه الدولة لم تكن ديمقراطية بالمعنى المتعارف عليه في كل العصور إلا أن الإخوان ظلوا خارجين على مبادئها في كل المراحل.

الإخوان لم تكن فقط خصما لنظام مبارك أو عبد الناصر أو حزب الوفد من قبله، بل كانوا خصوما للقيم المدنية ومبادئ الدولة الوطنية الحديثة، أرادوا القضاء عليها واستبدالها بمبادئهم ومنهاجهم ليقيموا دولتهم الخاصة بنظامها الخاص.

بناء على ما سبق يبدو لكاتب هذه السطور أن مبادرة إبراهيم منير، لا تعدو كونها مناورة إخونية جديدة تهدف إلى فتح قناة اتصال لتخفيف الضغط، حتى تتمكن الجماعة من إعادة ترتيب أوارقها وتنظيم صفوفها تحت الأرض، وما أن تتاح لها الظروف تبدأ في الخروج وطرح نفسها مرة أخرى كبديل جاهز يملك الحلول.

قد تكون مبادرة اعتزال السياسة جزء من لعبة تبديل الأدوار التي تجيدها الجماعة، جناح اسطنبول بقيادة محمود حسين يتشدد وجناح لندن يوائم ويفاوض.

تملك الجماعة استراتيجية واضحة للتعامل مع الأنظمة الحكم المتعاقبة، يتم تطوير وتعديل تلك الاستراتيجية وفقا للمعطيات والظروف المحيطة، يعلم الإخوان متى يهادنون ومتى يصطدمون ومتى يعلنون الانسحاب.

أيا كانت الخلافات بين أجنحة الجماعة فهدفهم الأسمى واحد وهو الإبقاء على التنظيم واستمرار الفكرة وتسليمها إلى أجيال جديدة.. فهل يملك النظام الحالي أي استراتيجية للتعامل مع ملف الجماعة سوى المسار الأمني؟ وهل حدد هدفه أم أن الأمور يتم ترحيلها أو تجنيبها إلى أن يقضي الإخوان أمرا؟