وفق نتائج الباروميتر العربي 2021/2022؛ فإن العرب يتطلعون إلى ثلاثة أشياء:

1- حكومات فعالة قادرة على مواجهة تحديات المواطنين الأساسية، والتي تأتي في مقدمتها الأوضاع الاقتصادية.

2- زعامات قوية قادرة على الإنجاز.

3- نظم ذات طبيعة ديموقراطية؛ وإن أدركوا حدود فاعلية هذه الأنظمة في الفترات الانتقالية في معالجة المشكلات الاقتصادية وجلب الأمن والاستقرار.

وهكذا؛ فإن الكلمة المفتاحية عند العرب هي الحوكمة الفعالة والنظام الكفء القادر على أن يستجيب لتحديات الاقتصاد، ويوفر الغذاء -الذي لم تتوفر الأموال لشرائه لنسبة تتراوح بين الثلث (الأراضي الفلسطينية) والثلثين (مصر)، ويعالج عدم الاستقرار والفساد وتداعيات وباء كورونا -حيث إن الاستطلاع أجري قبل الحرب الأوكرانية.

حوكمة فعالة

يهتم العرب بالحوكمة الفعالة أكثر من شكل حكوماتهم، فقد أظهرت نتائج الاستطلاع الذي أجري في تسع دول بالإضافة إلى الأراضي الفلسطينية أن 70%؜ ممن شملهم الاستطلاع في المتوسط يفضلون حكومات كُفؤة، وفعالة قادرة على أن تتعامل مع التحديات التي تراكمت على مدار العقد الماضي -عقد الربيع العربي- والتي كان في مقدمتها أزمات اقتصادية -فاقمها وباء كورونا، وعدم الاستقرار حين شهدنا انهيار عدد من الدول في المنطقة، وضعف الحكومات التي أتت بها الانتخابات في دول أخرى، وآخرًا وليس أخيرا؛ ميراث الفساد في كثير من بلدان المنطقة.

كان العراق الذي عانى كثيرا من انتشار الفساد وضعف حكوماته بعد الغزو الأمريكي 2003 في مقدمة البلدان التي بحث مواطنوها عن حكومة فعالة بنسبة تقترب من الأربعة أخماس (79%؜) تليه كل من: تونس التي شهدت صراعا بين القوي السياسية المختلفة بما شل الحكومات المتعاقبة، وليبيا التي عانت من انهيار سلطتها المركزية وتعدد في الحكومات في نفس الوقت. تساوي البلدان في تطلع مواطنيهما إلى الحكومة الفعالة بنسبة تفوق الثلاثة أرباع (77%؜).

واستمر البحث عن حكومات فعالة في جميع الدول التي شملها الاستطلاع، وتراوحت النسبة بين الثلاثة أرباع تقريبا (موريتانيا بنسبة 73%؜)، والثلثين كما في مصر(66%؜)، والأراضي الفلسطينية والمغرب (62%؜)، والثلاثة أخماس تقريبا (السودان 61%؜).

ويستمر توجه العرب في البحث عن الانجاز، وهذه المرة من خلال زعيم قوي؛ فعند سؤالهم عن العبارة القائلة: “البلد باجة إلى زعيم مستعد لخرق القواعد من أجل تحقيق الانجازات”؛ عبر كثيرون عن تفضيلهم لزعماء أقوياء.

جاء العراق وتونس في مقدمة البلدان العربية الباحثة عن زعيم قوي (87 و81%؜ على التوالي) لأسباب مفهومة؛ فقد عانت الدولتان من ضعف حكوماتهما وانقسام نخبتهما وصراع شديد بين القوى والأحزاب السياسية نتج عنه ضعف في الإنجاز وأد به الحلم وثورة التوقعات التي انطلقت بعد ثورة الياسمين 2010/2011.

وقد تقاربت النسبة في كل من لبنان وليبيا (73%؜ و71%؜ على التوالي)؛ حيث اتسما بضعف شديد في سلطاتهما المركزية، وانقسام جهوي وطائفي توزعت عليه قوى المجتمع، بالإضافة إلى انتشار المليشيات المسلحة.

أما الدول التي اتسمت باستقرار نظمها السياسية، واستمرار القيادة السياسية لفترات طويلة مثل الأردن والمغرب؛ فإن البحث عن زعامات قوية دار حول النصف تقريبا (53%؜ للأردن، و48%؜ للمغرب)، والملفت أن الأراضي الفلسطينية منقسمة حول فكرة الزعيم القوي؛ إذ يرفض 47% هذه الفكرة في حين يقبلها 51% فقط.

لكن السؤال لماذا يحتاج العرب الحكومة الفعالة والزعيم القوي؟

يُنظر إلى الوضع الاقتصادي على أنه التحدي الأكثر إلحاحًا لسبع دول والأراضي الفلسطينية، قبل الفساد وعدم الاستقرار وانتشار كوفيد 19.

وفي دولتين فقط لا يُنظر إلى الوضع الاقتصادي على أنه القضية الأكثر أهمية، وهما العراق، حيث يعد الفساد القضية الأهم، وليبيا التي مزقتها الحرب، حيث يشيع عدم الاستقرار.

ويتفق واحد على الأقل من كل ثلاثة أشخاص في كل دولة شملها الاستطلاع مع العبارة القائلة بأن الطعام نفد خلال العام الماضي قبل أن يكون لديهم الأموال الكافية لشراء المزيد.

وكان الكفاح من أجل الحصول على طعام على المائدة أمرا محسوسًا بشدة في مصر وموريتانيا، حيث قال اثنان من كل ثلاثة أشخاص إن ذلك يحدث أحيانًا أو كثيرًا.

وأُجري الاستطلاع في معظمه قبل الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير الذي أدى إلى تفاقم انعدام الأمن الغذائي في جميع أنحاء المنطقة، لا سيما في مصر وليبيا وتونس، التي تعتمد بشدة على صادرات القمح الروسية والأوكرانية.

الديموقراطية الفعالة

تدلنا نتائج استطلاع الباروميتر العربي في دورته الأخيرة على اتجاهين يبدو بينهما تناقض ظاهري، والطريف أن تحليلات خبراء الباروميتر والبي بي سي لم تسع لتقديم تفسير لهذا التناقض؛ بل خلصوا إلى نتيجة أن: “العرب يعتقدون أن اقتصادات دولهم ستضعف إذا طبقت الديمقراطية”، وهو نصف الحقيقة، أما النصف الآخر فهي أن برغم تداعيات الربيع العربي، وعثرات التطبيق الديموقراطي على مدار العقد الماضي، ورغم تزايد القلق من مشاكل الديمقراطية، وتصاعد الثورات المضادة التي كان مبتغاها القضاء على أية تجربة ديموقراطية أو على الأقل شل فعاليتها.. برغم ذلك كله؛ فالمواطنون عبر المنطقة يؤكدون -إلى حد بعيد- أنه بغض النظر عن هذه المشكلات، لا تزال الديمقراطية هي النظام الأفضل للحكم في مجتمعاتهم.

أظهر الاستطلاع: أنه رغم تنامي القلق حول مدى فعالية النظام الديموقراطي وقدرته على حل المشكلات الاقتصادية، ففي أغلب الدول لم يتغير التصور القائل بأن الديمقراطية هي أفضل النظم أو النظام الفعال الوحيد، بدرجة كبيرة، على مدار العقد الماضي.

الأغلبية في جميع الدول التي تم فيها الاستطلاع تعتنق هذا الرأي، وبلغت النسبة ثلاثة أرباع تقريبا في لبنان )81 بالمئة (والأردن) 77 بالمئة (وموريتانيا) 76 بالمئة (وفي الدول الأخرى، كان الثلثان تقريبا أو أكثر يعتنقون هذا الرأي في جميع الدول باستثناء المغرب، حيث بلغت النسبة 54 بالمئة فقط.

وهكذا؛ فإن الرأي العام العربي في بحثه عن حل لمشكلاته المتعددة سعى للتمييز بين انحيازه القيمي والمبدئي للنظام الديموقراطي باعتباره النظام السياسي المفضل لديه، وبين تعامل واقعي يبحث من خلاله عن الفاعلية والإنجاز، وهذا التمييز يجد تفسيره في حدود فاعلية الديموقراطية في الفترات الانتقالية.

فعلى مدار العقد الماضي -عقد الربيع العربي- عانت النظم السياسية من مشكلات هيكلية عجزت بها أن تقدم حلولا ناجزة لأولويات المواطن العربي، وهنا مفارقة يجب رصدها: أنه برغم هذه المعاناة التي تمثلت في انهيار عدد من الدول وملايين المهاجرين وتدهور في مستوي معيشة الجمهور.. إلخ برغم كل هذا؛ فإننا شهدنا موجات متتالية من الاحتجاجات، وتتوقع عديد الدراسات “أن الشعب لايزال يريد”؛ فهي لم تنته بعد، وذلك لعجز الأنظمة في المنطقة أن تعالج المشكلات الهيكلية التي تنتجها.

نستطرد فنقول: إن الديموقراطية الفعالة التي يتطلع إليها المواطنون العرب تتطلب إدراك طبيعة الزمن الانتقالي ومعالجة التحديات التي يفرضها، وقد سبق لكاتب هذه السطور أن استخلص بعضا من دروس الفترات الانتقالية لدى العرب.

وقد كان أحدها: امتزاج البعدين السياسي والاجتماعي للديموقراطية؛ فجوهر العقد المنصرم هو تطلع الشعوب العربية -وخاصة الفئات الشابة المتعلمة- للحرية والعدالة الاجتماعية والحكم الرشيد، واحتجاج على الفساد وسوء توزيع الدخل.