بالرغم من اختلاف المهتمين بعلم الاجتماع الديني حول وظائف الدين في حياة البشر، إلا أنهم يتفقون جميعا على وظيفتين أساسيتين: الأولى، تفسيرية، تتمثل في الإجابة على الأسئلة الوجودية الكبرى: من أين؟ وإلى أين؟ ولماذا؟ والثانية، وظيفية وجدانية، تتمثل في منح الشعور بالاطمئنان والسكينة والرضا.. وهاتان الوظيفتان تتفق عليهما الديانات جميعا، ثم تختلف بحسب طبيعتها في إضافة وظائف أخرى، تهذيبية، أو تشريعية، أو اقتصادية.

لكن الحالة المصرية، وبعد قرابة نصف قرن من فتح المجال الدعوي أمام تيارات الغلو الحركي والسلفي، حولت الدين إلى جحيم، وجعلته من أكبر أسباب الإزعاج والتناحر وضياع الاطمئنان النفسي.. مواقع التواصل الاجتماعي أصبحت ساحة احتراب ديني، وسباب عقائدي، وتكفير على ألفاظ ومواقف واختيارات فقهية.

يعاني المتدين المصري من الآثار السلبية المتراكمة، لخلط الوعظ بالفقه، ولإزالة الحدود بين التدريس والإفتاء، ونشأة أجيال كاملة أخذت ثقافتها الدينية من شرائط الكاسيت لرموز السلفيين، أو من مواقع الإنترنت التي تأخرت المؤسسات الدينية الرسمية عن ساحتها سنوات طويلة، فامتلأت بكل أشكال الغلو، والتكفير، والقطع بتحريم ما هو مختلف فيه، بل بتحريم ما أباحته جماهير علماء الأمة عبر القرون.

حتى أوائل السبعينيات، كان المتدين المصري يستمع إلى خطاب هادئ، يصدر عن أعلام كبار، يتمتعون بإدراك عميق لمقاصد الشريعة، ومتغيرات الواقع.. كما أنهم كانوا بعيدين كل البعد عن أنماط الخطاب التعبوي الصاخب، أو فتاوى المنع والتحريم بلا سند واضح أو نص قطعي في ثبوته ودلالته، لا يختلف فيه مذهبان، ولا ينتطح فيه عنزان.

ثم جاءت الجماعات، لتحول الدين كله إلى خطاب، ثم توظف هذا الخطاب كله في حشد الجماهير حشدا لتواجه حربا موهومة ضد الإسلام، يشنها العالم كله، بالتواطؤ مع الحكومات المتعاقبة.. مع تفسير كل قرار أو تشريع أو حكم قضائي أو عمل فني بأنه يصدر لمحاربة الدين ونشر “الفواحش” بين المسلمين.

اليوم صار التدين معارك مشتعلة، لا تهدأ معركة حتى تشتعل أخرى، ولا تخمد الثانية حتى تتأجج الثالثة.. حرب ضروس يشنها “الوهابية” على أهل الأغلبية الساحقة من أهل السنة متمثلين في الأشعرية والماتريدية.. سب وشتم وتحقير للأزهر والتصوف والتمذهب الفقهي.. إعلاء للشكلانية وتحويل أبسط المسائل إلى قضايا عقيدة تخرج المتورط فيها من دائرة الإيمان، وتنقله إلى دائرة الكفر أو الفسق أو البدعة.

ولعقود طويلة، كان الأزهر نائما، منكفأ على نفسه، يعاني الضعف والترهل الممتد في جسد ضخم يضم آلاف المعاهد التي خلت من “المعلم” المؤهل.. فلما بدأ الأزهر في الانتباه والتيقظ، وقرر مواجهة تلك الحالة المرضية، والهيمنة السلفية، وتسفيه التراث والفقه المذهبي، وتكفير الصوفية والتصوف، لم يكن كل أبنائه على المستوى اللازم لخوض هذه المعركة.. فبعض صوفيته نقل كل ما يجب أن يكون بين المريد وشيخه، إلى وسائل التواصل، فصار التصوف جزءا من “المعركة الإليكترونية”.. كما أن بعض رموزهم صرفوا جل جهدهم للحديث عن الكرامات والخوارق، وبعضها مما ينفر منه العقلاء.

ثم تبدى الضعف والهشاشة والسطحية كبيرا عند كثير من المتمذهبين، الذين تعاملوا مع مذاهبهم باعتبارها دينا، لا تجوز مخالفته في حكم ولا تفصيل ولا فتوى.. فاصطدموا بمتغيرات الواقع وبحركة المجتمع، وطرحوا أنفسهم باعتبارهم إصلاحيين، فإذا هم مجرد “معطلة”.. لا للصفات الإلهية، بل لحركة الحياة والناس والعلم.. فصار المتدينون بين “مراوغة” ما يعرف بـ”فقه الدليل” المفتقد إلى المنهجية والانضباط، وبين “فقه الجمود” الرافض لأي قول أو فتوى تخرج عن المذاهب الأربعة، بل عن ما يعرف بـ”معتمدات” المذاهب الأربعة.

وعبر فيسبوك، وتويتر، ويوتيوب، وتيك توك، وكلاب هاوس، غرق المتدين المصري في كل أسباب ضياع السكينة وافتقاد الطمأنينة، من خلال “ترند” يومي: معركة المعراج مع إبراهيم عيسى.. آخر تعليق لوجدي غنيم.. الرد المفحم على إسلام بحيري.. فيديو جديد لمبروك عطية.. فتوى “النسب” لأحمد كريمة.. تدوينة خالد منتصر عن الحجاب.. رد عبد الله رشدي على منتصر.. مبروك عطية يعلن اعتزاله.. لجنة الفتوى ترفض نقل عضو من الخنزير لإنسان.. حاتم الحويني يرد على دار الإفتاء.. مصطفى العدوي يصف شيخ الأزهر بالضلال.. سعاد صالح تثير الجدل.. سعد الهلالي يرفض تسلط الفقهاء.. عبد الله رشدي يرد على الهلالي.. مبروك عطية يظهر من جديد.. ولا تفوتنا الإشارة إلى المناظرات الإسلامية المسيحية، والرد على “عقيدة النصارى” والجدل حول حصة الدين والكتاتيب والصفات والحجاب والنقاب والتماثيل والكلاب.

وتقريرا للواقع، فقد نجحت تيارات الغلو السلفي والحركي، في أن تجعل الأزهر وخطابه مجرد رد فعل، لا سبق فيه ولا مبادرة.. فالأجندة الدينية الشعبية، والموضوعات المطروحة يحددها السلفيون، ويخدمهم في نشرها الصحفيون، ويرد عليها الأزهريون.. ولأن هؤلاء السلفيين قد سبقوا المؤسسة الأزهرية إلى عالم الإنترنت، فملؤوه فأفكارهم واختياراتهم وفتاوى مشايخهم، فإن رد الفعل الأزهري (مؤسسة ومنتمين) يأتي دائما باهتا ضعيفا لاهثا، لا يؤثر إلا في قطاع محدود الشباب.. كما إن هذه الردود تظل جزئية لا منهجية، موضعية لا موضوعية، وذلك لأنها كانت وماتزالت مجرد رد فعل.

لا أبالغ إن قلت إن كثيرا من الذين عرفوا الدين مصدرا أول للسكينة والاطمئنان، يتحسرون على “أيام الهدوء” والأحاديث الدينية الوقورة في الإذاعة والتليفزيون، ويتذكرون “تقدمة التلاوة” في البرنامج العام قبل الثامنة مساء، أو الدقائق الخمس لبرنامج حديث الروح قبل نشرة التاسعة في التليفزيون المصري.. يتحسرون على الأصوات التي تبعث الراحة في النفس، وتقدم الدين باعتباره سببا لسعادة الإنسان وملء فراغه الروحي.

وسط هذا الضجيج يحن الجمهور البسيط المتدين إلى الشيوخ القدماء: أحمد الطيب النجار، وعبد الصبور شاهين، ومحمد سيد طنطاوي، وتاج الدين نوفل، ومحمود محمد عمارة، وعبد الله شحاتة، ومحمد عبد الواحد أحمد، وإسماعيل صادق العدوي، وإبراهيم جلهوم، وإلى التسجيلات الإذاعية القديمة للأعلام: محمود شلتوت، ومحمد عبد الله دارز، وعبد الحليم محمود.. تمثيلا لا حصرا.

ولا ريب، أن الحالة الدينية الصاخبة المجادلة المشتبكة، والدعاة المتصدرين المنشغلين بالترويج لأنفسهم، وإثبات “متانتهم” العلمية، وقوتهم في الحفظ والتحصيل، مع ما يمارسونه من استعلاء واستطالة على الجمهور، وسخرية لا تنقطع من المخالفين، والإصرار على إعلان المواقف من كل حدث وتصريح واكتشاف علمي.. كل ذلك كان من أكبر، بل هو أكبر أسباب النفور من الدين نفسه، والخروج الكامل من دائرة الإيمان.. صار المشايخ أكبر أسباب الإلحاد.