أثار وصول نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب الأمريكي، إلى تايوان. رد فعل قويا ومتوقعا من الصين، التي أسرعت بتوجيه طائراتها الحربية لتشق أجواء مضيق تايوان. فيما حذرت وزارة خارجيتها من “عواقب وخيمة” لهذه الخطوة الأمريكية في جزيرة، تعتبرها بكين جزءًا من الدولة الصينية.
وبينما أخبر الرئيس الصيني شي جين بينج، نظيره الأمريكي جو بايدن، في مكالمة هاتفية الأسبوع الماضي، أن “أولئك الذين يلعبون بالنار سوف يموتون بها”. أعلنت الصين ليلة أمس عن تدريبات عسكرية ضخمة، مع تدريبات بالذخيرة الحية تنطلق غدًا الخميس 4 أغسطس/آب، أي بعد مغادرة بيلوسي لتايوان مباشرة. ما يجعل شبح المواجهة العسكرية يلوح في الأفق. وهو ما أشار إليه مينكسين باي، أستاذ نظم الحكم في كلية كليرمونت ماكينا، وزميل صندوق مارشال الألماني بالولايات المتحدة، في تحليل سياسي نشرته منظمة “بروجيكت سنديكيت” الصحفية الدولية.
يرى “باي” أن بيلوسي ليست مسئولة عن التوترات المتصاعدة اليوم حول الجزيرة الطامحة في الاستقلال عن التنين الأحمر. ويضيف: “حتى لو قررت -أي بيلوسي- تخطي العاصمة التايوانية تايبيه في جولتها في آسيا، فإن العداء الصيني تجاه تايوان كان سيستمر في التصاعد. وربما يتسبب في أزمة أخرى في مضيق تايوان في المستقبل القريب”.
اقرأ أيضا: “ألعاب الحرب”.. الصراع على تايوان يرجح النووي
الصين ترفع عصا العقوبات
اقتصاديًا وردًا على زيارة بيلوسي، أعلنت بكين – أكبر شريك تجاري لتايبيه – اليوم الأربعاء، فرض عقوبات على تايوان. حيث علقت إدارة الجمارك الصينية، استيراد بعض أنواع الفاكهة والأسماك من جارتها.
وأكدت أنها “رصدت مرارا نوعا من الطفيليات الضارة على ثمار الحمضيات، وسجلت مستويات مفرطة من مبيدات الحشرات”.
ورغم تسجيل التبادل التجاري ارتفاعا بنسبة 26% في عام 2021، ليصل إلى 328 مليار دولار، أعلنت وزارة التجارة “تعليق تصدير الرمال الطبيعية إلى تايوان” اعتبارًا من اليوم (الأربعاء)، دون إبداء أي تفسير، وفقا لما نقلته وكالة ال،باء الفرنسية “فرانس برس”.
في المقابل، أكدت رئيسة تايوان تساي إنج ون، أن بلادها “لن تتراجع عن مواجهة تهديد الصين”، التي تستعد لتنظيم مناورات عسكرية تنطوي على خطورة بالقرب من سواحل الجزيرة.
وخلال لقاء مع تساي في تايبيه، قالت بيلوسي -أرفع مسئول في الولايات المتحدة يزور الجزيرة منذ 25 عاماً- إنها جاءت إلى المنطقة “بسلام”. مؤكدة في الوقت نفسه أن الولايات المتحدة “لن تتخلى عن التزاماتها حيال الجزيرة الديمقراطية التي تعيش تحت التهديد الدائم لغزو صيني”.
رغبة الضم وعامل الوقت
يرى أستاذ الحكم في كلية كليرمونت ماكينا مينكسين باي، أنه على عكس السرد السائد، لم يكن التحذير الصيني القوي في الأساس، مفاجئا، لأن الرئيس “شي” ملتزم بإعادة توحيد تايوان خلال فترة حكمه.
لكن، على الرغم من أن إعادة التوحيد هي بالفعل أحد أهداف الرئيس الصيني طويلة المدى، “حيث سيكون ذلك بمثابة تتويج لإنجازه، ولكل الحزب الشيوعي الصيني، على نطاق أوسع، فإن أي محاولة لتحقيق ذلك بالقوة ستكون مكلفة للغاية. حتى أنه قد يحمل مخاطر وجودية لنظام الحزب الشيوعي الصيني، والتي قد يتعرض بقاؤه للخطر لو فشل أي عمل عسكرية حال تنفيذه.
يضيف باي: لكي يحظى الغزو الصيني لتايوان بفرصة جيدة للنجاح، ستحتاج الصين أولا إلى عزل اقتصادها عن العقوبات الغربية. ومن ثم اكتساب القدرات العسكرية التي يمكن أن تردع التدخل الأمريكي بشكل موثوق. كل من هذه العمليات سوف تستغرق ما لا يقل عن عقد من الزمان.
أما الأسباب الرئيسية وراء صخب الصين الحالي بشأن تايوان، فهي أكثر إلحاحًا.
تشير السلطات الصينية إلى القادة التايوانيين -وأنصارهم في الغرب- إلى أن علاقاتهم مع بعضهم البعض ومع الصين تسير في مسار غير مقبول. المعنى الضمني هو أنه إذا لم يغيروا المسار، فلن يكون أمام الصين خيار سوى التصعيد.
وفق باي، حتى وقت قريب نسبيًا، كان قادة الصين ينظرون إلى الوضع في مضيق تايوان على أنه غير مُرضٍ ولكنه مقبول. عندما حكم حزب الكومينتانج -الصديق تقليديًا للصين- تايوان، كانت الصين قادرة على اتباع استراتيجية تدريجية. للتكامل الاقتصادي، والعزلة الدبلوماسية، والضغط العسكري. وهي استراتيجية اعتقدت أنها ستجعل في النهاية إعادة التوحيد السلمي الخيار الوحيد لتايوان.
اقرأ أيضا: المواجهة بين أمريكا والصين من أجل تايوان: الحرب ليست غدا
الحزب الديمقراطي وتيار الاستقلال
في يناير/ تشرين الثاني 2016، عاد الحزب الديمقراطي التقدمي، المؤيد للاستقلال، إلى السلطة في تايوان. مما أدى إلى قلب خطط الصين. بينما يدعي حزب الكومينتانج أن تايوان والصين لديهما تفسيرات مختلفة لتوافق عام 1992 -الاتفاق الذي توصل إليه الحزب مع سلطات البر الرئيسي الصيني قبل 30 عامًا يؤكد على وجود “صين واحدة”- لكن يرفض الحزب الديمقراطي التقدمي ذلك تمامًا.
على الرغم من صعوبة تحديد الوقت الذي أصبح فيه الوضع الراهن الجديد غير محتمل بالنسبة للصين. فمن المحتمل أن تكون نقطة التحول الرئيسية قد حدثت في يناير/ تشرين الثاني 2020، عندما فازت الرئيسة التايوانية تساي إنج وين من الحزب الديمقراطي التقدمي بولاية ثانية بسهولة. وعندما هزم حزبها حزب الكومينتانج. في الانتخابات التشريعية.
يقول باي: بينما عزز الحزب الديمقراطي التقدمي هيمنته السياسية، أصبح حلم الصين في تحقيق إعادة التوحيد السلمي بعيد المنال.
أيضا، الولايات المتحدة كانت تقوم بشكل تدريجي بتغيير سياستها المتعلقة بتايوان. في ظل إدارة دونالد ترامب، رفعت الولايات المتحدة القيود المفروضة على الاتصالات بين المسئولين الأمريكيين ونظرائهم التايوانيين. وغيرت بمهارة صياغة سياسة “صين واحدة”، من خلال زيادة التركيز على الالتزامات الأمريكية تجاه تايوان، ونقل أنظمة أسلحة متطورة إلى الجزيرة.
استمرت مثل هذه التحديات للصين في عهد بايدن. في العام الماضي، تدرب مشاة البحرية الأمريكية بشكل علني مع الجيش التايواني. وفي مايو/ أيار الماضي، أشار بايدن إلى أن الولايات المتحدة “ستتدخل عسكريًا إذا هاجمت الصين تايوان”. على الرغم من أن البيت الأبيض تراجع بسرعة عن بيانه.
سياسة حافة الهاوية
يؤكد زميل صندوق مارشال بالولايات المتحدة أن حرب أوكرانيا قد عززت الشعور السائد بين القادة الغربيين بأن تايوان في خطر جسيم ومباشر. يقول: يبدو أنهم يعتقدون أن الدعم القوي والصريح -بما في ذلك الزيارات رفيعة المستوى والمساعدة العسكرية- هو الوحيد القادر على تجنب هجوم صيني. ما فشلوا في إدراكه هو، من وجهة نظر بكين، أن دعمهم لتايوان يبدو وكأنه محاولة لإذلال الصين أكثر من أي شيء آخر. ومن ثم، فهو استفزاز أكثر منه رادع.
وأضاف: تخشى الصين الآن أنه إذا لم يدفع قادة الحزب التقدمي الديمقراطي، وأنصارهم الغربيين، ثمن إهاناتهم. فإنها ستفقد قبضتها على الوضع. هذا لن يقوض فقط فرصة الرئيس شي في تحقيق هدفه طويل الأجل المتمثل في إعادة التوحيد. إنها أيضا دعوة إلى اتهامه بالضعف، الذي من شأنه أن يضر بمكانته داخل الصين وخارجها.
لفت باي إلى أن الصين ربما لا تخطط لشن هجوم فوري ومتعمد على تايوان. لكنها “قد تقرر إشراك الولايات المتحدة في لعبة الدجاج (مناورات الطائرات العسكرية) في مضيق تايوان”، في إشارة لإمكانية الانزلاق لمواجهات عسكرية مع واشنطن نتيجة هذه المناورات.
وأكد: من المستحيل التنبؤ بشكل دقيق أو توقيت مثل هذه المواجهة. لكن من الآمن أن نفترض أنه سيكون في غاية الخطورة، لأن الصين تعتقد أن سياسة حافة الهاوية هي وحدها التي يمكنها تركيز عقول جميع اللاعبين. مثل أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، قد تنتهي الأزمة الجديدة في مضيق تايوان باستقرار الوضع الراهن. وإن كان ذلك بعد أيام قليلة من التوتر.
قد تكون هذه خطة الصين. لكن مثل هذه المناورة يمكن أن تسوء بشكل فظيع. خشية أن ننسى، حقيقة أن الحرب النووية لم تندلع في عام 1962 كانت -إلى حد كبير- مسألة حظ.