بعد صلاة الجمعة 28 يناير 2011، لم يكن غير الشرطة من أداة في يد النظام الحاكم منذ ثلاثين عاما والمنقسم على نفسه والمتفكك من داخله والمتداعي للسقوط، فلما زهدت ثم عزفت ثم عجزت الشرطة عن مواجهة الجماهير التي احتشدت في ميادين وشوارع العاصمة وغيرها من مدن كبيرة وصغيرة، لما حدث ذلك، تخلت الشرطة عن حماية النظام، فسقط النظام – بصورة حاسمة في الساعات الثلاث بين صلاة الجمعة وصلاة العصر، وما بين العصر والمغرب وقع فراغ سياسي وأمني كامل، البلاد بغير حاكم نافذ الكلمة والشوارع بغير بوليس قادر على ضبطه وربطه.

عند غروب شمس الجمعة 28 يناير 2011 كان وزير الدفاع المشير محمد حسين طنطاوي 1935 – 2021 هو الحاكم الفعلي للبلاد وكانت قواته قد بسطت وجودها في كافة أنحاء القطر، ولم يعد الحاكم المتداعي للسقوط غير ظل باهت، ولم تعد الشرطة غير ماء قد تبخر، نزل المشير، ومعه قواته، ولديه خطة واضحة، واضحة في ذهنه هو ومن معه، واضحة بالمعنيين التكتيكي ثم الاستراتيجي، هذه الخطة باختصار شديد: استعادة سيطرة العسكريين على مقاليد السلطة العليا في البلاد، وهذا هو المعنى الاستراتيجي، أما المعنى التكتيكي فكان ببساطة: التحالف مع الميدان حتى يتم التخلص من التمديد للحاكم والتوريث لنجله، حتى إذا تم ذلك في 11 فبراير 2011 يبدأ التكتيك الثاني وهو التحالف مع الإخوان للتخلص من الميدان، حتى إذا تم ذلك بدأ التحالف مع المدنيين للتخلص من الإخوان، حتى إذا تم ذلك في 30 يونيو 2013، بدأت حقبة تأديب الجميع دون استثناء، ثم انفسح الطريق لتأسيس دولة 30 يونيو أو ما بات يعرف بعد ذلك باسم “الجمهورية الجديدة”.

من مساء الثلاثاء 25 يناير 2011 إلى غروب شمس الجمعة 28 يناير 2011، كانت هي الثورة المحضة، قبل أن يلحق بها العسكريون، وقبل أن يلحق بها الإسلاميون، وقبل أن يتدخل فيها الخارج، هذه الثورة المحضة كانت تهديدا مباشرا لدولة 23 يوليو ذاتها وليست فقط تهديدا لنظام الحكم أو للحاكم ونجله، كانت تهديدا لدولة يوليو 1952- 2011 بما تعنيه من استقرار الحكم بين الضباط من الجيش، رغم براعة التكتيكات التي لعبها المشير طنطاوي إلا أن الموجة كانت عالية والمهمة كانت عسيرة، ولم يكن من حل غير احتواء الجميع ثم ضرب الجميع بالجميع ثم انتظار فشل الجميع ثم العودة الظافرة وسط ترحيب الجميع في 30 يونيو 2013 ثم الحصول على التفويض من الجميع في 24 يوليو 2013، ثم بالتدريج نجحت الجمهورية الجديدة 2014 – 2022 في اسكات ثم استبعاد ثم تأديب الجميع عبر طبعة فريد من ديكتاتوريات دولة يوليو 1952، لكن في إطار جديد مختلف تماما.

***

عندما توجهت الجمهورية الجديدة بالدعوة لما أسمته “الحوار الوطني” في 26 أبريل 2022 كانت هي نفسها -بعد ثمانية سنوات من الحكم بالحديد والنار- قد صارت سجينة هذه القبضة الحديدية النارية، صارت الجمهورية الجديدة سجينة أفكارها وسياساتها، تماما مثلما صارت كافة قوى المعارضة سجينة هذه الجمهورية القاسية، تماما مثلما أصبح الشعب -دون ذنب اقترفه- سجين الخوف المزمن.

هكذا جاءت الدعوة للحوار الوطني من سلطة سجينة أفكارها وسياساتها، توجهها لمعارضة لقيت من التقييد والتجريس والاتهام والقمع والسجن والتشويه ما أعاق نموها وأضمر قدراتها وخنق أنفاسها وبذر فيها من الخوف والحذر ما يكفي لشل قدرتها على المبادرة والتفكير والحركة ناهيك عن أن تمارس -بالفعل- سلوك المعارضة، ثم فوق السلطة والمعارضة هناك عموم الشعب الذي تفاجأ بعد أن تأسست دولة 30 يونيو واستقرت، تفاجأ بها تخاطبه جالسةً من وراء ظهرها، لا تتورع عن لومه وتوبيخه،  وإذا لزم الأمر لا تتردد في تحذيره وتهديده ووعده ووعيده وتلقينه الدروس علنا، وتخاطبه بنداء يبعثره وينثره ويفرق جمعه ويتجاهل فوته ويغفل وحدته هو نداء “أنتو يا مصريين”، نداء يصنع الحواجز ويضع المسافات ويفتقد القرب ويضيع فيه الدفء وتنقطع منه أواصر القربى و الحميمية والمودة.

ديكتاتورية الجمهورية 2014 وما بعدها هي امتداد لديكتاتوريات دولة يوليو 1952 وما بعدها حتى 2011، وديكتاتوريات يوليو هي امتداد لما قبلها من ديكتاتوريات الدولة الحديثة من محمد علي باشا إلى فاروق، فعندما قامت ثورة 23 يوليو 1952 كانت التجربة الديمقراطية التي كافح لأجلها المصريون من أجيال ثورة 1919 كانت قد وصلت إلى طريق مسدود واستنفدت أغراضها، كان الملك -وليس البرلمان وليس الوزارة- هو عمود الخيمة ومحور السلطة، كان الملك يقبض سلطته على ما بات يعرف بعد ذلك بالمؤسسات الدينية، كان الملك -قبل يوليو 1952- النموذج العملي الذي اقتدى به الحكام من ضباط الجيش بعد ذلك، فإذا كان الملك الديكتاتور هو فاروق الأول، فإن الرئيس محمد نجيب هو فاروق الثاني، والرئيس عبدالناصر هو فاروق الثالث، والرئيس السادات هو فاروق الرابع، والرئيس مبارك هو فاروق الخامس، والرئيس السيسي هو فاروق السادس.

هذا مع فارق أن الملوك من سلالة محمد علي باشا كانت شرعيتهم من مصدرين: من تملك الباشا لمصر عبر كفاح نصف قرن بالخداع وبالذراع، ثم توريثها لسلالته غبر توافق دولي هو معاهدة لندن 1840.

أما الملوك من ضباط الجيش فجاءت شرعيتهم من مصدرين مختلفين: من انتمائهم للجيش، ثم من استفتاءات شعبية غير ذات مصداقية أو انتخابات تنافسية شكلية ذات مصداقية لا تكاد تراها بالعين الطبيعية.

ويتفق ملوك ما قبل يوليو 1952 مع ملوك ما بعدها في أن الفريقين نجحوا في تفريغ كفاح المصريين من أجل الحكم الدستوري ودولة القانون من مضمونه ومحتواه، فدستور 1923 -الذي هو ثمرة كفاح المصريين في ثورة 1919- كان قد سقط بالفعل وبات حبرا على ورق حتى قبل سقوط الملك ذاته في 26 يوليو 1952 وحتى قبل أن قررت ثورة 23 يوليو إلغاءه بصفة نهائية في ديسمبر 1952.

ثم هناك فارق بين ديكتاتوريات ما قبل يوليو 1952 وما بعدها في أن الأولى كانت تقوم على استعباد للشعب باعتباره من أملاك الضيعة التي امتلكها محمد علي باشا بالخداع والذراع ثم بتوافق من قوى الاستعمار الأوروبي في القرن التاسع عشر، لكن ديكتاتوريات ما بعد يوليو لم تستعبد الشعب لكنها استبعدت الشعب، استبعدته تماما من السياسة إلا من يقبل أن يكون أداة في يد الضابط الرئيس، حل الاستبعاد بعد يوليو مكان الاستعباد قبلها.

لكن ديكتاتورية الجمهورية الجديدة 2014 وما بعدها تختلف عما سبقها من ديكتاتوريات ما بعد يوليو 1952 من عدة زوايا:

– الأولى: أن الديكتاتورية الأولى 1952 – 1970 جاءت من جيش غير محارب وغير حاكم، جيش أضعفه الإنجليز على مدى ثلاثة أرباع قرن، جيش كان أقرب ما يكون إلى جهاز تشريفات في خدمة الملك، وأقرب ما يكون إلى شرطة عسكرية عند الإنجليز، فقد كان الاحتلال يحتكر حق الدفاع عن مصر بل والمنطقة، ولم يكن يرى أن جيش مصر قادر على ذلك.

أما الجمهورية الجديدة فجاءت من جيش محارب وحاكم معا، خاض الحروب، وانفرد بالسيطرة على الحكم من ثورة 23 يوليو 1952 حتى ثورة 25 يناير 2011، جيش لديه خبرة الحكم، إنتاج الحكام في تعاقب مستمر مستقر لم يقطعه غير مشروع التوريث الذي لم يتم بفضل ثورة يناير التي لم تتم بفضل حكم الإخوان الذي لم يتم غير عام واحد، هذا الجيش كان له النصيب الكامل في ثورة 23 يوليو 1952، ثم كان له نصيب الثلث في ثورة 25 يناير 2011، ثم كان له نصيب الثلثين في ثورة 30 يونيو 2013.

–  الثانية: أن الديكتاتورية الأولى قررت تصفية الجميع باستثناء الإخوان، ثم قررت تصفية الإخوان، ثم استبعدت الشعب بصفة حاسمة من السياسة لكن في مقابل مزايا اجتماعية واقتصادية أفادت منها طبقات بعينها، ولم تنكسر هذه القاعدة، قاعدة الصمت في مقابل المزايا الاقتصادية والاجتماعية إلا مع هزيمة 1967 التي كشفت قناع الديكتاتورية وفتحت أعين الشعب على الحقيقة.

لكن ديكتاتورية الجمهورية الجديدة اكتفت بالتصفية الفعلية -الأدبية والمادية للإخوان- ثم تركت الجميع، لكن تركتهم بدون أي هامش للحركة، تركتهم على الهامش صفر، ليس لهم متسع غيره، لقد أبقت عليهم أحياء لكن دون حياة، أبقت عليهم طلقاء لكن دون انطلاق، بعضهم في السجون وبعضهم خارجها، ومن في السجون عظة وعبرة ودرس بليغ لمن هو خارجها.

– الثالثة: أن الديكتاتورية الأولى 1952 جاءت وسط مجتمع سياسي كان قد وصل -بكل مكوناته- حد الإفلاس الكامل سياسيا وأخلاقيا، سقطت قدرته على اكتساب الفعل، وسقطت قدرته على اكتساب الاحترام، وبينهما فقدت مبررات البقاء، وربما لكل هذا عجزت عن أن تدافع عن جدارتها بالبقاء، عجز الملك، وعجز الوفد، وعجز ما بينهما من قوى وتنظيمات باستثناء الإخوان واليسار وبقايا الحزب الوطني، أمام هذا العجز تيسرت مهام الديكتاتورية في نصفية الجميع دون استثناء سواء العاجز منهم عن الدفاع عن نفسه أو من كان قادرا على المنافسة أو المشاركة، أو راغبا في هذه وتلك.

أما ديكتاتورية الجمهورية الجديدة فقد واجهت عكس ذلك تماما، ثورة شعبية ترى نفسها المستقبل، إسلاميين جاءوا إلى السلطة عبر انتخابات من أدارها وأشرف عليها وأعلن نتائجها هو المشير محمد حسين طنطاوي ذاته باعتباره الحاكم الفعلي للبلاد، ثم حالة من الفوضى الإقليمية العارمة التي انتهت على عدة حروب أهلية فيما يسمى بلدان الربيع العربي التي مستها روح وريح الثورات في وقت متزامن مع ثورة 25 يناير 2011، كانت المخاطر أكبر بكثير مما واجهت الديكتاتورية الأولى من ديكتاتوريات يوليو.

رغم احتفاء الجمهورية الجديدة بثورة 25 يناير 2011 في ديباجة الدستور، إلا أنها -في الممارسة الفعلية- اعتبرتها ثغرة اختراق عدواني في جدار الدولة المصرية، ونسبت إليها كل ما لحق بالبلاد من كوارث، واعتبرت الجمهورية الجديدة أن لها وظيفتين: الوظيفة الأولى تجريد ثورة 25 يناير 2011 من كل فضيلة سياسية ووطنية وأخلاقية، وقد تكفل إعلام الجمهورية الجديدة بهذه الوظيفة ومازال. أما الوظيفة الثانية فهي تأديب كل من له صلة فعلية من قريب أو من بعيد بالمشاركة في ثورة 25 يناير وهذه الوظيفة تكفلت بها حزمة عقوبات تراوحت من تشويه السمعة إلى تقييد الحرية.

– الزاوية الرابعة والأخيرة في الفوارق بين الدكتاتورية الأولى من ديكتاتوريات يوليو وديكتاتورية الجمهورية الجديدة هو ما يتعلق بتصفية الإخوان، ففي كلتا الحالتين جاءت العداوة والقطيعة بعد سابقة تعاون وتقارب، فقد كان الإخوان هم الذراع الشعبية لضباط يوليو في أيامهم الأولى، كما تبادلوا المنافع مع ضباط المشير طنطاوي حين سمح لهم بصعود كامل وشامل بسرعة الصاروخ إلى كل مواقع السلطة دون استثناء بصورة لم تكن واردة ولا ممكنة حتى في أحلام وأساطير ألف ليلة وليلة، واستفاد المشير طنطاوي تصفية كل خصومه من العسكريين من أقرانه ومنافسيه من رجال مبارك، ثم لم يكن لضباط 30 يونيو أن يكون لهم هذا الدور التاريخي لولا اختيار الإخوان أن ينقلبوا على وزير دفاع طاعن في السن فقد الطموح ورضي بما تيسر من الاحتفاظ بمنصب الوزير ولم يمانع في تقديم التحية العسكرية لرئيس من الإخوان، ثم وقع اختيارهم على وزير طامح، ثم قادر، ثم ذي دهاء، ثم واسع الحيلة، لا تعجزه تعقيدات المواقف، ولا مشقة التحديات، وكان ومازال عصب دولة ما بعد 30 يونيو وإليه -وحده دون سواه- تنتسب ما تسمى بالجمهورية الجديدة.

ثم فيما يختص بتصفية الإخوان، فإن ديكتاتورية الجمهورية الجديدة محظوظة من أكثر من زاوية:

1- تصفيتهم في مصر تزامنت مع تصفيتهم في السعودية والإمارات وهذا ما لم يحدث عند التصفية الأولى بعد 1954 حيث كان للإخوان في السعودية بالذات ملجأ رغيد وآمن بحكم سوء العلاقات بين البلدين وقتذاك.

2- ثم هذه التصفية الثانية كانت أسهل وأشمل لأنها توفرت لها تغطية شعبية على مدى ستة أشهر نزل الناس فيها إلى الشوارع ما بين صدور الإعلان الدستوري في نوفمبر 2012 حتى سقوط نظام الإخوان في منتصف 2013.

3 – هذه التصفية الثانية تمت في أجواء دولية فقدت فيها الحركات الإسلامية زخمها العام بعدما أثبتت هذه الحركات من ضعف في كفاءة الحكم وجدارة الإدارة.

***

في مثل ذاك السياق الداخلي والإقليمي والدولي جاءت ديكتاتورية الجمهورية الجديدة 2014 وما بعدها مختلفة عن أول ديكتاتوريات يوليو 1954 وما بعدها، لم يكن يكفيها الديكتاتورية لكن زادت عليها وجودت فيها، ولم يكن يكفيها أن تحصل على التفويض من الشعب ثم تركنه ثم تستبعده، لكن عمدت إلى تصفية أي مقدرة على الكلام أو التفكير أو المبادرة أو التنظيم أو الفعل، تصفية فورية في مهدها، هذه التصفية -حتى تتم بكفاءة- استلزمت تأديبا جماعيا لجمهرة المصريين، من يبادر ويفكر ويفعل يكون عبرة وعظة ودرسا بليغا لمن قد تراوده نفسه في شيء من ذلك.

ثم بعد ثمانية سنوات من هذا الاستبعاد للجميع والركن للجميع والتأديب للجميع، جاءت الدعوة للحوار الوطني في إبريل 2022، دعوة مباغتة، غير متسقة مع ما قبلها، وبعد مرور ثلاثة أشهر لا تزال غير متسقة مع ما بعدها، فلا تزال سياسات الجمهورية الجديدة كما هي سجينة قبضتها اليمنى وهي قبضة من حديد ثم سجينة قبضتها اليسرى وهي من نار، سجينة ذاتها، أسيرة تراثها، رهينة أدواتها، مغلولة العقل والروح أمام ما كبلت وقيدت به نفسها على مدى السنوات 2014 – 2022.

ثم الأخطر من ذلك، أن ثقافة القيود والأغلال، وتقاليد الاستبعاد والركن والتصفية والتأديب، كل ذلك، بات – باستقراره على مدى ثمانية سنوات -حالة بنيوية تطوي تحتها النظام والمعارضة والشعب، الجميع -دون استثناء- بين أطياف السجن وأشباحه وهواجسه، ليس فقط كمقر لتقييد الحرية وحبس الفكر وتعطيل الحياة الطبيعية -لكن كمظلة عامة الكل تحتها، وكأرضية صلبة الكل فوقها، ثم كأسوار وجدران عالية الكل وراءها، لا فرق في ذلك بين حاكم ومعارض وشعب.

باختصار شديد: ما كان يُظن أنه عقوبة لها طقوس وأماكن بات حالة عامة غير مقيدة بطقس ولا مكان.

***

إذا كان ذلك كذلك، فهل من أفق ممكن أمام الحوار الوطني؟

ومن باب أولى، هل الجمهورية الجديدة لها أفق ممكن؟

نلتقي في مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله.