يكثر الحديث على الساحتين الدولية والإقليمية حول الإمارات كمركز للحياة الفارهة والتعايش والتسامح. بالإضافة إلى ذلك فالنظام الحاكم في الإمارات ظل من أكثر الأنظمة استقرارا رغم التقلبات السياسية في المنطقة في السنوات الأخيرة. ولكن كل هذا لا يمثل تعبيرا عن غياب التناقضات والمشكلات داخل البلاد.
يناقش الباحث ماريو ميخائيل في ورقة بحثية جديدة صادرة عن مركز التنمية والدعم والاعلام “دام” بعنوان “النخبة الحاكمة في الإمارات وهندسة مجتمع بلا سياسة” الأدوات والآليات التي يستخدمها النظام الإماراتي لتوطيد حكمه في البلاد وتطورها.
يقول الباحث إنه قد يبدو للوهلة الأولى أن هناك تناقضا صارخا بين معاملة الحكومة الإماراتية للمواطنين الإماراتيين والعمال المهاجرين. ولكن هذا التناقض ظاهري في بعض الأدوات المستخدمة. بينما الجوهر والهدف واحد وهو القضاء على السياسة للهيمنة على المجتمع.
فتعتمد النخبة الحاكمة في الإمارات على أدوات أمنية وقانونية لاحتواء ومنع ظهور التحركات العمالية والقضاء على أي طابع مسيس لها وإبقاء العامل المهاجر تحت سيطرة صاحب العمل. بينما لنزع السياسة عن المواطنين الإماراتيين تعتمد الحكومة على مزيج من الآليات مثل المزايا المادية والمالية. فضلا عن استراتيجيات لصناعة وهندسة مواطن غير مسيس مع استخدام الأدوات الأمنية/القانونية عند الضرورة.
للاطلاع على تفاصيل الورقة اضغط
العمال المهاجرون تحت قسوة الكفالة
تمثل العمالة الأجنبية النسبة الأكبر من العمالة في دول الخليج. والإمارات واحدة من تلك الدول. تقارب نسبة الأجانب في الإمارات 90% من عدد القاطنين على أراضيها. وتتكون الأغلبية من تلك النسبة من العمال المهاجرين غير المهرة وشبه المهرة القادمين من بلاد جنوب شرق آسيا.
يعاني العمال المهاجرون من العديد من الانتهاكات. فهناك تناقض صارخ في الأجور بناء على الجنسية. حيث تحصل العمالة الآسيوية والأفريقية على أجور متدنية للغاية مقارنة بالعمال الإماراتيين والعمال القادمين من دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية التي تضم الدول الغنية والمتقدمة.
كما يصاب العمال بإصابات جسدية وأضرار نفسية بالغة خلال العمل ولا يتم توفير الرعاية الطبية لهم. كما تقوم شركات التوظيف باستغلال العمال بطلب مبالغ كبيرة منهم في مقابل عقد العمل. ثم يتم الاحتيال على العمال عند وصولهم إلى الإمارات بتوقيع عقود لا يفهمونها وبشروط مجحفة.
هذا يجبر العمال على العمل في تلك الظروف القاسية في مخيمات العمل حيث يضطر العمال إلى تحمل تلك الظروف بسبب شروط العقود ولتسديد عبء الديون مع قيام الشركات بمصادرة جوازات السفر الخاصة بالعمال.
وتقوم تلك الشركات بإبلاغ السلطات الإماراتية حال هروب أحد العمال. فيما يعاقب القانون الهاربين من تلك الظروف القسرية للعمل ويتم استخدام جميع السبل للبحث عنهم.
ويضمن نظام الكفالة المتبع به في الإمارات وضع العامل تحت هيمنة صاحب العمل في تلك الظروف القسرية. كما أنه لا يسمح للعمال بإنشاء نقابات مستقلة.
ويقول الباحث ماريو ميخائيل في الورقة الصادرة من “دام” إن جميع تلك الممارسات هي أجزاء من استراتيجيات تعمل بشكل منهجي لنزع أي طابع سياسي عن المطالبات العمالية. ما يمنع تشكيل وعي أو تنظيمات ذات طابع مسيس لدى العمال.
فضبط وتأديب العامل المهاجر يصبح من مهام صاحب العمل إن كان بشكل مادي. وذلك عن طريق خصخصة علاقات العمل خلال حصر المفاوضات حول ظروف العمل والإضرابات العمالية داخل الحيز المكاني لمخيم العمل. أو عن طريق الهيمنة على حياة العامل بشكل أوسع لإبقائه تحت السيطرة في سياق علاقات وظروف عمل قسرية واستخدام أجهزة قمع الدولة كالشرطة إن لزم الأمر.
ويعزز القانون وممارسات الحكومة خصخصة علاقات العمل وإبقاء العامل تحت سيطرة الشركات. بالإضافة إلى أن تلك الاستراتيجية تخفي وتموه الانتهاكات ضد العمال والتحركات العمالية عن العالم حيث يظهر انها ممارسات أفراد بينما هي في جوهرها نظام ممنهج وضعته وتتبناه قوانين النخبة الحاكمة.
الدولة الريعية ومواطنون بلا حقوق وحريات
ويناقش الباحث أهمية العقد الاجتماعي للدولة الريعية (وهي الدول القائم اقتصادها وكيانها على إيرادات المواد الطبيعية الخام كالبترول دون وجود قاعدة للإنتاج المصنع) في بقاء النخبة الحاكمة الإماراتية في الحكم لسنوات عديدة.
ويقوم العقد الاجتماعي الريعي بين المواطنين والحكومة في الإمارات على مبدأ تنازل المواطنين عن المطالبات والحريات السياسية في مقابل الحصول على المزايا المالية التي يخلقها ريع النفط.
للاطلاع على تفاصيل الورقة اضغط هنا
العصا
هذا لا يعني أن الإمارات لا تلجأ إلى استخدام الأدوات الأمنية للحفاظ على الحكم. فرغم المزايا المالية لا يزال هناك معارضة للنظام الإماراتي.
فخلال الربيع العربي في 2011 تم القبض على مجموعة نشطاء مؤيدين للديمقراطية لمطالبتهم بإصلاحات سياسية. وكان أشهرهم أحمد منصور الذي حكم عليه بالسجن 10 سنوات عام 2018.
لكن رغم وجود معارضة محلية للنظام الإماراتي فهي تظل محدودة للغاية وتأثيرها محدود على المواطنين الإماراتيين.
ويوضح هذا فعالية العقد الاجتماعي الريعي في بقاء المجتمع الإماراتي شبه خال من المعارضة السياسية أو الاهتمام بالسياسة عموما. ولكن أشار الباحث إلى أن مفهوم الدولة الريعية أصبح اليوم لا يكفي وحده لتفسير التطورات في أدوات الحكم التي تستخدمها النخبة الحاكمة الإماراتية.
هندسة مواطن فارغ سياسيا
لذلك انتقل الباحث ماريو ميخائيل في الورقة لمناقشة الاستراتيجيات الجديدة والأكثر تعقيدا التي تستخدمها النخبة الإماراتية لصناعة مواطن جديد بقيم توافق العولمة والنيوليبرالية ومطامح الإمارات في العالم.
اعتمدت النخبة الإماراتية على العقد الاجتماعي الريعي المترسخ تاريخيا لكسب الشرعية بين المواطنين وإبقائهم غير مسيسين من خلال توزيع الثروة الناتجة عن الريع.
ولكن النخبة الإماراتية أيقنت بأن هذا النموذج سيصبح غير مستدام في المستقبل. لذلك بدأت في هندسة وصناعة مواطن إماراتي جديد يتوافق وقيم العولمة والنيوليبرالية واقتصاد ما بعد النفط.
وتستخدم الإمارات عدة وسائل مثل المناهج الدراسية لتشكيل المواطن (التلميذ) الذي لم يتأثر بالأخلاقيات الريعية بعد. بالإضافة إلى الاحتفالات والمشروعات الضخمة لصناعة هذا المواطن الإماراتي الجديد.
لذلك المشاريع الضخمة هدفها ليس فقط لجذب الاستثمارات والسياح من الخارج. بل تهدف أيضا لصناعة هوية إماراتية جديدة في الداخل عن طريق إدخال قيم جديدة وأساطير قومية حديثة ترسخ الولاء للحكومة في الشخصية الإماراتية (بشكل خاص مع ضعف الإمارات في مسألة الذاكرة والميثولوجيا التاريخية المشتركة (عدم القدرة على الاستعانة بأساطير وحكايات شعبية موروثة) التي تسهم في بناء الهوية القومية. ولتعويض هذا الضعف تسعى النخبة الإماراتية لاصطناع مشاريع وميثولوجيا حديثة).
النموذج المثالي للمواطن الإماراتي الجديد له صفات أهمها: أن يكون ولاؤه للحكومة الإماراتية ويطيعها. ثانيا أن يكون بعيدا عن الاهتمام بالقضايا السياسية والحقوق والحريات السياسية. ثالثا تتضمن شخصية المواطن الجديد القيم الاجتماعية والاقتصادية المرتبطة بالعولمة والنيوليبرالية مثل ريادة الأعمال والتعايش وما يسمى التنمية البشرية وغيرها.
صورة زائفة
أشار الباحث إلى ارتباط تلك الاستراتيجيات بصورة الإمارات على الساحة الدولية. حيث إن تلك الاستراتيجيات الموجهة للعمال والمواطنين لا تبقي النظام الحاكم في الحكم فقط. بل تساعد أيضا في صناعة صورة دولية تخفي التناقضات الداخلية في الإمارات. ويزيح من المشهد الانتهاكات المشهودة ضد العمال المهاجرين وغياب الحريات السياسية.
بهذه الآليات المتشابكة السابق ذكرها نجحت النخبة الحاكمة الإماراتية (بشكل كبير) في الحفاظ على هيمنتها على المجتمع بأسره.
لذلك قد يبدو من السطح بأن دولة الإمارات هي دولة للسعادة والتعايش وخالية من الصراعات. وهذه بالفعل هي الصورة التي تحاول النخبة الحاكمة في الإمارات إيصالها على الساحة الدولية. ولكن هذه الصورة في حقيقة الأمر نتيجة لمجموعة استراتيجيات معقدة تهدف للقضاء على وجود السياسة في الإمارات ونزعها من المجتمع بين المواطنين والعمال المهاجرين معا.