في كتابه “الاغتيال الاقتصادي للأمم”، يقول جون بيركنز، عالم الاقتصاد الأمريكي، إن صندوق النقد الدولي من أهم الوسائل التي تساعد قراصنة الاقتصاد، الذين يخدمون المصالح الأمريكية في إتمام مهامهم، عبر تكبيل الدول بسلاسل من ديون وقروض لا تنتهى فوائدها.
دأب بيركنز على وصف صندوق النقد الدولي بـ”السم الناقع” في لقاءات التليفزيونية، وكتاب يمثل مذكرات خطيرة يحكي فيها عن الدور الذي لعبه باعتباره أحد “القراصنة الجدد” الذين خدموا المصالح التجارية الأمريكية ونفذوا أجندة “حصان طروادة”؛ بتقديم المساعدة للدول لا من أجل إنقاذها، ولكن لزيادة معاناتها وإغراقها في التبعية.
الصندوق يقدم نفسه على مدار تاريخه كمؤسسة تعمل على تحقيق النمو والرخاء على أساس مستدام لكل بلدانه الأعضاء البالغ عددها 190 عضوا، ودعم السياسات الاقتصادية التي تعزز الاستقرار المالي والتعاون في المجال النقدي التي تمثل ضرورة للإنتاجية وخلق الوظائف والرفاهية الاقتصادية.
يؤكد الصندوق أن له ثلاث مهمات حيوية: تعزيز التعاون النقدي الدولي، وتشجيع التوسع التجاري والنمو الاقتصادي، وتثبيط السياسات التي من شأنها الإضرار بالرخاء عبر العمل على أساس تعاوني فيما بينها ومع الهيئات الدولية الأخرى لتحسين حياة المواطنين. لكنه في الحقيقة كيان يضم مجموعة من ألف شخص يعملون في شارع 19 بواشنطن؛ لإملاء قواعد وخلق ظروف اقتصادية تخدم أغراضًا محددة في 75 دولة نامية، يبلغ عدد سكانها 1.4 مليار نسمة.
شروط القروض.. إجحاف مغلف في عبوة إصلاحية
عند منح الائتمان للبلدان، يجعل صندوق النقد الدولي القرض مشروطا بتنفيذ سياسات اقتصادية راسخة. على ألا تخرج عن تخفيض الاقتراض الحكومي، وفرض ضرائب أعلى وإنفاق أقل. ذلك إلى جانب معدلات فائدة أعلى لتثبيت سعر صرف العملة عند مستوى معين. وكذا تصفية الشركات المتعثرة أو إشهار إفلاسها، إلى جانب الخصخصة.
يمارس الصندوق سياسات التكيف الهيكلي والتدخل الاقتصادي الكلي، بما يجعل الأوضاع الاقتصادية الصعبة أسوأ. ففي الأزمة المالية الآسيوية عام 1997 طلب الصندوق من إندونيسيا وماليزيا وتايلاند اتباع سياسة نقدية صارمة بأسعار فائدة أعلى لتقليل عجز الميزانية وتعزيز أسعار الصرف. وتسببت هذه السياسات في تباطؤ طفيف تحول إلى ركود خطير مع مستويات عالية جدًا من البطالة.
الخبير الاقتصادي الحائز جائزة نوبل للاقتصاد جوزيف ستيجليتز، يقول إن النهج النقدي لصندوق النقد الدولي فشل في السنوات الأخيرة في اتخاذ أفضل سياسة لتحسين رفاهية البلدان النامية. فالصندوق “لم يكن يشارك في مؤامرة لكنه كان يعكس مصالح وأيديولوجية المجتمع المالي الغربي”.
يقصد ستيجليتز تجربة كوريا الجنوبية، حينما أصر صندوق النقد على أن يؤيد جميع المرشحين للرئاسة اتفاقية لم يكن لهم دور في صياغتها أو التفاوض بشأنها ولم يمنحهم حتى وقتا لفهمها.
في ديسمبر/كانون الأول عام 1997 توصل صندوق النقد إلى اتفاق مع كوريا الجنوبية، تحصل بموجبه على قرض بقيمة 58 مليار دولار. ذلك شريطة التزامها تنفيذ عدد من الإجراءات المالية الصارمة، التي شملت رفع أسعار الفائدة والتقشف المالي وإصلاحات هيكلية وتعويم عملتها “الوون” بشكل كامل، بعدما تعرضت البلاد لأزمة انهارت خلالها العملة، وتم استخدام الاحتياطي النقدي في محاولة دعمها حتى هبط إلى 5 مليارات دولار.
الأرجنتين.. 64 عامًا من متوالية الصندوق
قبل ساعات، وافق “صندوق النقد الدولي” على اتفاق جديد مع الأرجنتين بقيمة 44 مليار دولار. يسمح هذا الاتفاق بإعادة جدولة ديون للصندوق، في تسهيل تمويل يمتد لـ30 شهرًا، ما يسمح بالصرف الفوري لمبلغ 9.7 مليار دولار.
وقد رفعت الأرجنتين أخيرًا الفائدة إلى 42.5% استجابة لطلبات الصندوق الذي يقول إنه يستهدف دعم ميزان مدفوعات وميزانية الأرجنتين، ومكافحة التضخم، وزيادة الاحتياطيات الأجنبية، وتطوير البنية التحتية، وتعزيز النمو الاقتصادي.
طبقت الأرجنتين 22 برنامجًا مع صندوق النقد، بتعاون بينهما يمتد إلى 1958، ولم تحقق لها تلك البرامج استقرارًا ماليًا، بل قلصت الاستثمار في الخدمات العامة التي أضرت بالاقتصاد بدلًا من إصلاحه.
“البرازيل خارج الصندوق”
مع بداية الثمانينيات، لم تجد البرازيل طريقًا لحل أزماتها سوى بتنفيذ شروط صندوق النقد، فسرحت أعدادا ضخمة من العمال. كما خفضت أجور البقية، وخفضت الدعم حتى وصل الأمر إلى طلاب المدارس.
احتاجت البرازيل 12 عامًا لسداد القروض، وقدم البنك تجربته فيها على أنها قصة نجاح. ذلك رغم أنها تسببت في اختلالات مجتمعية جعلت 20% فقط من السكان يمتلكون نحو 80% من الأصول، بينهم 1% فقط يحصلون على نصف الدخل القومي، ما دفع الملايين تحت خط الفقر.
ومع تفاقم مشكلات البرازيل المجتمعية، عادت مجددًا إلى الاقتراض من الصندوق. كان ذلك بواقع 5 مليارات دولار، فساءت الأمور أكثر، وانهارت العملة، حتى وصلت إلى 11 ألفًا للدولار الواحد، بينما أنقذت سياسة الرئيس لولا دي سيلفا التقشفية بضبط الإنفاق العام الاقتصاد المحلي، واستطاعت خفض الدين العام إلى ما يقرب من 40% خلال عامين فقط.
اليونان.. أن تضع شرطًا يهدر عمل سنوات
حاولت اليونان بعد انضمامها لمنطقة اليورو أن تدفع اقتصادها للنمو، وتعاونت مع صندوق النقد؛ ليتكرر السيناريو بارتفاع نسبة الدين للناتج المحلي الإجمالي. ثم جاءت الأزمة الاقتصادية عام 2008، ليعيد صندوق النقد والبنك المركزي الأوروبي، إقراض اليونان 110 مليارات يورو لإنقاذها من الإفلاس.
اشترط الصندوق -وقتها- على أثينا التقشف بتحقيق فائض الإيرادات عن النفقات، مخصومة منها الفوائد المستحقة على الديون. وهو أمر أدى إلى فشلها في سداد ديونها. لتصل نسبة ديون اليونان إلى الناتج المحلي لـ 175% وارتفعت معدلات بطالة لأكثر من 25%.
بدلًا من السماح لليونان بالتخلف عن سداد ديونها المستعصية على الدائنين من القطاع الخاص، اختاروا إقراضها المال لتسديدها بالكامل. وأقر صندوق النقد بالخطأ في تقرير عام 2013 عن اليونان، قال فيه إن الأزمة عندما تبدأ بالانتشار، يجب أن يسعى إلى حل عالمي جماعي بدلًا من إجبار الاقتصاد المتعثر على تحمل العبء بالكامل. كما حذر كبير الاقتصاديين في صندوق النقد أوليفييه بلانشارد من أن المزيد من التقشف سوف يسحق النمو.
غانا وزامبيا.. خدمة أوروبا على حساب الفقراء
أرادت غانا تجربة حظها هي الأخرى مع الصندوق لأول مرة عام 1966 بعد الإطاحة برئيس الوزراء الدكتور كوامي نكروما من قبل مجلس التحرير الوطني. وعادت إليه مجددا في يناير/كانون الثاني 1979 ثم عادت إليه للمرة الثالثة والرابعة في عامي 1995 و1999. بينما كانت المرة الخامسة في عام 2003 حينما عادت مجددًا كدولة فقيرة مثقلة بالديون.
الصندوق يقول إن تجربته ساهمت في خفض التضخم من 142% عام 1983 إلى 10% بحلول نهاية عام 1991. لكن لا يتم كثيرا ذكر اشتراطه رفع التعريفة الجمركية عن السلع الغذائية المستوردة وإغراق من المنتجات الأوروبية المدعومة من حكوماتها بأسعار أقل 35% عن السعر المحلي.
تكرر الأمر مع زامبيا التي تعاونت أيضًا في السبعينيات مع الصندوق وطبقت الأمر ذاته. ذلك بإلغاء التعريفة على وارداتها من الملابس التي كانت تحمي بها حوالي 140 شركة محلية للملابس، وخلال فترة قصيرة قليل أغلقت 132 شركة محلية عجزت عن المنافسة، وفي عام 2020 ، أصبحت زامبيا أول دولة أفريقية في عصر الوباء تتخلف عن السداد.
بيرو.. الكوكايين بدلًا من القمح
في 2015 هتف الآلاف في تظاهرة ببيرو ضد صندوق النقد مرددين: “البنك الدولي.. رعب كوني.. وكفانا وصفات من صندوق النقد الدولي”، معبرين عن تداعيات تعاون بين الطرفين يعود التسعينيات.
عانت بيرو في بداية التسعينيات، وطلبت دعم الصندوق فطلب تخفيض التعريفة الخاصة بالجمارك المفروضة على القمح المستورد من الولايات المتحدة التي تقدم لمزارعيها سنويًا دعمًا يُقدر بـ40 مليار دولار، ما أثر سلبيا علي المزارعين في بيرو ودفعهم إلى إنتاج الكوكايين بدلا من القمح.
التجربة التركية
قبل عقدين، شهدت تركيا أزمة اقتصادية خانقة بانخفاض معدل النمو وزيادة معدلات التضخم وارتفاع عجز الموازنة، وتراجع أداء القطاعات الاقتصادية والاستثمارات، وانخفاض الاحتياطي الأجنبي، وارتفاع معدلات البطالة.
تعاونت تركيا مع الصندوق وطلب روشتة بخصخصة القطاع العام، وتحرير سعر صرف “الليرة”، ووصلت مديونياتها إلى 23.5 مليار دولار، لكن تركيا حصلت على شروط أفضل في التفاوض لعلاقاتها بأوروبا، ورفضت التدخل في سياساتها وقررت إيقاف التعامل معه الصندوق، وتسديد كامل ديونها لهم.
ماليزيا النجاح يبدأ بالابتعاد عن الصندوق
رفضت ماليزيا بعهد مهاتير محمد رئيس الوزراء السابق، التعاون مع صندوق النقد الدولي، بعد أن انكمش الاقتصاد الماليزي بنسبة 7.5% عام 1998، واستطاعت خلال عام واحد فقط أن تحول الانكماش إلى نمو بنسبة 5.4%، بعدما هيأ المناخ للاستثمار وأصلح النظام الضريبي وحول الاقتصاد نحو الصناعة والتصدير للخارج.