في 24 يوليو/تموز الماضي، تحدث وزير النقل، كامل الوزير، عن زيادة مرتقبة في أسعار تذاكر مترو الأنفاق والقطارات، مبررًا ذلك بالمأزق الذي تتعرض له وزارته: “إما أن نستدين أو نحرك أسعار التذاكر بصورة قليلة.. نحن مدينون للبنوك بـ88 مليار جنيه و5 مليارات لوزارة البترول”. ولفت إلى أن وزارته تحقق إيرادات 4.2 مليار بينما المصروفات 10 مليار جنيه سنويًا قبل تحرير سعر الصرف وزيادة أسعار السولار بنسبة 7% بجانب ارتفاع أسعار قطع الغيار.

لاحقًا ومع مطلع شهر أغسطس/آب الجاري، أعلن الوزير زيادة قيمة تذاكر القطارات مع نهاية الشهر بنسب لا تتجاوز 25%. ذلك بعد عرض الأمر على رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية وكل الجهات المسؤولة، “الذين أجمعوا على ضرورة زيادة التذكرة”.

أما مترو الأنفاق فسيزيد السعر جنيهًا واحدًا على تذاكر أول ثلاث مراحل في المترو. بينما سيصل سعر المرحلة الرابعة إلى 14 جنيهًا والمرحلة الخامسة إلى 19 جنيهًا، وفقًا لصحيفة “المصري اليوم“. وهكذا تصبح هذه الزيادة في المترو هي الرابعة خلال آخر 5 سنوات، مقابل ثلاث زيادات فقط خلال الفترة من 1987 وحتى عام 2017.

تقول الباحثة الاقتصادية، سلمى حسين، إن الاتجاه الأكيد للحكومة هو زيادة أسعار التذاكر وتخفيض الدعم الموجه للمواصلات (لهيئة السكك الحديدية وهيئة النقل العام). وفي المقابل تستدين الحكومة من الخارج لتنفيذ مشروعات نقل عام بمليارات الدولارات “من غير ما تستشير الشعب”، وفق تعبيرها.

وتوضح لـ”مصر 360“: “ده بيخلي الهيئات دي مديونة وخسرانة، والشعب يدفع تمن الديون من جيبه في شكل تذاكر ورسوم وضرايب. فمثلا إذا استبعدنا ميزانية الاستثمار من ميزانية هيئة مترو الأنفاق تلاقي الإيرادات بتغطي النفقات ومافيش عجز”.

هذا في الوقت الذي وقعت فيه هيئة المترو عقدًا مع الشركة الفرنسية التي تشغل الخط الثالث، ولمدة تصل إلي 15 عامًا بقيمة 1.1 مليار يورو. وهو ما يحمّل الهيئة زيادة في قيمة المستحقات السنوية بدأت مع تعويم سعر صرف الجنيه مارس/آذار الماضي.

خصخصة الخطوة خطوة

يأتي ارتفاع الأسعار ضمن حزمة قرارات اتخذتها الحكومة المصرية للتعامل مع الأزمة الاقتصادية، وارتفاع التضخم من تبعات الحرب الروسية – الأوكرانية، وما جلبته من أعباء مادية أكبر على المواطنين. ولكن في السياق الأوسع فإنه يبدو استجابةً لبعض شروط صندوقي النقد والبنك الدوليين اللذين طالبا مرارا ومنذ عقود بخصخصة قطاع السكك الحديدية؛ نظرا لحجم الديون الضخمة وحاجته لتحقيق أرباح.

عبّر عن هذا التوجه “الجزئي” للخصخصة بيان صادر من وزارة النقل منتصف الشهر الماضي -أي قبل تصريحات الوزير بنحو أسبوع- تطرق إلي تحويل بعض قطاعات السكة الحديد إلى نظام الشركات مثل نقل البضائع/ عربات النوم / النقل المتميز /الورش؛ “لتعظيم الإنتاجية وتحقيق أرباح.. وتحقيق عائد مادي أفضل”. هذا بجانب طرح جزء من أسهم بعض شركات الإدارة والتشغيل في البورصة المصرية لمشاركة القطاع الخاص في تطويرها ورفع قدراتها الإنتاجية، بحسب البيان.

قبلها وفي “وثيقة سياسة ملكية الدولة“، اعتبرت الحكومة قطاع السكك الحديدية أحد القطاعات التي قد “تثبت أو تخفض” فيه استثماراتها مع السماح بمشاركة أكبر للقطاع الخاص في إدارة وتشغيل وصيانة قطارات البضائع والقطارات المتميزة الجديدة وورش الصيانة المختلفة بالسكك الحديدية.

وبالعودة إلى عام 2018، فقد وافق البرلمان على تعديل قانون إنشاء الهيئة القومية لسكك حديد مصر ليسمح للقطاع الخاص بالاستثمار في إدارة وتشغيل المرفق. وأضيف إلى أحد بنوده “كما يجوز للهيئة منح التزامات المرافق العامة للمستثمرين أشخاصا طبيعيين أو اعتباريين، لإنشاء أو تشغيل أو صيانة مرافق السكك الحديدية”. وهو ما اعتبره حينها عضو لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية، عفيفي كامل أنه “لم يتضمن أي ضوابط تمنع المستثمرين من الاستئثار بقرار التسعير”.

هذا التعديل القانوني كان بعد أقل من 72 ساعة من حديث الرئيس عبد الفتاح السيسي آنذاك عن حاجة المرفق من 200 إلى 250 مليار جنيه، وتأكيده “أنا مش هدفع حاجة من جيبي”. وهو خطاب مشابه لما عاد وكرره الرئيس في ديسمبر/كانون الأول 2021 “احنا بناخد قروض علشان السكة الحديد طيب هنسددها منين، ولما نقول هنزود سعر التذكرة المواطن يقولك أنا ممعايش، طيب أنا كمان ممعايش”.

وبطبيعة الحال اتبع وزير النقل كامل الوزير النهج وشدد على أن “ليس هناك مخرج من هذا النفق المظلم إلا بمشاركة القطاع الخاص”. ومع نهاية العام الماضي قال إنه الحل الذي “سيعمل على وقف الخسائر”، في معرض تعليقه على توقيع بروتوكول بين هيئة السكة الحديد وعدد من الشركات المصرية الراغبة في الاستثمار في القطاع.

تذكر دراسة للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية بعنوان “ليس عجزا: المترو لا يخسر، والدولة تموّل الاستثمار من جيوب الطبقات الأفقر” أنه بهذه التعديلات احتفظت الهيئة العامة للأنفاق بصفتها كهيئة عامة خدمية اسما، وفقدتها تماما عمليا، حيث لم تُنكرها تعديلات القانون أو تحولها بشكل صريح إلى أي إطار مؤسسي آخر. “أصبح هناك الآن مستثمر، وأصبح المواطنون مُتلقو الخدمة زبائن”.

وتضيف “من غير الممكن أن تبيع الهيئة تذكرة المترو بجنيهين باعتبارها جهة حكومية منوط بها أن تقدم خدمة من الخدمات الأساسية إلى المواطنين بدون التربُّح منها، وإنما بغرض تغطية تكاليف التشغيل والصيانة واستحداث أساليب تمويل أخرى.. من أجل زيادة الإيرادات، وأن يظهر في نفس السوق، المستثمر الذي يقدم الخدمة بغرض الربح ويستمر في تقديمها بغرض تعظيم أرباحه”.

قروض وفوائد.. ثم قروض وفوائد

في الوقت الذي تواصلت فيه تصريحات أبرز مسؤولي الدولة منذ عام 2018 وحتى الآن عن أعباء وخسائر قطاع النقل والمواصلات وضرورة تحمل المواطن تكلفة الخدمة، فإنه لم يجرٍ إعادة ترتيب للأولويات الاقتصادية المتعلقة بالقطاع بل جرى التوسع في سياسة الاقتراض وما يتبعها من فوائد ديون واجبة السداد لقطاع مُنهك بالأساس من مديونياته الضخمة خلال العقدين الأخيرين على الأقل، ومن ثم تحميل المواطنين أعباء تلك المديونيات.

فخلال السنوات الماضية توسعت وزارة النقل في مشروعات مثل “القطار الكهربائي” و”المونوريل” اللذين تبلغ تكلفة إنشائهما مجتمعين 26 مليار دولار. وهو ما أدى إلى اعتراضات من بعض نواب البرلمان خلال إقرار الموازنة شهر يونيو/حزيران الماضي.

إذ قال النائب أحمد الشرقاوي لموقع “مدى مصر“: “كيف يمكن أن نتصور موازنة تخصص بها الحكومة 50 مليار جنيه لإنشاء المونوريل، فيما خصصت لإصلاح التعليم 19 مليار جنيه”. إلا أن الأغلبية البرلمانية بقيادة حزب مستقبل وطن وجهت الدفة إلى الموافقة النهائية على الموازنة العامة.

وكانت دراسة سابقة لمركز “كارنيجي الشرق الأوسط” قد أشارت إلى أن الغرض من القطار الكهربائي والمونوريل هو خدمة العاصمة الإدارية الجديدة والربط بتسع مدن ذكية، وهي “مخصصة للزبائن المقدورين.. وستستفيد منه بشكل أساسي المجتمعات الميسورة”.

يشير الباحث الاقتصادي، إلهامي الميرغني، في دراسة سابقة بعنوان “وجع في قلب السكة الحديد” إلى أن كل خطط التطوير السابقة والحالية تعتمد على الاستدانة ورفع تكلفة الخدمة ودخول القطاع الخاص كشريك. ويوضح “تعتمد خطة التطوير على القروض المحلية والخارجية من ناحية، وعلى الاستعانة بالقطاع الخاص والتوجه إليه من خلال اتفاقيات الشراكة وحقوق الامتياز تنفيذًا لتوصيات البنك الدولي”.

ومنذ عام 2014 حصلت مصر على قرابة مليار دولار منح وقروض من صندوق التنمية الكويتي وصندوق التعاون الكوري وبنك كندا لتنمية الصادرات والبنك الدولي. وتزايد الاعتماد على القروض تدريجيًا منذ ذلك الحين حتى أصبحت 70% من مشروعات السكك الحديد تعتمد على القروض، وفقًا لوزير النقل السابق هشام عرفات في كلمته أمام البرلمان في مارس/ آذار 2018.

ارتفاع الخسائر

وبحسب تحقيق مدفوع بالبيانات لمؤسسة “أريج” فإنه خلال الـ10 سنوات الماضية، ارتفعت خسائر هيئة السكك الحديدية من 175.4 مليون جنيه عام 2010/9 لتصل إلى 12.7 مليار جنيه عام 19/ 2020، بينما تجاوزت الخسائر المرّحلة من الأعوام الماضية 78 مليار جنيه في ذات العام.

وقُدّرت قيمة الفوائد السنوية خلال السنة المالية 2020/19، على قرض بقيمة 10 مليارات بمبلغ 4.1 مليار جنيه خلال عام واحد. ويعتبر هذا القرض واحدًا من ضمن أكثر من 20 قرضًا حصلت عليها هيئة السكك الحديد من بنك الاستثمار، خلال العقدين الماضيين؛ لتقفز قيمة القرض بعد إضافة إجمالي الفوائد إلى 33.4 مليار جنيه. وذلك كما ذكر رئيس الهيئة أشرف رسلان، خلال اجتماع لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب في يناير/كانون الثاني 2020.

“عدم قدرة الهيئة على التخطيط السليم، والتنظيم والاستعداد الكافي للاستفادة القصوى من القرض”. هكذا تعامل المسؤولين بالسكك الحديد مع قرض البنك الدولي، وفقا لنص تقرير الجهاز المركزي للمحاسبات، الصادر عام 2013.

بينما ذكر هشام عرفات وزير النقل السابق “أهدرنا أموالًا ضخمة في آخر 10 سنوات؛ لتطوير المحطات ودورات المياه”. وأكد سلفه، سعد الجيوشي، في عام 2016 أن ديون وزارة النقل “بسبب الإدارة الفاشلة”.

ومع زيادات الأسعار -نتيجة سوء إدارة الموارد والقروض في المقام الأول- انخفض عدد ركاب القطارات بنسبة 44% خلال 11 عاما، رغم الزيادة السكانية التي تشهدها مصر سنويا.

رغم ذلك حصلت الهيئة التي تحاول إغلاق ملف ديونها القديمة على قرابة 816.6 مليون دولار أمريكي منذ عام 2017 وحتى 2022، بحسب تحقيق “أريج”. وذلك رغم تصريحات كامل الوزير في 2020 بأنه “خلال 3 أعوام سننتهي من تسديد ديون الوزارة لصالح خزينة الدولة”.

هذا في الوقت الذي تُظهر فيه الإحصاءات الرسمية تبخر وعود التطوير وتوقف حوادث القطارات. إذ بلغ عدد حوادث القطارات 978 حادثة عام 2021 مقابل 898  حادثا عام 2020 بنسبة ارتفاع 8.9%. وارتفع عدد المتوفين من 296 متوفيًا عام 2020 إلى 405 في عام 2021 بنسبة زيادة 36.8%، وفقا لآخر إحصاء من “الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء“.