في 12 إبريل/نيسان الماضي علقت الحكومة السريلانكية بشكل مؤقت مدفوعات الديون الأجنبية. وكان ذلك بسبب انخفاض الاحتياطي الأجنبي للضروريات.

هذه الأزمة الاقتصادية في البلاد أدت إلى نقص حاد في الوقود والأدوية والأغذية عبر البلاد، ما أسفر عن طوابير طويلة. وقد أعقب ذلك تظاهرات شعبية أدت في النهاية إلى استقالة رئيس الوزراء السابق ماهيندا راجاباكسا في 9 مايو/أيار الماضي ثم شقيقه الرئيس السابق جوتابايا راجاباكسا في 13 يوليو/تموز الماضي.

ليست سريلانكا الدولة النامية الوحيدة في سياق التعرض لخطر الانزلاق إلى أزمة ديون. ووضعها هذا يضع العالم النامي أمام سؤال جاد طرحته مجلة “فورين أفيرز” الأمريكية اليوم الخميس، في تقرير تناول وضعها كمثال للدول المأزومة بالديون.

يقول الخبير الاقتصادي البريطاني هومي خاراس والدكتور شانتايانان ديفاراجان هو كبير الاقتصاديين السابق لمنطقة أفريقيا بالبنك الدولي -في تقريرهما بالمجلة الأمريكية- إن حالات التخلف عن السداد السابقة جاءت في موجات. إذ اجتاحت أمريكا اللاتينية في الثمانينيات وشرق آسيا في التسعينيات. بينما يمكن لسلسلة مماثلة من حالات التخلف عن السداد أن تضرب البلدان النامية المثقلة بالديون في جميع أنحاء العالم. ذلك لأنها تتعامل مع الآثار المستمرة لـ COVID-19، والحرب الروسية في أوكرانيا، وارتفاع أسعار الفائدة في العالم المتقدم.

سريلانكا.. أسوأ معارك الفقر

تخوض سريلانكا الآن أسوأ معركة ضد الفقر تواجهها منذ 74 عاما. حيث تسبب النقص الحاد في النقد الأجنبي في تضاؤل ​​إمدادات الغذاء والوقود والسلع الأساسية الأخرى. ما جعل ما يقرب من 90% من السريلانكيين عاجزين عن توفير الغذاء لأسرهم، حسبما ذكر برنامج الغذاء العالمي.

بالإضافة إلى ذلك تتفاقم أزمة الوقود، حيث ينتظر المواطنون دورهم للحصول على الوقود لعدة أيام للفرد الواحد في المرة الواحدة. وهذا تسبب في إغلاق المدارس، وزيادة فترات انقطاع الكهرباء لما يربو عن ثماني ساعات يوميا. ولهذا توفي الكثير من المرضى في المستشفيات، بالإضافة إلى صعوبة الحصول على الأدوية اللازمة.

أما السلع المتاحة في الأسواق، فقد ارتفعت أسعارها بشكل جنوني. حيث وصلت الزيادة إلى حوالي 80% من الثمن الأساسي. وتجاوز معدل التضخم 50%. 

بدأ كل هذا في إبريل/نيسان الماضي، بعدما أعلنت الحكومة تخلفها عن سداد الديون الخارجية. وتقدر قيمتها بـ 51 مليار دولار (976 مليارًا و650 مليون جنيه مصري). ما ترتب عليه فقدان الروبية السريلانكية لـ 75% من قيمتها السوقية. وهو ما أشعل  المظاهرات والاحتجاجات الشهر الماضي، مع تفاقم الغضب الشعبي بشأن الوضع الاقتصادي.

المتظاهرون يسيطرون على المقر الرسمي لرئيس سريلانكا جوتابايا راجاباكسا
المتظاهرون يسيطرون على المقر الرسمي لرئيس سريلانكا جوتابايا راجاباكسا

وقد أطاح الحراك في نهاية المطاف بحكومة الرئيس جوتابايا راجاباكسا. خاصة وأن المظاهرات وصلت إلى القصر الرئاسي ووصلت الشعارات حتى أسماع من بداخله، وكانت الهتافات تندد بالفساد والمحسوبية وفي التاسع من الشهر الماضي فر الرئيس إلى سنغافورة، كون الشعب حمله مسؤولية المشاكل الاقتصادية.

يقول الخبير هومي خاراس وشانتايانان ديفاراجان إن السريلانكيين ألقوا اللوم على حكومة راجاباكسا في أزمتهم الاقتصادية.

الطريق إلى الخراب

حتى وقت قريب، كانت سريلانكا بلدًا متوسط ​​الدخل ناجحًا إلى حد ما مع مهارة في إدارة ملفي الصحة والتعليم. لكن بعد فترة وجيزة من إعادة انتخابه في عام 2019، تبنى راجاباكسا مجموعة من السياسات الاقتصادية المضللة والمتهورة التي يمكن القول إنها تهدف إلى تحفيز الاقتصاد.

كان من أخطر هذه السياسات خفض الضرائب. إذ خفضت الحكومة ضريبة القيمة المضافة بسبع نقاط مئوية. كما ضاعفت أكثر من ضعف العتبات التي بدأت عندها ضرائب الدخل على الأفراد والشركات. ونتيجة لذلك، انخفضت نسبة الضرائب إلى إجمالي الناتج المحلي في سريلانكا إلى 8.3 في المائة.

وفي عام 2020، خفضت وكالات التصنيف الائتماني الدولية ديون الدولة الأسيوية إلى مستوى قريب من التخلف عن السداد. ما ترتب عليه فشل البلاد في الاقتراض وأصبحت حتى المحاولة مستحيلة.

اقرأ أيضًا: كيف أصبحت سريلانكا دولة مُفلسة؟

تسعى معظم البلاد في مثل تلك الأوضاع إلى حصولها على خطة من صندوق النقد الدولي. ذلك بالإضافة إلى مساعي التفاوض مع الدائنين لإعادة هيكلة الديون المتراكمة. ولكن هذا ما لم تقم به سريلانكا. حيث أصابها القلق من أن تصاحب خطة الصندوق كما المعتاد تشويه لسمعة الدولة، والظروف التقشفية التي تفرض من قبل الصندوق، وهذان السببان جعلا الدولة تعزف عن هذا الحل. وبدلًا منه مولت العجز المالي عن طريق طباعة المزيد من النقود. كما تفاوضت على قرض جديد بقيمة مليار دولار من بنك التنمية الصينية عام 2020. وفضلًا عن ذلك، سددت لحاملي السندات السيادية من احتياطياتها من العملات الأجنبية.

وبحلول أوائل العام الجاري، استنفدت احتياطيات البلاد. وكان التضخم متفشيًا. 

وبالطبع، كحال أي دولة غير مستقرة هربت حركة السياحة من سريلانكا، وتراجعت عائداتها. ولكون العالم كله يعانى من تبعات جائحة كورونا، تراجعت التحويلات من السريلانكيين العاملين في دول العالم. وخاصة هؤلاء في الشرق الأوسط. ورغم هذا حافظت البلد على سعر صرف ثابت ولم تحرر العملة، حتى تفاقم الأمر في إبريل/نيسان الماضي. ما جعل من يحولون أموالهم يفعلون هذا عبر طرق غير شرعية لتوفير سعر صرف عقلاني.

هل ستكون سريلانكا وحدها؟

يقول الخبيران الاقتصاديان –في تقريرهما– إنه كثيرًا ما تضرب الأزمات المالية والتخلف عن سداد الديون البلدان النامية في موجات. ففي العام 1982 أعلنت المكسيك أنها لم تعد قادرة على سداد ديونها الخارجية. وحذت العديد من الدول الأخرى حذوها، فأقدمت 27 دولة نامية، 16 منها في أمريكا اللاتينية، على إعادة هيكلة ديونها في نهاية المطاف. وقد خفضت تايلاند قيمة عملتها في عام 1997، وتسابق المستثمرون الأجانب لسحب أموالهم من العديد من دول شرق آسيا. ما تسبب في أزمات مالية في الفلبين وإندونيسيا وماليزيا وكوريا الجنوبية. كانت الآثار المتتالية للأزمة المالية الآسيوية عام 1997 محسوسة في مناطق بعيدة مثل روسيا والبرازيل.

لذلك، ليس من المفاجئ أن يتساءل المستثمرون والمحللون عما إذا كان التخلف عن السداد في سريلانكا سيكون حدثًا لمرة واحدة أو أول أزمة من بين العديد من الأزمات التي تضرب البلدان النامية هذا العام.

في عام 2020، تخلفت كل من الأرجنتين والإكوادور ولبنان وسورينام “دولة في شمال أمريكا الجنوبية”وزامبيا عن سداد ديونها السيادية. لكن المخاوف من أزمة ديون أوسع نطاقًا في الأيام الأولى لفيروس كوفيد-19 لم تتأكد وتراجعت في النهاية.

حاليًا، تتفاوض تشاد وإثيوبيا وزامبيا مع الدائنين في إطار برنامج تدعمه مجموعة العشرين. وهو يهدف إلى تسهيل إعادة هيكلة الديون. لكن حتى الآن لم تسع أي دولة أخرى إلى معاملة مماثلة.

إن كل من هذه الأزمات على المستوى القطري هي فريدة من نوعها. وبالفعل، فإن إطار عمل مجموعة العشرين يتبنى نهج كل حالة على حدة في محادثات إعادة هيكلة الديون بين البلدان المدينة ودائنيها.

يقول الخبيران الاقتصاديان، إن تفاصيل الحالة السريلانكية تشير إلى أن أزمتها يمكن أن تكون حدثًا منعزلًا. إذ أن قلة من البلدان النامية عانت من سوء الإدارة غير العادي. والسودان هي الوحيدة التي تراكمت لديها مستويات خطرة مماثلة من الديون بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي.


شانتايانان ديفاراجان
شانتايانان ديفاراجان

ولد ديفاراجان في سريلانكا، وحصل على درجة البكالوريوس في الرياضيات من جامعة برينستون ودكتوراه في الاقتصاد من جامعة كاليفورنيا، بيركلي بالولايات المتحدة.

انضم إلى البنك الدولي في عام 1991، كان خبيرًا اقتصاديًا رئيسيًا ومديرًا للبحوث للاقتصاد العام في مجموعة أبحاث التنمية، ورئيس الاقتصاديين بشبكة التنمية البشرية، وجنوب آسيا وإفريقيا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وقبل عام 1991، كان عضوًا في هيئة التدريس بكلية جون إف كينيدي للعلوم الحكومية بجامعة هارفارد. 

هومي خاراس
هومي خاراس

زميل أول في مركز التنمية المستدامة، ويعمل في برنامج الاقتصاد العالمي والتنمية في معهد بروكينجز. وبهذه الصفة، يدرس السياسات والاتجاهات التي تؤثر على البلدان النامية، بما في ذلك تقديم المساعدة للبلدان الفقيرة، وظهور الطبقة الوسطى، والحوكمة العالمية ومجموعة العشرين. شغل سابقًا منصب نائب الرئيس المؤقت ومدير برنامج الاقتصاد العالمي والتنمية.