يقف العراق على مفترق طرق وتصعيد متبادل بين التيار الصدري والإطار التنسيقي، شمل التلويح باستخدام العنف والنزول إلى الشارع والدخول في اعتصام مفتوح واقتحام البرلمان. إذ يحاول كل طرف استخدام أدواته للحفاظ على حصته في السلطة، ما دفع رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، إلى إطلاق مبادرة حوار وطني لحل الخلافات بين الفرقاء. المبادرة لاقت ترحيبا داخليا ودوليا كبادرة لاحتواء المشهد المحتقن في البلاد، وإيجاد صيغة توافقية لحل أزمة الجمود السياسي. إلا أن خطاب مقتدى الصدر الأخير مساء أمس بالإصرار على حل البرلمان واجراء انتخابات برلمانية جديدة يضعف من فرص المبادرة، ولكن دون أن يعني ذلك موتها، فالسياسة العراقية تزدحم بالمناورات والتسويات، ولكن حال تحققه قد يأخذ قدرا من الوقت.
اقرأ أيضًا.. مساعي الكاظمي بين الرياض وطهران.. المصالحة السعودية الإيرانية مصلحة عراقية
كيف تشكلت الأزمة؟
يعاني العراق أوضاعا اقتصادية صعبة في ظل عدم إقرار الموازنة العامة وانقطاع الكهرباء وندرة مياه الشرب إلى جانب أوضاع سياسية معقدة. البلاد تعيش للشهر العاشر منذ إجراء الانتخابات في أكتوبر/ تشرين الأول في ظل حكومة مؤقتة من المفترض أنها ذات طابع انتقالي تمهيدا لانتقال زمام الأمور إلى حكومة مقرة من البرلمان. يمكن تفسير الأزمة عبر سلسلة من الأحداث المتتالية..
عدم القدرة على تشكيل حكومة برلمانية
تشكلت ملامح الأزمة الحالية، منذ أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، حيث استطاع التيار الصدري الذي يتزعمه رجل الدين الشيعي “مقتدى الصدر” الفوز بأكبر كتلة برلمانية بحصة 73 من إجمالي 329 مقعدا. ما شكل نقطة تحول في السياسة العراقية. فيما لم يستطع الشيعة الموالون لإيران سوى الفوز بـنحو 50 مقعدا، ما أعطى الصدر الفرصة الأكبر لتشكيل الحكومة بالتحالف مع أحزاب سنية وكردية. لكن تمكن خصومه من إحباط تلك الطموحات، حيث رفض الإطار التنسيقي (القوى السياسية الأكثر قربا من إيران والمعادية للصدر) فكرة تشكيل حكومة وطنية، وصمم على تشكيل حكومة توافقية ليضمن بقاءه في المراكز القيادية بالسلطة. كذلك عجز الصدر عن تشكيل الحكومة حيث لم يحقق الغالبية اللازمة في البرلمان.
الانسحاب من البرلمان
ورغم أن الصدر يستحوذ على الحصة الأكبر من البرلمان، إلا أن أعضاء الإطار التنسيقي نجحوا في وضع العراقيل أمامه من خلال توظيف “الثلث المعطل”. حيث لم يتجاوز عدد الحضور 154 عضواً عند عقد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية، أي لم يتحقق النصاب القانوني. الصدر أدرك وقتها ضرورة استبدال الشرعية البرلمانية بوسائل أكثر فاعلية، وقررت الكتلة الصدرية الانسحاب والانسحاب من البرلمان والعملية السياسية بالتالي، بمزاعم أن الانسداد السياسي أهون من تقاسم السلطة مع قوى الإطار التي يتهمها بالفساد. ما جعل البعض يتساءل فيما يعنيه ذلك التنازل، هل سلم الصدر زمام الأمور لإيران وحلفائها؟ وذهبت تلك المقاعد الشاغرة لصالح الإطار التنسيقي ما يزيد من فرصه في مسألة تشكيل حكومة من اختياره.
أزمة التسريبات
جزء كبير من اشتعال الأزمة يرجع إلى التسريبات المتوالية المنسوبة لرئيس ائتلاف دولة القانون “نوري المالكي” القيادي الأبرز داخل الإطار التنسيقي. حيث توعد بالرد على الصدر وأنصاره، عبر تسليح مؤيديه للرد على أي هجوم محتمل للصدر، ما أثار مخاوف بشأن عنف واحتكاكات بين أنصار التيار الصدري، وأتباع المالكي. بالإضافة إلى ما كشفت عنه من المشاورات التي يجريها الإطار التنسيقي وحلفاء طهران لمحاولة تشكيل حكومة جديدة. كما يحاول شحذ الهمم لمواجهة ما أسماهم “مخربي الوطن”، مما زاد الاحتقان بين الفرقاء وتطلب ضرورة أخذ خطوات استباقية استعدادا لأي مخططات محتملة.
شرعية الشارع
يعرف الصدر تماما مدى تأثيره على الجماهير عبر الوسائل الشعبوية الأكثر تأثيرا، وفي ظل تعقد الأمور، وعجزه عن تحقيق أغراضه السياسية في ظل النفوذ الإيراني الحاضر، اتجه الصدر إلى الشارع. وجاء هذا التصعيد اعتراضا على ترشيح الإطار التنسيقي لـ”محمد شياع السوداني” لمنصب رئيس الوزراء وتشكيل الحكومة. إذ حث الجماهير على التظاهر في المنطقة الخضراء للحيلولة دون انعقاد المجلس وتمرير السوداني لرئاسة الوزراء.
واقتحمت جماهير الصدر البرلمان للمرة الثانية ودخلت في اعتصام مفتوح. الصدر وصف سيطرة أنصاره على المنطقة الرئاسية بتحرير المنطقة الخضراء، كأحد نجاحات ثورة الإصلاح باعتبارها الفرصة الأخيرة، لتحقيق مطالبهم الخاصة بإجراء تعديلات في الدستور تتضمن تغيير نظام المحاصصة الطائفية والتحول لصيغة لنظام حكم رئاسي وليس برلمانيا. وقد جرى الاجتياح الثاني بوجود قائد ميليشيا سرايا السلام المالية للتيار لاستعراض قوة السلاح بمباركة الصدر.
الباحث في معهد واشنطن حمدي مالك، يؤكد أن الصدر قادر على احتلال الشارع، وليس لأحد القدرة على منافسته في هذا الميدان.
مواجهات ميدانية
وتخشى إيران وحلفاؤها من شعبية الصدر، لذلك دعا الإطار التنسيقي مؤيديه إلى النزول إلى الشوارع، بالقرب من أسوار المنطقة الخضراء الحكومية. في مظاهرة حاشدة ردا على اعتصام أتباع الصدر داخل مبنى البرلمان العراقي لليوم الثالث على التوالي. وكان التنسيقي لوّح باستخدام القوة منذ وقت سابق، حيث ظهر نوري المالكي بالسلاح في الشارع، في إشارة إلى استعداده لمواجهة الصدر ولو بقوة السلاح.
المجتمع الدولي
وسط هذه التوترات، دعا الأمين العام للأمم المتحدة، “أنطونيو جوتيريش” الجهات الفاعلة إلى اتخاذ خطوات فورية لتهدئة الموقف، وتجنب المزيد من العنف، وضمان حماية المتظاهرين السلميين ومؤسسات الدولة. كما عبر الاتحاد الأوروبي عن قلقه، إزاء الاحتجاجات المستمرة والتصعيد المحتمل في بغداد. كذلك دعا جميع الأطراف إلى ضرورة ممارسة ضبط النفس لمنع المزيد من العنف، والتوجه إلى حل القضايا من خلال حوار سياسي بناء في الإطار الدستوري.
وبالنسبة لإيران، صرح الناطق باسم وزارة الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني: “الوضع في العراق ناجم عن خلافات سياسية داخلية”. في محاولة لإبعاد إيران عن أي مسئولية ناجمة عن تدهور الأوضاع.
حرب أهلية!!
قادت الأحداث الجارية إلى التكهن باحتمالية وقوع العراق في حالة اقتتال داخلي بين قطبي العملية السياسية في البلاد. حيث إن تمكن الصدر من الشارع مع مساندة سرايا السلام المسلحة يثير مخاوف من وقوع اشتباكات مسلحة إذا تصاعدت المواجهة، في ظل تمسك كل جانب بالسلطة. وعدم التمكن فيما بينهم من التوصل إلى نقطة مشتركة لتجاوز خلافات تشكيل الحكومة. لكن يستبعد هذا السيناريو بنسبة كبيرة، ويمكن تفسير أحداث الشارع على كونها محاولة استعراضية من كل طرف بغاية التهديد الاستباقي في حالة محاولة أي منهما فرض سياسية الأمر الواقع وعزل الطرف الآخر.
يقول “عمر النداوي”، مدير البرامج في منظمة تمكين السلام في العراق: “كلا من الصدر وإطار التنسيق يتخذان قرارات في الظلام ليروا ما الذي ينجح. الاختلاف هو أن الإطار يبدو أنه يجد صعوبة أكبر في الاتفاق على مسار عمل موحد. وهذا يفسر الاحتجاج المحدود زمنيا يوم الاثنين. من غير المرجح أن نرى فصائل إطار التنسيق تقرر أنها تريد مواجهة الصدريين في نزاع مسلح”.
مبادرة الكاظمي
ومع تدهور الأوضاع وسريان الاضطرابات، توالت مبادرات ودعوات لتفريج الأزمة السياسية. إذ دعا الكاظمي كل الأطراف إلى وجوب وقف العنف والتصعيد والدخول في حوار سياسي وصولا إلى حل يرضي جميع الأطراف. ومن ثم تراجع منسوب التوتر بين مقتدى الصدر وخصومه في الإطار الشيعي، إذ دعا من يطلق عليه وزير القائد الصدر” صالح محمد العراقي”، المعتصمين إلى إخلاء قاعة انعقاد البرلمان، دون أن يشمل ذلك مرافق البرلمان الأخرى، في محاولة نحو توفير الظروف اللازمة لتهدئة التوترات.
وبدوره، أكد الإطار التنسيقي، على لسان النائب “حامد الموسوي”، بدء الحوارات بين الطرفين. كما أضاف أن هناك إمكانية للتخلي عن مرشح التنسيقي “السوداني” لرئاسة الوزراء. كما أعلن “عمار الحكيم” و”حيدر العبادي” القياديان بالإطار تأييد فكرة الحوار، وكذلك رئيس إقليم كردستان “نيجيرفان بارزاني” ورئيس البرلمان “محمد الحلبوسي”.
سيناريوهات محتملة
في حين أبدت العناصر الفاعلة تأييدها لفكرة الحوار، فإن الأحداث تتجه نحو: السيناريو الأول: أن ينجح الكاظمي في احتواء الخلافات بين الفرقاء، والوصول إلى تسوية عادلة تتجاوز حالة الجمود الساسي العميقة الممتدة على مدى نحو 10 أشهر. بالإضافة إلى الدفع باتجاه تشكيل حكومات ائتلافية توافقية.
السيناريو الثاني: أن يستمر كل طرف في التعنت والتمسك بأجندته مما يلوح بخيار حل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة، ما يعني العودة للمربع الأول، وبالتالي إعادة إنتاج الأزمة في ظل نفس المعطيات والأفراد والسياقات. ولكن هذه المرة في ظل إعلان الصدر مساء الأربعاء عن عزمه المضي قدما في اتجاه السعي لحل البرلمان وانتخابات مبكرة. وهو موقف قد يفتح المجال لدورة من العنف قد ترتسم ملامحها الفترة المقبلة، لكن الأمر يتوقف على رد فعل قوى الإطار التنسيقي إزاء ما يرونه على أنه تصلب من القوى الصدرية. ولكن قد يخفف من بروز ” تصلب مماثل” من قوى الإطار أنها ليست منسجمة في مواقفها، وهذا يفتح الباب في أن يتجاوز العراق سيناريو نشوء اقتتال الأهلي، لكن دون أن يعني ذلك أن التأزم في طريقه للانفراج.