ما إن أُعلن عن مقتل أسامة بن لادن بمدينة “أبوت آباد” الباكستانية في عملية اقتحام أشرفت عليها وكالة الاستخبارات الأمريكية ونفذتها قوات “سيلز” في مايو 2011 حتى اتجهت الأنظار إلى مسئول اللجنة العسكرية بتنظيم القاعدة “سيف العدل”. ذلك الشخص الغامض الذي رصدت واشنطن 10 ملايين دولار مكافأة لمن يدلي بمعلومات عن مكانه.

تداولت الدوائر الإعلامية و”الجهادية” اسم “الجهادي” المصري محمد صلاح زيدان المعروف بـ”سيف العدل” باعتباره المسئول المؤقت عن التنظيم خلفا لمؤسسه بن لادن، وذلك حتى يتاح لمجلس شورى “القاعدة” مبايعة خليفة جديد. إلا أن تلك المعلومة التي جاءت على لسان نعمان بن عثمان -عضو الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة السابق- تم التشكيك فيها من قبل عنصر “جهادي” قريب الصلة بقيادات القاعدة.

العنصر “الجهادي” الذي انتسب إلى “القاعدة” لفترة من الفترات وصاحب قادتها خلال رحلة هروبهم من أفغانستان عقب الاحتلال الأمريكي قال قبل 10 سنوات لصاحب تلك السطور إن “سيف العدل ورغم كفاءته الإدارية والتنظيمية فإنه لن يستطيع خلافة بن لادن نظرا لخلافاته المتكررة مع قيادة القاعدة”. فضلا عن أنه كان يخضع حينها -عام 2011- للإقامة الجبرية في إيران مع معظم أعضاء مجلس شورى القاعدة.

انتهى الأمر في يونيو من ذات العام بالإعلان عن تصعيد الجراح و”الجهادي” المصري أيمن الظواهري أميرا للتنظيم الذي تم تصفية معظم قادته خلال العشر سنوات الماضية. وخلال تلك الفترة تنقل الزعيم الجديد بين العديد من القرى الجبلية الواقعة في المنطقة الحدودية بين أفغانستان وباكستان.

وبعد استيلاء حركة طالبان على حكم أفغانستان نهاية العام الماضي استقر الظواهري بالعاصمة الأفغانية كابول في منزل يملكه سراج الدين حقاني وزير داخلية طالبان الحالي. وابن صديقه السابق الشيخ جلال الدين حقاني.

وجود الظواهري مع أسرته في كابول جعل منه هدفا سهلا. ما مكن الاستخبارات الأمريكية من تحديد مكانه ورصد تحركاته حتى نجحت في اغتياله مساء السبت الماضي أثناء وقوفه في شرفة منزل حقاني بصاروخ من نوعية “هيل فايل”. لتتجه الأنظار مجددا إلى “سيف العدل” الرجل الثاني في “القاعدة” ومسئولها العسكري.

قد تسوق الأقدار “سيف العدل” هذه المرة إلى إمارة القاعدة. ليس لأنه الأكفأ بل لأن عقد التنظيم انفرط إثر تصفية معظم أعضاء مجلس شوراه. باستثناء “سيف العدل” الذي لا يزال يقيم في طهران تحت رعاية الاستخبارات الإيرانية والحرس الثوري -بحسب مصدر “جهادي” سابق.

في عام 2010 طلب أسامة بن لادن -زعيم القاعدة الراحل- من مسئول العمليات الخارجية بالتنظيم عطية الله الليبي ترشيح مجموعة أسماء من قادة القاعدة ليختار من بينهم نائبا له في قيادة التنظيم. فاقترح الليبي على أميره 3 من القادة الذين كانوا قيد الإقامة الجبرية في إيران في ذلك الوقت وهم “أبو محمد المصري- وأبو الخير المصري- وسيف العدل”.

“بن لادن” رد على ترشيحات الليبي قائلا إن “سيف العدل لا يرقى لمكانة القائدين الآخرين وإنه لا يصلح لتسلم القيادة العامة أو النيابة سواء في منصب النائب الأول أو الثاني”.

وقال “بن لادن” لليبي في رسالة تم الكشف عنها ضمن رسائل أبوت آباد: “الشيخ أبو الخير والشيخ أبو محمد متقدمان على أخينا سيف العدل. مع أني أحسب أن له جهوده التي تُفيد الجهاد والمجاهدين ولكن في الأعمال العسكرية التي هي دون تسلم القيادة العامة أو النيابة. سواء كان نائبا أولا أو ثانيا ونرجو الله أن يفرج عنهم جميعا”.

ورغم تزكيته لتولي مسئولية اللجنة العسكرية بالقاعدة خلفا لـ”أبوحفص المصري” فإن علاقة بن لادن وسيف العدل شابها التوتر. فالأخير كان ساخطا على أداء قادة القاعدة وعارض من البداية تنفيذ خطة هجمات 11 سبتمبر. وكان يرى أن أي هجمات على أهداف داخل أمريكا ستؤدي إلى ردة فعل عنيفة قد تدمر التنظيم. كما كان له ملاحظات دائمة على أداء القيادة وعمليات التأمين. وكتب أكثر من مقال ودراسة نشرتها مواقع إعلامية “جهادية” ينتقد فيها بن لادن وخالد شيخ محمد ويتهمهما بـ”تدمير التنظيم والرمي بعناصر القاعدة إلى النار دون تحقيق فائدة”. لكنه بصفته مسئولا عسكريا كان ملتزما بتنفيذ قرارات التنظيم حتى لو كان مخالفا لها.

بعد سقوط أفغانستان تحت الاحتلال الأمريكي نهاية عام 2001 تحمل سيف العدل مسئولية قيادة مقاتلي القاعدة في قندهار. إلى أن طلب الملا عمر زعيم طالبان الراحل من “المجاهدين العرب” الانسحاب من المدينة. فتوجه هؤلاء إلى الحدود الإيرانية وعلى رأسهم سيف العدل. الذي كان ينظر إليه في ذلك التوقيت باعتباره المسئول الأول بعد اغتيال أبو حفص المصري واختفاء بن لادن والظواهري وعزلهم عن باقي رجال القاعدة.

“بعد ذلك التوقيت كانت قيادات القاعدة تنتقل بين أفغانستان وباكستان وإيران بشكل شبه طبيعي. وكانت المخابرات الإيرانية على علم بتحركاتهم داخل أراضيها”. يقول عنصر القاعدة السابق لكاتب هذه السطور. لافتا إلى أن طهران كانت تحتفظ بقادة القاعدة تحت أعينها لتلاعب بهم الولايات المتحدة.

وأكد ذات العنصر عقب الإعلان عن اغتيال الظواهري بساعات أن “سيف العدل لا يزال مقيما في إيران حتى هذه اللحظة. وهو ما سيؤثر في خلافته لزعيم القاعدة الراحل أيمن الظواهري. إلا إذا سمحت له طهران بحرية الحركة في إطار مناورتها للولايات المتحدة”.

كان تنظيم القاعدة قد أبرم صفقة لتبادل الأسرى مع طهران عام 2015 برعاية جماعة الحوثي اليمنية. أُفرج بموجبها عن 5 من قيادات القاعدة منهم سيف العدل. واختار 3 من المفرج عنهم السفر إلى سوريا. وهم “أبو الخير المصري وأبو القسام الأردني وساري شهاب”. فيما ظل سيف العدل وأبو محمد المصري (النائب السابق لأمير القاعدة- قُتل في 2021) داخل إيران تحت حماية وزارة الأمن والاستخبارات الإيرانية “إطلاعات”.

في مطلع عام 2012 التقى كاتب هذه السطور بمؤرخ القاعدة والمستشار الإعلامي لأمير طالبان الراحل الملا عمر -الشيخ أبو الوليد المصري (مصطفى حامد) في منزله بالإسكندرية. وذلك بعد عودته من إيران. حيث كان محتجزا هو وأسرته قيد الإقامة الجبرية بأحد المراكز السكنية بالقرب من طهران.

في تلك الجلسة التي استمرت 3 ساعات -وكان هدفها إجراء حوار مطول عن رحلته مع الجهاد الأفغاني وعلاقته برجال القاعدة- حكى أبو الوليد لي عن زوج ابنته أسماء “سيف العدل”. الذي كان محتجزا معه في إيران. وعن اندفاعه وعدم ملاءمته لتولي قيادة التنظيم. متفقا مع ما ذهب إليه بن لادن بأن صهره لا يصلح إدرايا ولا تنظيميا رغم صلاحيته وجهوزيته العسكرية.

لأسباب -ليس محل ذكرها الآن- لم ينشر الحوار ولا مشروعات الكتب التي كان أبو الوليد يسعى إلى نشرها في وسيلة نشر مصرية. لكن الرجل الذي هرب عام 2016 مع أسرته إلى الدوحة ومنها توجه إلى طهران حمل صهره ورفاقه من قادة القاعدة مسئولية الاحتلال الأمريكي لأفغانستان. واتهمهم بالتسبب في سقوط إمارة “طالبان الإسلامية” وسفك الدماء في العراق.

بعد نحو عامين من عودته إلى إيران استأنف أبو الوليد تنشيط موقعه الإلكتروني “مافا السياسي”. ونشر به كتبا ودراسات لم يتمكن من نشرها في مصر قبل رحيله. كما نشر مقالات لقادة القاعدة. ومنهم صهره الذي كان ينشر إما باسمه الأصلي “محمد صلاح” أو تحت اسم مستعار “عابر سبيل”. ثم عقب أبو الوليد عليها مفندا وناقدا.

وتحت عنوان “نحن ولعبة الشطرنج- النقلة الأولى” كتب أبو الوليد إن صهره وقادة القاعدة ليسوا سوى “بغال تحميل” استخدمتهم الولايات المتحدة وقوى الغرب في لعبة الشطرنج الدولية لتحقيق مآربها في المنطقة. واصفا إياه بأنه “جهادي يتمتع بقدر محدود من الذكاء”. لافتًا إلى أنه لم يكن من مؤسسي تنظيم القاعدة لكن مقتل القادة الكبار والمؤسسين صعده إلى الصف الأول من قيادة القاعدة.

أبو الوليد قال أيضا إن صهره يحاول ترويج صورة مثالية عن تنظيم القاعدة. وتصويره بأنه لم يخطئ في قراره بشن هجمات 11 سبتمبر 2001. منوهًا إلى خطورة أسلوب حجب الحقيقة ونشر أبخرة التفاؤل الكاذب والأوهام المخدرة للأعصاب. “لقد رأينا عاقبة ذلك على أفغانستان وكيف أن القيادات الإسلامية العربية وقد كانت تعلم حقيقة الأوضاع هناك مثل فساد قيادات الأحزاب الجهادية ونفاذ الحكومات المحلية والأمريكية فى عظام تلك المنظمات. واضطراب وفوضى العمل القتالي داخل أفغانستان”. واصفا قادة العرب “المجاهدين” بأنهم “يعملون كلاب حراسة للاحتلال الأمريكى فى كابول”.

وطالب أبو الوليد المصري بتقديم “سيف العدل” وغيره من قيادات القاعدة إلى “محاكمة جهادية” لمحاسبتهم على الجرائم التي ارتكبوها ومنها هجمات 11 سبتمبر. التي تسببت في رد فعل مدمر أسقط حكم حركة طالبان. وأدى لمقتل الآلاف من الأفغان. لافتا إلى أنه سبق له أن طالب في أواخر ثمانينيات القرن الماضي بمحاكمة أسامة بن لادن وأبو عبيدة البنشيري وأبو حفص المصري وإعدامهم: “قلت في جلسة مفتوحة مع شباب من جماعات إسلامية خاصة تنظيم الجهاد والقاعدة إن الأمر لو كان بيدى لحاكمت الثلاثة وحكمت عليهم بالإعدام”.

ضمن رسائل أبوت آباد التي تم الكشف عنها أشارت رسالة للمسئول الإعلامي السابق للقاعدة أبو عطية الله الليبي أنه في حال وفاة أيمن الظواهري فسيبايع قادة القاعدة أبا الخير المصري وأبا محمد المصري وسيف العدل وناصر الوحيشي على التوالي. وقد قُتلوا جميعاً عدا سيف العدل.

يبدو المشهد داخل تنظيم القاعدة ضبابيا بعد اغتيال أيمن الظواهري. فمعظم أعضاء مجلس شورى التنظيم الذين وردت أسماؤهم في مراسلات القادة باعتبارهم خلفاء الظواهري المحتملين لم يبق منهم سوى “سيف العدل” المقيم حتى هذه اللحظة في طهران ويحظى برعاية الاستخبارات الإيرانية والحرس الثوري. وتنطبق الظروف نفسها على رفيقه محمد آباتي المعروف بعبد الرحمن المغربي -صهر الظواهري والمسئول عن شبكة السحاب الذراع الإعلامية المركزية للقاعدة- والموجود في إيران أيضا. والذي رصدت واشنطن مكافأة 7 ملايين دولار مقابل الحصول على معلومات حول مكان وجوده هناك وفرضت عقوبات على كل من يتعامل معه.

أزمة القاعدة ليست فيمن سيخلف الظواهري كقائد للتنظيم. فالأمير صار دوره رمزيا بعدما تفككت الحركة وتحولت إلى مجموعات وخلايا مستقلة تتحرك على الأرض وتضع استراتيجيات وفقا لطبيعة المتغيرات والأهداف في كل منطقة -بحسب ما يشير أحد عناصر القاعدة السابقين- لافتا إلى أن القاعدة صارت مظلة فكرية تجمع مجموعات “جهادية” مختلفة.

ويعتقد هذا المصدر أنه حتى لو تم الإعلان عن خلافة “سيف العدل” للظواهري فلن يُمكن من السيطرة على مجموعات القاعدة المنتشرة في أفريقيا وآسيا أو حتى توجيهها. “رسائله دائما ستكون محل شك نظرا لخلافاته السابقة مع مؤسسي التنظيم. وعلاقته الغامضة بالاستخبارات الإيرانية وهو أمر معروف لدى منتسبي القاعدة”.