كتب- عبدالوهاب شعبان:
تصاعدت وتيرة الاتهام بـ”خدش الحياء العام” في مرحلة ما بعد منصات التواصل الاجتماعي المرئية. حين لاقت مقاطع الفيديو القصيرة قبولا لدى أوساط المراهقين والشباب باعتبارها بوابة شهرة وربح.
فمؤخرا تعرضت “الإنفلونسر” السعودية-المصرية “تالا صفوان” للحبس. وذلك على خلفية اتهامها بـ”خدش الحياء” عقب بثها مقطع فيديو مباشر على قناتها بموقع “تيك توك”. والذي تضمن حوارًا مع إحدى صديقاتها تطرق إلى شخص مشهور تعرفانه. وقدمت الصديقتان دعوة للصديق ليزورهما في بيتهما. فقيل إن الدعوة “تضمنت إيحاءات جنسية”.
واشتهرت “تالا” بتقديم محتوى ترفيهي كوميدي للأطفال والشباب أدى إلى وصول متابعيها إلى 5 ملايين متابع.
وقبل أن تزخر مواقع التواصل الاجتماعي بمقاطع فيديو تتضمن ثقافات مختلفة موجهة بالطبع إلى شرائح مجتمعية متباينة الأفكار. لاحقت تهمة خدش الحياء العديد من الأدباء والشعراء في العالم العربي. وصارت التهمة الأكثر شيوعا حال عدم توافق بين المبدعين والسلطة.
وربما هنا يستهجن البعض الجمع بين فتيات تيك توك وكاتب مثل نجيب محفوظ. لكن حالة الهجوم العامة التي تنطلق لاتهام أي ناشر محتوى لم تعد تفرق بين كاتب ومؤثر عبر مواقع التواصل. هو فقط الفارق الزمني معيارنا لا أكثر ولا أقل فلسنا هنا بصدد حكم قيمة على أحد أيا كان منتجه ما لم يتعارض مع قانون الإبداع.
اقرأ أيضًا.. “تيك توك”.. المتهم بالرقص ينتصر للقضايا الجماهيرية
خدش الحياء من التراث إلى الرواية
في مواجهة حرية الإبداع تم وضع الروائيين والأدباء والشعراء قبل زمن السوشيال ميديا بين قوسي “خدش الحياء العام وازدراء الأديان”. بما يعني رقابة محكومة بمغازلة المزاج الشعبي دون مرجع أدبي على الفنون والأعمال الأدبية.
واحتلت رواية “أولاد حارتنا” مثلا للأديب المصري الحائز على جائزة نوبل نجيب محفوظ قائمة الأعمال المتهمة بـ”خدش الحياء وازدراء الأديان”. وذلك منذ نشر فصولها بجريدة الأهرام عام 1967. إذ هاجمها آنذاك شيوخ الأزهر وأصدر مجمع البحوث الإسلامية تقريرا يوصي بعدم نشرها.
ولم تسلم أيضا كتب التراث من اتهامها بـ”خدش الحياء” كممثل للتهم الأخلاقية المجتمعية. حيث حذر سلفيون من تداول كتب “رسائل إخوان الصفا” و”شمس المعارف للبوني” و”حيل اللصوص” للجاحظ. إلى جانب كتاب “طوق الحمامة” للإمام ابن حزم.
وحملت هذه التحذيرات من كتب تراثية وروايات معاصرة -قبل انطلاق عصر الفضاء الإلكتروني- مزاجا استثنائيا يحد من حرية الكتابة والإبداع. ويضع قيودا أمام المبدعين تحت طائلة “خدش الحياء العام” الذي لم يعرف له اصطلاح موحد حتى الآن.
وقبل 5 سنوات تعرض الروائي الفلسطيني عباد يحيى لتهمة “خدش الحياء العام” من قبل النائب العام في “رام الله” عن روايته “جريمة في رام الله”. رغم أن وزير الثقافة الفلسطيني إيهاب بسيسو عارض اتهام الرواية بذلك عبر تدوينة على حسابه الشخصي بـ”فيسبوك” قال فيها إن “معارضة الرواية تأتي عبر النقد دون الاتهام والمصادرة”.
الحياء و”التواصل الاجتماعي”.. كيف اتسع الفخ؟
من الأعمال المكتوبة إلى المقاطع المرئية لفئة معروفة بـ”إنفلونسرز”/المؤثرين. إذ تطور الأمر من عبارات مكتوبة إلى أقوال تخاطب جيلا آخر بثقافة مختلفة. وآليات عصية على التصنيف. وهنا بدت “تهمة خدش الحياء” مطاطة وتحمل معاني كثيرة حسب قول الباحث د.سامح فوزي -مدير مركز الدراسات بمكتبة الإسكندرية. لافتا إلى أنه مع تغير الأزمنة واختلاف الأجيال وتنوع أساليب التعبير اللغوي صار إنتاج أي محتوى في مرمى إساءة الفهم.
ولدى انتشار مقاطع فيديو قصيرة على منصات “تيك توك” و”يوتيوب” لشباب وفتيات بهدف الشهرة والترفيه أو حتى تحقيق الربح. تسارع الاتهامات الموجهة لهم بمتوالية تصاعدية. وهنا تعجب “فوزي” متسائلا: “ماذا تعني عبارة خدش الحياء وأي متلقٍ ذلك الذي تم خدش حياؤه؟”.
وتابع: “هناك عبارات أو تعبيرات تثير البعض لكنها لا تثير الشعور ذاته لدى البعض الآخر. وبالتالى فإن المسألة نسبية. والإدراك شخصي بحت. وإذا كان كاتب أي رواية من نجيب محفوظ إلى أحمد ناجي يستخدم ألفاظًا أو عبارات تنطوي على ما يعتبره البعض (خدش حياء) فيجب أن ندرك أن أيا من الكاتبين لا يهدف إلى ذلك. بل إن كل ما سعى إليه الكاتب هو تقديم صورة من الواقع مجردة من الزخرفة. تمثل مشاهد إنسانية مضطربة مختلطة. تحوي كل ما فى الحياة من جمال وقبح. ولم يخترع أي روائي عبارات خادشة للحياء. بل هي جزء من الحياة اليومية. لا تجري فقط على ألسنة السوقة والدهماء. بل على ألسنة الطبقات الراقية والعليا من سكان الفيلات والقصور وأصحاب السهرات الخاصة الصاخبة” –حسب قوله.
“تيك توك” والسجن في البلاد العربية
لم يكن إلقاء القبض على “الإنفلونسر” المصرية-السعودية بتهمة خدش الحياء العام أو “تقديم أعمال منافية للآداب العامة” هو الأول من نوعه. فمنذ الإعلان عن تطبيق “تيك توك” وتداوله في الفضاء العام لاقى إقبالا جماهيريا من شريحة عمرية بين 12 و20 عامًا في كل البلاد العربية. وتنوع المحتوى المقدم بحسب إرشادات التطبيق وسهولة استخدامه وانتشاره.
وفجّرت قضية الفتاتين المصريتين “حنين حسام ومودة الأدهم” جدلا واسعا بشأن تهم الإيحاءات الجنسية والأعمال المنافية للآداب. حد اشتباك بين مؤيدين ومعارضين لما تعرضت له الفتاتان العشرينيتان لدرجة أدت إلى تدخل هاني كامل -مدير عمليات محتوى “تيك توك” بمنطقة شمال أفريقيا- ونفيه تورط الموقع في إشاعة الإباحية -حسب قوله.
مدير محتوى “تيك توك” قال: “التطبيق يتضمن مجموعة إرشادات للاستخدام المتوافقة مع عادات وتقاليد كل مجتمع على حدة. وهناك 4 فرق محلية تضم موظفين مصريين وعربا تراجع المحتوى المنشور أولا فأولا. مؤكدا أن المنصة تحظر نشر أي مواد تتضمن مشاهد عنف أو تحرش جنسي.
وبما أن جمهور المملكة العربية السعودية احتفى بمحتوى “تالا صفوان” ودعمها حتى صار لقناتها 5 ملايين متابع فإن ثمة غرابة في الحملة التي تتعرض لها الفتاة العشرينية تحت هاشتاج “تالا تسيئ للمجتمع”. ويتعارض هذا النقد الشديد مع كون المملكة هي الأكثر استخدامًا لـ”تطبيق تيك توك” بالمنطقة العربية قبل مصر والإمارات -حسب قول مدير محتوى التطبيق بمنطقة شمال أفريقيا.
“تالا” وأخواتها.. ما الحل؟
هناك أعمال تعرض للجمهور العام في السينمات مثلا تكون أكثر إثارة للغرائز. فيما تؤخذ على محمل “سياقات أعمال فنية” وتنجو من فخ الإيحاءات الجنسية وخدش الحياء العام. لكن “تالا صفوان” وأخواتها في بلدان عربية تحتل صدارة مستخدمي “تيك توك” و”يوتيوب” و”انستجرام” وغيرها من المنصات التفاعلية للمقاطع المرئية وقعن في شرَك الإدانة الشعبية تحت تهمة “الإساءة لقيم المجتمع”.
ونحو انقسام شعبي يحدث خلف كل واقعة إدانة لـ”فتيات” المنصات الاجتماعية. وتضامن يوازي الاتهام. فلا أحد يمكنه توقع نهاية الحالة المأزومة تجاه تهمة تنال من محتوى رائج لفتاة عشرينية. في مقابل تمريره بشكل رسمي ضمن أفلام عربية أو أعمال درامية بشكل طبيعي ومقبول.
تدلل على ذلك واقعة اتهام الممثلة المصرية رانيا يوسف بخدش الحياء العام إبان ظهورها بمهرجان الجونة السينمائي في ديسمبر عام 2018. واعتذارها خشية ملاحقة قضائية بعد بلاغ للنائب العام تقدم به أحد المحامين يتهمها بـ”الترويج للفجور”. في حين تُمرّر مشاهد أكثر جرأة للمثلة ذاتها في أفلام سينمائية تعرض لجمهور عام.
حسب خبراء قانونيين فإن نصا فضفاضا في القانون يجرم “التحريض على الفسق والفجور”. وهو اتهام يلاحق العاملين في تقديم محتوى مرئي عبر منصات التواصل الاجتماعي. ويحمل قضايا الإدانة فوق ما تحتمل لتأخذ أكبر من حجمها.
الخبراء وصفوا اتهام “خدش الحياء العام” الموجّه لبعض فتيات “تيك توك” بأنه امتداد لقضايا الحِسْبة التي وجهت في الماضي ضد عدد من المفكرين والأدباء. وأكدوا أنه بموجب بعض النصوص القانونية يحصل بعض المواطنين على حق التنصيب كحامٍ للتقاليد المجتمعية والتفتيش في ضمائر الآخرين. وبينما “خدش الحياء العام” تهمة مطاطة جدًا فإنها قد تلقي بالمتهم بها خلف القضبان لسنوات حسب نصوص القوانين في الدول المختلفة.