إذا ساقك القدر لتكون أحد مصابي السرطان من غير القادرين في مصر فعليك الاستعداد لمواجهة مصيرك المحتوم، ودخول دائرة المنافسة مع آلاف المصريين بحثا عن فرصة للعلاج المجاني في المعهد القومي للأورام.

تبدأ الرحلة بطابور طويل ممتد على رصيف المعهد المطل على كورنيش النيل في منطقة فم الخليج، وصولا إلى العيادات الخارجية داخل المستشفى. السباق يبدأ عند شباك التذاكر المجانية وإثبات الدور قبل العاشرة صباحا.

ضجيج متواصل لا أحد يسمع الآخر، إلا عبر مكبرات الصوت “ميكرفونات” تنادي على صاحب الدور. تتلاحم أجساد المرضى وذويهم ويتحركون بفعل التدافع، كل مريض يحمل في يده مستند إثبات حالة لتحديد دوره في قوائم الانتظار. هدف الجميع تحديد موعد إجراء جراحة أو آشعة تشخيصية قد تمتد لعدة أشهر.

داخل استراحات الآشعة والمعامل ووحدات العلاج الإشعاع والكميائي، وجوه مصفرة وشاحبة تحسبهم “سكارى” من شدة الألم، لكن غياب البديل اضطرهم لقطع عشرات الكيلومترات من المحافظات والتنقل فوق كراسي متحركة لتلقي العلاج الكميائي.

اقرأ أيضا.. أخطر من السرطان.. “البلعمة” مرض مناعي يفتك بضحاياه خلال أشهر

رحلة مع الأوجاع

معهد الأورام

رحلة الأوجاع في معهد الأورام قد تكون أسبوعية أو شهرية حسب تصنيف المرحلة وتطور الحالة. المعاناة تجسدها “منال رمضان” 28 سنة التي أجهز المرض اللعين على أجزاء كبيرة من أمعائها. افترشت الأرض داخل المعهد وأسندت رأسها على الحائط المقابل لعيادة الباطنة. قدماها عاجزتان عن حملها كما أن الزحام قضى على فرصتها في الحصول على كرسي.

على مدار أربع أشهر منذ بداية رحلة علاجها في المعهد تقطع “منال” 60 كم من العياط جنوب الجيزة إلى القاهرة أسبوعيا لتلقي جرعة “الكيماوي” بصحبة زوجها أحمد، عامل زراعي.

يقول “أحمد” لـ”مصر 360″ إن زوجته أصيبت بسرطان في المعدة قبل خمس أشهر احتاجت لإجراء عملية جراحة لاستئصاله بمبلغ 60 ألف جنيه. ضيق ذات اليد دفعه إلى طرق أبواب معهد الأورام. كان عليه الانتظار 45 يوما لإجراء الآشعة المقطعية التي تحدد  فقط طبيعة الحالة ومدى حاجتها إلى الجراحة.

“تكلفة الأشعة في المعامل الخاصة 6 آلاف جنيه” وفقا لـ”أحمد”، الذي يقول إنه رغم ضآلة المبلغ لكنه غير قادر على توفيره. يقول: إنه توسل إلى إدارة المعهد لتقديم موعد إجراء الأشعة لخطورة حالة زوجته، وتمت الاستجابة لمطلبه وتقديمها بالفعل لـ20 يوما.

وبعد تمكنهم من إجراء الجراحة خلال 35 يوما كاملة، يصطحب “أحمد” زوجته في رحلة أسبوعية شاقة، لتلقي جلسة علاج إشعاعي أسبوعية لتحجيم المرض.

زيادة أعدد المترددين

معهد الأورام التابع لجامعة القاهرة أنشأ عام 1969 لخدمة 5 آلاف مريض بطاقة 270 سريرا. وبعد 53 عاما تضاعف عدد المترددين عليه من المرضى ليصل إلى 310 آلاف حالة مرضية إضافة إلى 25 ألف حالة دائمة سنويا بطاقة 400 سرير فقط. المعهد يستهدف الوصول إلى 1000 سرير بعد الانتهاء من تطوير المبنى الجنوبي بالكامل الذي تعرض للتصدع في 2010 وقلل من الطاقة العلاجية بالمعهد بنسة إلى النصف.

دخل المبنى الجنوبي الخدمة بنسبة 60% في 2018، وكان متوقع أن يتم إضافة 255 سريرا منها 145 للمرضى و110 للعلاج الكيميائي، وإضافة 6 غرف عمليات و18 سريرا للرعاية المركزة إلى الطاقة الاستيعابية للمعهد القديم البالغة 275 سريرا.

لكن الأوضاع لم تتحسن كثيرا في ظل الأعداد الكبيرة الموجودة على قوائم الانتظار في المعهد.

الدكتور محمد عبد المعطي، عميد المعهد، قال إن الطاقة الفعلية للمعهد 420 سريرا فقط حاليا إضافة إلى 50 سرير رعاية مركزة، و100 سرير بمستشفى التجمع الأول المتخصص في أمراض الثدي التابع أيضا لمعهد الأورام.

وفي محاولة من وزارة الصحة للتخفيف عن المعهد خصصت جزءا من مركز أورام دار السلام “هرمل”، بعد تطويره، لعلاج السرطان وربطه بالمعهد ليضيف 80 سريرا و20 وحدة رعاية ليستفيد منها المترددين على المعهد.

أسباب الزحام

أرجع مدير المعهد الزحام الكبير وتكدس المرضى في العيادات الخارجية إلى ثقتهم في المعهد لكوّنه المكان العلاجي الوحيد الذي يقدم الخدمة بالمجان بداية من الكشف والتشخيص والأشعة إلى العمليات الجراحية والعلاج.

وأشار عبد المعطي إلى أن اصطحاب المريض أكثر من مرافق أثناء زيارته للعيادة، أول أسباب الزحام. حيث تستقبل العيادات ما بين 700 إلى 1000 مريض يوميا ومن 300 إلى 400 حالة في فرع المعهد بالتجمع الأول.

ووفق عبد المعطي: “لو ضربنا هذا الرقم في اثنين مرافقين مع كل مريض سيكون لدينا 3 آلاف شخص تقريبا في العيادات يوميا وهو رقم كفيل لإحداث التكدس والزحام خاصة وأن مساحة المعهد ليست كبيرة، هذا بدون إضافة أعداد العاملين من إداريين وأطباء وتمريض.

رحلة سفر من أجل العلاج

المبنى الجنوبي لمعهد الأورام

بوجه شاحب وجسد نحيل أعياه العلاج الكيماوي يأتي “إبراهيم خليلي” 75 سنة إلى المعهد برفقة ابنته “حنان” 35 سنة كل أسبوع من محافظة الفيوم لتلقي جرعة العلاج إذ إن الرجل السبعيني يعاني سرطانا في المثانة.

في حديثها لـ”مصر 360″ تروي “حنان” أن والدها أصيب بالمرض وتم استئصاله منذ عامين. بعدها أجرى عملية تحويل مسار في المعهد أيضا، لكن المرض عاود مهاجمته من جديد ليتلقى جلسة علاج كيماوي أسبوعية في محاولة لتحجيم السرطان ووقف انتشاره في الجسم.

ورغم صعوبة ومشقة الرحلة الأسبوعية، تقطع “حنان” 85 كيلومتر من الفيوم إلى المعهد على نيل القاهرة. تبدأ الرحلة عقب صلاة الفجر مباشرة. تنتظر بالساعات أمام المعهد حتى موعد تلقي الجلسة. وبعدها تنتظر ساعتين حتى يتمكن والدها من استعادة وعيه وقدرته على السير لتبدأ رحلة العودة بعد أذان المغرب مباشرة. يعاونها أفراد الأمن في المعهد لوضع والدها المريض في التاكسي، تتجه به إلى موقف الأقاليم في المنيب. تأخذ الميكروباص في اتجاه بلدتها حيث يكون شقيقها في انتظارها. يحمل والدهما في “توك توك” ومنه إلى المنزل في انتظار تجدد رحلة العذاب مجددا بعد أسبوع.

قوائم الانتظار

يعكس أعداد المترددين، العبء الذي يواجهه المعهد باعتباره مركزا متقدما لعلاج الأورام بأنواعها. وجراحات الأورام المتقدمة كجراحات الرأس والرقبة والتي تتطلب مهارات وإمكانات لا تتوافر إلا في المعهد. يزيد العبء ضعف إمكانيات مراكز الأورام في المحافظات وعدم وجود أجهزة متخصصة إلى جانب الرعاية المركزة المتقدمة التي تتطلب كوادر علمية متخصصة.

تمثل هذه الاحتياجات ضغوطا كبيرة على المعهد وتتسبب في وجود قوائم انتظار. لكن مدير المعهد أعلن أن المبادرة الرئاسية لتخفيف قوائم الانتظار سيتم تطبيقها. وقال: “سننطلق منها إلى باقي التخصصات بتطوير مراكز الأشعة وتزويدها بأجهزة حديثة وتطوير الباثولجي وزيادة عدد غرف العمليات التي تصل مدة انتظارها إلى ثلاثة وأربعة أشهر في المتوسط”.

يشهد معهد الأورام حوالي 5 آلاف عملية جراحية و65 ألف أشعة في السنة، بالإضافة إلى 120 ألف جلسة علاج إشعاعي. مؤخرا أجرى المعهد عمليات جراحية أيام الجمع لتخفيف حالات الانتظار. ورغم الصعوبات التي يواجهها إلا إنه يضم أحدث غرفة عمليات لخدمة المسح الذري البيزوتروني بالأشعة المقطعية، وجهاز المنشط الخطي للعلاج الإشعاعي المتقدم للأورام وإدخالها ضمن منظومة العلاج المجاني وفقا لتصريحات عميد المعهد.

فئات الكشف في المعهد تنقسم إلى فئتين: الأولى مجانية بقيمة 10 جنيهات، والثانية اقتصادية بقيمة 50 جنيها، ويمثل 15% من أعداد المترددين القادرين والتابعين للتأمين الصحي. أما الفحوصات فهي مجانية بالكامل، ولا يتحمل المريض عند إجرائها أي تكلفة مادية، لكن تحديد موعد الأشعة يعتمد على قائمة الانتظار التي تسبقه.

ضعف الميزانية

 

يعتبر ضعف الميزانية أحد أبرز المعوقات التي تحد من فرص العلاج في المعهد وتؤثر على مستوى الخدمة، فهي لا تتخطى 90 مليون جنيه وفقا لعميد المعهد السابق دكتور حاتم قاسم، بينما يبلغ حجم المنصرف 255 مليون جنيه.

عميد المعهد الحالي رفض الإفصاح لـ”مصر 360″ عن حجم ميزانية المعهد الحالية مكتفيا بالقول إن 70% منها معتمدة على التبرعات. كما تغطي الحكومة الجزء المتبقي. وقال: “الحكومة مهتمة بمرضى السرطان وتغطية تكلفة العلاج بالكامل “واللي بنطلبه بناخده مش مقصرين”.

لكن عبد المعطي أشار في حديثه إلى أن هناك ميزانيتين للمعهد، الأولى خاصة بالمستشفى العلاجية والثانية متعلقة بالمعهد باعتباره كلية تابعة لجامعة القاهرة تتبع وزارة التعليم العالي. كذلك أضاف أن المعهد يضم أكثر من 700 عضو هيئة تدريس يعملون فيه.

نقص في “الألبومين”

“فاروق محمد عبد القادر” أحد مرضى السرطان الذين يشملهم نظام التأمين الصحي لكنه فضل تحمل تكلف العلاج الباهظة على نفقته الخاصة. الرجل أراد الخروج من دائرة الانتظار لعدة أشهر و”المرمطة” داخل عيادات المعهد بحسب ما قال.

ابنته “هند” قالت إن والدها كان يتلقى علاج السرطان على نفقته الخاصة في الخارج لكن عندما تدهورت حالته الصحية نتيجة نقص البلازمة والألبومين بفعل العلاج الكميائي لجأ إلى المعهد للحصول عليهم مرة كل أسبوع، لكنه قرر ترك المعهد مجددا.

تشير التوقعات إلى أن عدد الأشخاص الذين يصابون بالسرطان سيزداد أكثر في السنوات المقبلة، وسيكون أعلى بنسبة 50% تقريبا في عام 2040. كما أنه من المتوقع أن يرتفع العدد الإجمالي لوفيات السرطان في جميع أنحاء العالم بأكثر من 60% في العقدين المقبلين، أي يصل إلى 16 مليون شخص كل عام.

وفيات السرطان

وفق منظمة الصحة العالمية فإن عدد الوفيات بسبب السرطان ارتفع من 6.2 مليون عام 2000 إلى 10 ملايين في عام 2020، بنسبة واحد من كل 6 وفيات بسبب السرطان.

كما يأتي سرطان الثدي في المرتبة الأولى ثم “الرئة” كأكثر أنواع السرطان شيوعًا في العالم، وفق الإحصاءات الصادرة عن الوكالة الدولية لأبحاث السرطان (IARC) في ديسمبر/ كانون الأول 2020.

وفي مصر يعتبر انتشار الفيروسات الوبائية الكبدية (بي وسي) أحد المسببات الرئيسية لسرطان الكبد بعد سرطان الثدي. كما تأتي مصر في الترتيب الثالث عربيا عام 2016 بنسبة إصابة 115 ألف حالة جديدة سنويا. كما تمثل إصابات الثدي الأعلى بين النساء بنسبة 32% ثم الكبد بنسبة 30%، لكن هل تعد هذه النسبة مرتفعة ومقلقة؟

الدكتورة غادة الشريف وكيل المعهد القومي للأورام، تقول إن نسبة إصابات السرطان في مصر منخفضة بالمقارنة بالعديد من دول العالم الصناعي. إذ إنه مع زيادة عدد السكان وارتفاع نسبة الوعي وزيادة أعداد وحدات الاكتشاف المبكر للأورام، أصبح الأمر أسرع في الاكتشاف والعلاج.

كما أضافت أن هناك رابطا مشتركا بين تطور التشخيص والاكتشاف المبكر للأورام، ومسببات الإصابة، خاصة التغيّر الجيني الذي ثبت مؤخرا أنه من أكبر مسببات السرطان خاصة في الثدي والرحم.

أنواع أخرى من السرطان تراجعت في مصر وفقا لـ”الشريف” مثل سرطان المثانة المتعلق بمرض بالبلهارسيا التي كانت مصر أعلى الدول إصابة به. كذلك أشارت إلى تطور طرق العلاج حديثا فأصبح موجّها للورم في المنطقة المصابة حتى لا يؤثر على باقي خلايا الجسم. إضافة إلى طرق العلاج الجيني الجديد الذي يعالج هذه الاختلالات بشكل أذكى لكن تظل تكلفة العلاج كبيرة لا يستفيد منها قطاع واسع خاصة في دول العالم الثالث.