في نفس اللحظة التي أصدرت فيها محكمة جنايات القاهرة قرارًا بحظر النشر في قضية مقتل المذيعة شيماء جمال على يد زوجها، كنت أطالع تصريحات قديمة منشورة للكاتب الصحفي الكبير الراحل صلاح عيسى، وللمصادفة فإن جزءًا من هذه التصريحات كان يدور حول قضية “حظر النشر”.

بثقة وبرؤية مهنية ونقابية كبيرة تمتع بها عيسى كان الرجل يطالب بوضع ضوابط ومعايير واضحة لقرارات حظر النشر، هذه الضوابط التي تحمي الصحافة وحريتها من فرض مزيدًا من القيود عليهما، وفي نفس الوقت تضمن ألا يضر النشر بقضية ما زالت في مرحلة التحقيق أو لا تزال منظورة أمام المحكمة، وهو أمر مهم في سياق تحقيق العدالة في المجتمع.

قرارات حظر النشر في مصر تصدر عن المحاكم أو عن النائب العام، لكنها لا تصدر مسببة، ولا يتم إعلان المعايير التي استند إليها قرار الحظر، ويتم الاكتفاء بالإعلان -ضمنيًا على الأقل- بأن القرار يأتي من أجل استكمال التحقيق وضمان نزاهته وعدم التأثير في مجرياته، أو في تفاصيل المحاكمة.

احترام نزاهة التحقيق أمام المحاكم والنيابات أمر مهم ولا يمكن التقليل منه أبدًا، وهو جزءًا من إجراءات تحقيق العدالة لا شك، ولكن الملفت أن قرار حظر النشر من الجانب الآخر يؤثر على مهنة أخرى، هي مهنة الصحافة، وعلى حقها الدستوري في العمل بحرية، وعلى دورها الطبيعي والقانوني في الوصول إلى المعلومات وإعلانها للرأي العام،

فنشر المعلومات وإخبار الرأي العام بالحقيقة هو حق أصيل للصحافة في العالم كله، وحصار المعلومات بأي طريقة هو انتقاص من عمل الصحافة، وحصار لدورها الهام في المجتمع، وتقليل من تأثيرها وحقها في إعلان الحقائق بدقةوشفافية وموضوعية.

في كل دول العالم هناك إجراءات وأنواع مختلفة لحظر النشر، لكنه يختلف عن “المنع الكامل” للنشر، ففي بعض المؤسسات الإعلامية ووكالات الأنباء العالمية هناك بعض الأخبار التي تطلب مصادرها ذاتها تأجيل نشرها لبعض الوقت خوفًا من تأثيرها المجتمعي. وهنا على المؤسسة الإعلامية احترام طلب المصدر في تأجيل النشر. وهو ما يعتبره البعض نوعاً من أنواع حظر النشر “المؤقت”، الذي يرتبط بحق المصدر في طلب التأجيل، ووقتها تصل الأخبار إلى المسئولين عن النشر في هذه المؤسسات الإعلامية والوكالات الدولية مكتوباً عليها ملاحظة تشير إلى طلب تأجيل النشر لبعض الوقت، احتراماً لمصدر الخبر، ولتجنب نشر الأخبار “مجهلة”، ودون ذكر اسم وصفة مصدرها.

في بعض الدول هناك بعض الأخبار والقصص الصحفية تطلب الحكومات نفسها من الإعلام تأجيل نشرها لبعض الوقت، وهي أخبار لها تأثير على المجتمع مثل الموازنات العامة للدول أو بعض التشريعات التي يناقشها البرلمان، أو نتائج الانتخابات العامة- رئاسية أو برلمانية- والمعنى هنا أن المعلومات تصل إلى الإعلام فعلًا، ولا يتم منعها أو حصارها، ولكن طلب تأجيل النشر يكون مرتبطًا باحترام القانون أو بالخوف من تداعيات سياسية أو اجتماعية، وفي كل الأحوال يكون هذا الحظر مؤقتًا بفترة زمنية قصيرة، وينظمه القانون ذاته، بما يعني أن الحظر قد راعى أي تأثيرات سلبية يمكن أن يسببها التعجل في نشر الأخبار، لكنه فعل هذا دون أن يجور على حق الصحافة في نشر الأخبار وإطلاع الرأي العام على الحقائق والتفاصيل بشفافية مطلقة.

تلك هي الصور المختلفة لقرارات حظر النشر في العالم، وهي الصور التي توازن بين حق السلطة في “تأخير النشر قليلًا” واحترام تقديراتها السياسية، وبين حق الصحافة الأصيل في النشر، والأهم والأولى هو احترام حق المجتمع في المعرفة.

في مصر أظن أن قرارات حظر النشر تحتاج إلى مراجعة، وإلى ضمان استخدام هذا الإجراء الخطير بضوابط ومعايير معلنة وشفافة وينظمها القانون، والتأكيد على استخدام حظر النشر في أضيق نطاق ممكن، وفي قضايا يمكن أن يؤثر فيها النشر بالفعل على التحقيق أو يمكن أن يحدث تأثيرات وتداعيات سياسية كبيرة ومضرة، وفي كل الأحوال يجب أن يكون حظر النشر مؤقتاً وليس دائمًا، ومرتبطًا بظروف محددة ينتهي قرار الحظر بانتهائها، ثم الأهم أن يكون القرار نفسه مسبباً حتى يصل للرأي العام المعنى الفعلي للحظر وأسبابه ومبرراته.

حالة الصحافة في مصر خلال الست سنوات الأخيرة متراجعة للغاية، تحاصرها القيود من كل اتجاه، وتمنع عنها الهواء الذي تتنفسه، والهواء هنا هو الحرية، فبدون الحرية لا يمكن أن نراهن على وجود الصحافة ولا دورها ولا تأثيرها، من هنا يجب تخفيف القيود المفروضة على صحافة تعاني أصلًا، ولا يجب أن تكون قرارات حظر النشر قيدًا جديدًا على صحافة لا تنقصها القيود،ويسعى أبناؤها منذ سنوات إلى فك الحصار الذي حوّل المؤسسات الصحفية والإعلامية إلى ما يشبه النشرات الرسمية التي تصدرها الوزارات والهيئات، فلا يمكن للصحافة أن تستمر وتتطور ما دامت محاصرة “بالبيانات الرسمية” من جانب، وبالقيود القانونية والمنع من النشر من جانب آخر.

في وسط الحديث عن “حوار سياسي” يرسم خريطة للمستقبل أظن أن الصحفيين المشاركين فيه مطالبون بمناقشة النصوص القانونية التي تفرض حصارًا محكمًا على الصحافة، وفي قلب هذه النصوص يجب إعادة النظر في النص الذي ينظم حظر النشر، بما يضمن حماية المجتمع والتحقيقات القضائية ولا يقلل من حق الصحفيين في العمل والنشر بحرية ووفقاً للقوانين ومواثيق الشرف التي تنظم عمل المهنة، كما في العالم أجمع.

إذا كنا نتطلع إلى مستقبل مختلف فلا يمكن أن تظل الصحافة تحت الحصار، ولا يمكن أن يتغافل الحوار المنتظر عن مراجعة كل النصوص القانونية التي تحاصر أو تمنع النشر، أو التي تحد من حق الصحفيين في العمل، ومن حق المجتمع في المعرفة، أو تلك التي تجيز الحبس في قضايا النشر والرأي، فبدون صحافة حرة تكشف كل صور الفساد والانحراف، وتشير إلى مواطن الخلل، وتصبح صوت المواطن، وحلقة الوصل بينه وبين المسئولين لا يمكن أن نتفائل بالمستقبل، ولا يمكن أن يكون القادم أفضل حالًا من الحاضر والماضي على السواء.