لا تبدو فكرة السفر للخارج فكرة غريبة ولا جديدة على المجتمع المصري وشبابه وطبقاته الوسطى والفقيرة، طوال العقود الماضية كانت هذه الفكرة دائما مطروحة وواردة في خيال وترتيبات الحياة العملية لكثير من المصريين الباحثين عن فرص عمل تمكنهم من بدء حياتهم وتأمين مستقبلهم، بالذات في سن الشباب، أو لبعض الراغبين في تطوير مستواهم التعليمي والحصول على درجات علمية، ثم تطور الأمر بعد ذلك في فترة حكم الإخوان وما شهدته من عدم استقرار سياسي وكذلك تخوف من تهديد تركيبة المجتمع وهويته فاتسع نطاق التفكير في السفر والهجرة بالذات لدى القطاعات الأكثر تخوفا من استمرار حكم الإخوان، وربما يكون الاستثناء الوحيد الذى شهدته مصر من رغبة كثير من المصريين بالخارج وعودة بعضهم بالفعل هي الفترة التي أعقبت ثورة يناير، رغم كل ما بها من عدم استقرار سياسي وأمنى إلا أن حلم المشاركة في بناء مصر جديدة والآفاق التي طالت عنان السماء وقتها كانت حافزا مشجعا لكثير من المصريين للتفكير في اتجاه عكس ما كان سائدا قبلها وبعدها، وإن كان ذلك اقتصر على مرحلة قصيرة زمنيا أعقبت ثورة يناير.

لا يناقش هذا المقال لا معدلات وأرقام ونسب، ولا يبحث في أسباب متفاوتة اقتصاديا ومجتمعيا، وإنما يناقش بالأساس فكرة تبدو ملحوظة بشكل واسع، من موجات السفر خارج مصر في السنوات الأخيرة، التي كانت ولا تزال مطروحة إما فكرا أو فعلا، لأعداد كبيرة من المصريين، بالذات شبابهم الأكثر حداثة ومدنية وتعليما، وبالذات من الطبقة الوسطى والعليا الأقرب للوسطى، الذين ربما لا تكون دوافعهم الأساسية اقتصادية، رغم توافر تلك الدوافع بالذات في السنوات القليلة الماضية، وإنما بالأساس لأسباب تتعلق بالبيئة السياسية والمناخ العام.

فيما بعد 30 يونيو 2013، كان ذلك سائدا لدى قطاعات من المنتسبين والمنحازين لتيار واتجاه محدد ممن تمكنوا من السفر أو حتى الهروب، إما خوفا من أن تطالهم الملاحقات الأمنية والقضائية على خلفية كل ما جرى في 30 يونيو وبعدها، أو احتماء بدول بعينها، أو بحثا عن أدوار فيما يسمى بـ(المعارضة من الخارج) التي يختلف كاتب هذه السطور معها من حيث المبدأ والمنهج فضلا عن تفاصيل الخطاب والتكوينات، والمقصود هنا من اختاروا ذلك عمدا وعن وعي لا من اضطروا أو أجبروا بشكل أو آخر على مغادرة البلاد، لكن كل هذا ليس محل نقاشنا، وإنما بالأساس ما ندعو لتأمله هنا هو فيما يتعلق بما جرى بعد ذلك من تزايد الإقبال على فكرة السفر للخارج لدى قطاعات مجتمعية متنوعة، وليس فقط لأسباب البحث عن فرص عمل كما كان سائدا –دون إنكار ذلك– وإنما هربا من بيئة عامة ومناخ سياسي طارد، لكثير من أصحاب الرأي والخبرات والكفاءات في مجالات متعددة ومتنوعة، خاصة عندما يلاحظ أن كثير من هؤلاء من الجيل المنتمي فعلا وفكرا وموقفا لثورة يناير وأهدافها، من شاركوا فيها أو دعموها أو تبنوا خياراتها، وعندما تغيرت الأوضاع والأحوال وجدوا طاقاتهم معطلة، ومساحات تعبيرهم عن آرائهم وأفكارهم مسدودة، وإمكانيات عملهم في مجالات خبراتهم تضيق وتقل، وبالتالي صار الخيار الأقرب والأكثر عملية هو الخروج من مصر بحثا عن مساحات آمنة للعمل والدراسة وتطوير الخبرات والمهارات.

محاولة إنكار وجود تلك الظاهرة يبدو خطأ وخطر، فهذه الظاهرة لا تزال قائمة ولا تزال محل تفكير كثيرين، وبما في ذلك تفكير أسر بأكملها في استكمال مستقبلها ومستقبل أسرها في الخارج، ولا أدعي أبدا أن هذا قاصر على قطاعات بعينها ولا أنفي حضور الظروف الاقتصادية في الأسباب المؤكدة لكثير من تلك الحالات، لكن بوضوح شديد فإن المناخ الطارد الذى تشكل طوال السنوات الماضية، وضبابية ملامح المستقبل، وإغلاق مجالات وقنوات العمل العام، وتهميش واستبعاد الكفاءات والخبرات صاحبة الآراء المختلفة والمخالفة، كانت بين الأسباب الرئيسية والمباشرة في تنامي تلك الظاهرة واتساعها.

والسؤال الذى ينبغي طرحه الآن والتفكير فيه جديا، في ظل الدعوة المطروحة لحوار وطني يحدد أولويات العمل الوطني ويطرح ملف الإصلاح السياسي ضمن تلك الأولويات، وفى ظل تشكيل عدد كبير من اللجان في محاور هذا الحوار تتناول الكثير من القضايا الهامة، وإذا كانت النوايا جادة وصادقة فيما يخص فتح مساحات أوسع للتعبير عن الآراء المختلفة، وإذا كان هناك من بين هؤلاء المصريين المقيمين حاليا بالخارج، كثير من أصحاب الرؤي والخبرة في تخصصات متعددة ومتنوعة، فكيف يمكن الاستفادة منهم ومناقشة استعدادهم لتقديم رؤاهم وطرح وجهات نظرهم، وكيف يمكن تشجيع وتحفيز من يرغب في العودة منهم بشكل آمن، وكيف يمكن استيعاب تلك الطاقات والخبرات فيما هو مقبل.

هذا واحد من الملفات الجادة التي تستحق تفكيرا وتواصلا مع أصحابه، وهو بالتأكيد ليس قاصرا على من سافروا للخارج، وإنما يمتد ليشمل كثيرين ممن في داخل مصر أيضا، لكن هؤلاء الذين اضطروا للغربة عن الوطن بعد أن شعروا بالغربة داخل الوطن نفسه، يستحقون التفاتا، هو بالأساس من أجل الاستفادة من خبراتهم ورؤاهم في ظل وضع سياسي واقتصادي ومجتمعي يحتاج لكل الخبرات والآراء.

التواصل مع هؤلاء، وتوفير سبل وقنوات للتعبير عن آرائهم ورؤاهم، والاستفادة من كفاءاتهم وخبراتهم، والإعلان بشكل واضح عن الترحيب بعودتهم بشكل آمن، يبدو أمرا بالغ الأهمية في المرحلة المقبلة، ولعل دعوة بعض الأسماء للمشاركة في الحوار الوطني وعودة بعضها تكون إشارة رمزية لذلك، لكنها لا تكفي وحدها، لأن مساحة وعدد هؤلاء أكبر كثيرا مما جرى.

بالتزامن مع ذلك فهناك أيضا ظاهرة أخرى هي تزايد عدد الممنوعين من السفر خارج البلاد، وهى بالمناسبة أحد الأسباب التي قد تمنع بعض من يفكرون في العودة أحيانا من الخارج خوفا من أن يكونوا على قوائم الترقب فيتم توقيفهم عند العودة أو يعودوا ولا يتمكنوا من السفر مرة أخرى، وهى ظاهرة يجرى حل بعض حالاتها، لكنها تحتاج لآلية واضحة ومحددة، إلى حين وجود قانون وإجراءات تضبط وتحدد وتقيد قرارات المنع من السفر أو ترقب الوصول بعد ما جرى من توسع فيها في السنوات السابقة، وبالتالي فهناك حاجة ضرورية لخطوات أكثر اتساعا وشمولا في ذلك الملف، بما في ذلك إغلاق بعض القضايا التي طال مداها وأمدها، وانهاء الإجراءات المترتبة عليها من تحفظ على الأموال ومنع من السفر وغيره.

كما ذكرنا وأشرنا سابقا، فإن تهيئة الأجواء وتقديم الإشارات على الاستعداد لمناخ مختلف عما كان سائدا، ومنهج مختلف في التعامل مع أصحاب الرأي، هو جزء رئيسي من ضمانات نجاح وتقدم عملية الحوار الوطني، ولعل ملفي التواصل مع المقيمين بالخارج من أصحاب الخبرات والكفاءات والرؤى، وإعادة النظر بشكل واسع وجاد في ملف المنع من السفر، بالإضافة إلى ملف الإفراج عن سجناء الرأي الذي لا يزال يحتاج تقدما أوسع وأكبر، هي بعض من الملفات التي تمثل التهيئة السياسية وتوفير الأجواء المطلوبة للمرحلة المقبلة.