في مقالنا السابق وعدتُ بمواصلة الحديث عما أسميتُه بجمهورية “الدمج بين الثورات والفصل بين السلطات”، ونحن ما نزال في قلب الحديث عن الجديد في الجمهورية الجديدة نعيد التأكيد على أن بناء مدن جديدة، أو تأثيث عاصمة حديثة، لا يؤسس لجمهورية جديدة، ولا كل هذه القائمة الطويلة من الإنجازات التي تمت على مدار السنوات القليلة الماضية يمكن أن تكون هي التأسيس الحقيقي لجمهوريتنا التي نتطلع إليها.

ما يؤسس لجمهورية جديدة على الحقيقة يبدأ بما أسميناه دسترة نظام الحكم، ويتضمن تهيئة البيئة القانونية لتسييد حكم القانون، وتفكيك منظومة الفساد، وتأسيس بيئة قانونية حاضنة لتوسيع وتعميق المشاركة الشعبية في صناعة القرار الوطني، ولا ينتهي إلا بتفكيك الدمج بين السلطات.

دسترة نظام الحكم هدفها الرئيسي هو إخراج مصر من جعبة الحاكم، وإنزال الرئيس من موقع القائد الملهم، والزعيم التاريخي، والفيلسوف العارف بكل شيء، المطلع على كل صغيرة وكبيرة، إلى موقع الموظف الأعلى رتبة في سلم الموظفين بالدولة، يؤدي دورًا يرسم الدستور حدوده، تقيده القوانين، يمارس وظيفته لمدة محددة سلفا، ويمضي بعد انتهائها، وتراقب أعماله وقراراته السلطتان التشريعية والقضائية.

وهذا هو جوهر ما نسميه بفك الدمج بين السلطات الثلاث: التشريعية والقضائية والتنفيذية.

**

قصة دمج السلطات بدأت قبل إلغاء النظام الملكي وإعلان الجمهورية في 18 يونيو سنة 1953، مبكرًا جدًا، وفي أول الدساتير المؤقتة لثورة يوليو في 10 فبراير سنة 1953 تبنى مجلس قيادة الثورة واحدًا من أخطر المبادئ في تنظيم الدولة، “مبدأ دمج السلطات”، فنصَّ الإعلان الدستوري على أن: (يتولى قائد الثورة أعمال السيادة العليا، وله حق تعيين الوزراء وعزلهم، ويتولى مجلس الوزراء السلطة التشريعية، ويتولى مجلس الوزراء والوزراء كل فيما يخصه أعمال السلطة التنفيذية).

حوالي خمسة وعشرين كلمة وضعت بذرة الدمج ومنحت السلطة التنفيذية أعمال السيادة في يدٍ، وفي اليد الأخرى فوضتها بالإمساك بسلطة التشريع، استمر هذا المبدأ الدستوري الأول على هذا المنوال، وانتقل إلى كل الدساتير حتى يومنا هذا، وإن تعدلت صور وصيغ وطرق تحقيق مبدأ الدمج بين أعمال السيادة والسلطتين التشريعية والتنفيذية في قبضة رأس السلطة التنفيذية، وليس من شكٍ في أن النتيجة الطبيعية لهذا الدمج بين التشريع والتنفيذ لا يترك مجالًا لأن يمارس القضاء استقلاله حتى بدون تدخلات حكومية فيه، فما بالك ومثل هذه التدخلات لم تتوقف يومًا واحدًا.

كان ذلك طبيعيًا في البداية، وربما كان مستساغًا ومبررًا في فترة تثبت الحكم الجديد، لكن استمراره كنهج ثابت لجمهورية ما بعد يوليو حتى اليوم، هو بحساب التاريخ كان خطأ كبيرًا شارك فيه فقهاء قانونيين ودستوريين، واستمرأه الحكام، والأخطر أن عملية الدمج جرت لحساب الجهاز التنفيذي للدولة، الأمر الذي جعل جهاز الإدارة هو المؤسسة الوحيدة المنوط بها صلاحيات رسم السياسة، وتقريرها، وتنفيذها، بدون رقابة حقيقية، وفي النتيجة النهائية تحول العمل السياسي إلى عمل إداري على الحقيقة.

**

أضعفت حالة دمج السلطات دور الرقابة الفعالة على أعمال الحكومة والإدارة، في ظل التحكم في المجلس التشريعي من ناحية، وإحكام القبضة على التنظيمات الشعبية من ناحية أخرى، وتجريم وتحريم قيامها واعتبارها مناهضة للدولة وعدوانًا على أمنها واستقرارها من ناحية ثالثة.

كانت الحياة السياسية هي ضحية هذا الدمج الذي قوى السلطة التنفيذية في مواجهة أي معارضة، فظلت الحياة السياسية هامشًا على متن السلطة، كانت تموت أحيانًا بالسكتة الأمنية، أو تنتظم في الخط المرسوم تحت السطوة الأمنية.

حاولت جمهورية يوليو أن تؤسس تنظيمها السياسي، ولست أنكر أن هناك إيجابيات كثيرة للتنظيم السياسي للثورة التي استقرت في النهاية على صيغته بعد تجارب تنظيمية فاشلة بدءًا من جبهة التحرير ومرورًا بالاتحاد القومي، وأخيرًا الاتحاد الاشتراكي الذي ظل التنظيم السياسي الوحيد من أول الستينيات إلى منتصف السبعينيات من القرن الماضي.

ولكن لا يمكن إنكار أن كل هذه الإيجابيات ضاعت وضعف تأثيرها وأثرها تحت وقع لعنة نشأته في ظلال السلطة، وتحت سلطة النظام الحاكم، وتحول في النهاية إلى تنظيم سياسي تابع لأصحاب السلطة أيًا كانوا، حتى لو تباينت سياساتهم وتحولت بوصلتهم الوطنية.

يكفي أن نتذكر هرولة بقايا الاتحاد الاشتراكي التي انضمت إلى حزب السلطة تحت عنوان حزب مصر العربي الاشتراكي الذي كان يرأسه رئيس الوزراء وقتها ممدوح سالم الذي بقي في الحزب وحده ومعه اثنان فقط، بينما سارع كل من فيه إلى الانضمام إلى حزب الرئيس أنور السادات تحت اسم الحزب الوطني الديمقراطي، ذلك أنهم تعلموا ـ بحكم التجارب وتتابع الممارسة ـ أن السلطة الحقيقية هناك في داخل القصر الجمهوري، والْكُلُّ دونه بَاطِلٌ وَقَبْضُ الرِّيح.

**

في أكتوبر سنة 1970 استطاعت قيادة الاتحاد الاشتراكي (التنظيم الحاكم، وهو التنظيم السياسي الوحيد في نفس الوقت) أن تفرض ترشيح أنور السادات خلفًا للرئيس جمال عبد الناصر، وتبنت قيادة الاتحاد الاشتراكي هذا الترشيح، الذي تحمس له كلٌ من شعراوي جمعه وسامي شرف.

الأول هو عضو اللجنة التنفيذية العليا بالاتحاد الاشتراكي، وأمين تنظيم طليعة الاشتراكيين التنظيم السري الذي يتحكم في قرارات التنظيم السياسي، وفي نفس الوقت كان هو المسئول الأول عن الأمن بموقعه نائبًا لرئيس الوزراء ووزيرًا للداخلية.

وكان الثاني وزيرًا لشؤون رئاسة الجمهورية، مدير مكتب الرئيس للمعلومات، والمسئول عن كل ورقة تدخل إلى الرئيس أو تخرج من عنده، وكان مسئولًا بارزًا في التنظيم الطليعي، وقائدًا لواحد من أهم قطاعات التنظيم السياسي والطليعي في شرق العاصمة.

كانت عملية فرض ترشيح السادات مثالًا صارخًا عن مخرجات عملية الدمج بين السلطات، وقد قادا معًا (شعراوي وشرف) وبالتشاور فيما بينهما وبين آخرين في قيادة التنظيم السياسي فكرة تثبيت اسم السادات في بورصة المرشحين لخلافة عبد الناصر، وعملا بدأبٍ على إزاحة جميع الأسماء التي زاحمت هذا الترشيح، وبذلا جهودًا جبارة بالتعاون مع قيادات اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي في إقناع قيادات التنظيم الطليعي ومنظمة الشباب بهذا الترشيح الذي لم يكن يلقى ترحيبًا في أوساط التنظيم السياسي خاصة في صفوف قياداته الوسيطة.

**

بعد أقل من سبعة أشهر، وفي مايو سنة 1971، تيقنت تلك القيادات السياسية الأمنية التي فرضت السادات رئيسًا للبلاد من نيته على التخلص منهم، والإطاحة برؤوسهم، وكل من معهم من أعضاء اللجنة التنفيذية العليا، والانفراد بالحكم من دون شركاء متشاكسين، وهكذا كانوا هم أول الضحايا، وقضى بعض رفاقهم عشر سنوات كاملة في السجن على ذنبٍ لم يجرؤوا على اقترافه.

الغريب أنهم -وبحكم طبيعة تكوينهم الأمني واللاسياسي- لم يفكروا في اللجوء إلى التنظيم السياسي الذي يسيطرون عليه، ويملكون قراره من مواقعهم السياسية والتنفيذية، وحين بدأوا في التفكير في ذلك الإجراء كان الوقت قد فاتهم، ودارت عقارب الساعة إلى نهايتهم، ودفعوا ثمنًا باهظًا بسبب النظرة التي نشأوا عليها إلى فكرة ومضمون العمل السياسي وأساس تشكيل التنظيم السياسي الذي اعتبروه طول الوقت جهازًا تنفيذيًا يقر ما يقررونه.

لم يكن التنظيم السياسي هو وعاء صناعة السياسات، بل حولوه إلى أداة تنفيذ القرارات، وحين احتاجوا إليه انحازت أكثرية التنظيم السياسي إلى صاحب القرار الأول بعد عزلهم والتخلص منهم، وصار التنظيم السياسي الوحيد في قبضة رجل لم يكن محل ترحيب من أغلبية قياداته، فأعاد تشكيله على مقاسه، وظل محتفظًا به حتى انتهت الحاجة إليه، ولجأ -على سبيل التجديد- إلى فكرة السماح بتشكل حياة حزبية منضبطة في الإطار الأمني والإداري في ظل استمرار فكرة دمج السلطات كلها في قبضته.

**

أول العناصر المشتركة بين عهود جمهورية ما بعد يوليو 1952 (رغم تباين التوجهات والسياسات والانحيازات بين عهد الرئيس عبد الناصر وعهود من خلفوه على رأس الجمهورية)، يتمثل في بنية تنظيم الدولة التي تقوم على فكرة دمج السلطات.

أخطر ما أسفر عنه هذا الدمج أنه وضع الأمن فوق السياسية، وجعل النظرة الأمنية حاكمة وسائدة، وخلق نخبًا سياسية تتوزع بين نخب تابعة وأخرى مستبعدة أو منزوية، ووضع الدولة كلها في قبضة الحاكم، يتحكم فيها كيف يشاء بدون حساب ولا رقابة، حتى وصل الأمر إلى أن يفكر أحدهم في توريث الرئاسة لنجله الصغير.

ربما كان هذا التوجه إلى التوريث، إلى جانب غيره من الأسباب التي فجرت الثورة الشعبية ضده وضد نظامه، وكانت جمهورية ما بعد يوليو قد شاخت وتداعت، وجاء مشهد يناير/ فبراير 2011 تعبيرًا جماهيريًا صارخًا عن وصول الجمهورية إلى محطتها الأخيرة قبل الشروع في تكفينها ودفنها.

كانت اللحظة مهيأة للدخول إلى الجمهورية الجديدة، لكن السفن تاهت عن أشرعتها، وسارت الثورة في مسارب مختلفة، واختطفت إلى مسارات خطرة، ومرة أخرى يهب الشعب ليعيد الأمور إلى نصابها، واستطاعت قيادة الجيش بعد ما جرى في يونيو/ يوليو 2013 أن تعيد الحياة إلى الجمهورية المتداعية التي كانت قد أوشكت على السقوط في 2011.

**

اليوم ونحن نتحدث عن جمهورية جديدة ننظر إلى ما بقي من جمهورية ما بعد يوليو فنجده محصورًا في أهداف الثورة التي قامت من أجلها، واستطاعت تحقيق الكثير من الإنجازات على لائحة تلك الأهداف، وأخفقت في تحقيق الكثير من المهمات التي وعدت بها أو تطلعت إليها، الأهم أنها تركت وراءها أهم إضافة في مسيرة الكفاح الوطني تتمثل في خبرة عدم إمكانية الفصل بين تحقيق الاستقلال الوطني وترسيخ العدل الاجتماعي عبر التنمية المستقلة.

كانت جمهورية يوليو قد توصلت عبر تجربة طويلة ومريرة إلى أن استقلال القرار الوطني لا يمكن أن يكون علمًا يُرفع في المناسبات، ونشيدًا يُصدح به في الأعياد الوطنية، وتعلمت بالممارسة أن التنمية الشاملة هي الوجه الآخر للاستقلال، وأن القرار الوطني منقوص، طالما قصرنا في تنمية قدراتنا الذاتية، وتعلمت بالدم أن أمن مصر الوطني لا يمكن أن ينفصل بأي حالٍ عن أمنها القومي في محيطها العربي.

درس ثورة يوليو الذي تركته للأجيال القادمة وسجلته صفحات التاريخ أن الديمقراطية هي الحلقة الأضعف في التجربة، وقد نفذت القوى المضادة للثورة من خلال ضعف تلك الحلقة لتنقض عليها، وتنقلب على كل منجزاتها وأفكارها، وانحيازاها وسياساتها، وأثبتت التجربة في محصلتها النهائية أنه لم يكن صحيحًا الفصل بين الاستقلال الوطني والعدل الاجتماعي من ناحية، وبين حرية المواطنين وديمقراطية النظام السياسي من ناحية أخرى.

**

ونحن ما نزال نعيش ارتدادات زلزال يناير/ فبراير 2011، وما زلنا نواكب نتائج ما جرى بعد يونيو/ يوليو 2013، ويظل أروع ما تبقي من تلك المرحلة هو روحها التي ما تزال تنبض، رغم الهجمات المتوالية عليها وعلى كل رموزها والتضييق على شبابها، وسجن الكثيرين منهم، واضطرار آخرين إلى الانعزال عما يجري في المجتمع بعد ما شهدوه من أشرس عملية لتجريم ثورة هي الأنبل بين كل الثورات.

ولكن أهم ما خلفته وراءها ثورة يناير بموجتيها (في يناير وفي يونيو) يتمثل فيما أضافته من أهداف جديدة على مسيرة النضال الوطني من إعادة التأكيد على العدالة الاجتماعية، وإعلاء شأن الحرية وتكريس مبدأ الديمقراطية، وتعزيز فكرة الكرامة الوطنية والإنسانية لكل المواطنين.

**

أقول إن الجمهورية الجديدة هي: جمهورية الدمج بين الثورات والفصل بين السلطات.

هي جمهورية الصناعة الرئيسية فيها تقوم على التكامل بين أهداف الثورات المصرية (1919، 1952، 2011 ،2013) على قاعدة حاصل جمع أهداف وانجازات كل الثورات يساوي نقطة جديدة متقدمة على مسار التاريخ المصري.

لقد وصلت تجربة النضال الوطني إلى ثوابت لم يعد مقبولًا تجاوزها، أو القفز فوقها، أو التغاضي عنها، تتمثل في الربط بين الاستقلال والدستور، والتحديث والعدالة الاجتماعية، والحرية والديمقراطية، والمساواة وعدم التمييز، وباتت هذه الأهداف مجتمعة هي الأرضية لصياغة رؤيتنا لدولة دستورية مدنية عصرية، دولة العدالة والمساواة وكرامة كل المواطنين.

الجمهورية الجديدة التي نتطلع إليها هي دولة مدنية أولًا، ودولة كل المواطنين ثانيًا، ودولة العدالة الاجتماعية ثالثًا، ودولة حديثة مؤسسة على الديمقراطية واحترام وتقديس حقوق الانسان وحرياته أولًا واخيرًا.

**

حتى نتمكن من فتح صفحة الجمهورية الجديدة نحن بحاجة إلى غلق صفحة الدولة المركزية القديمة، دولة الدمج بين السلطات التي تتمحور حول رأس يكون له الحل والعقد، لندخل جميعًا (السلطة والمواطنون) في رحاب دولة عصرية تقوم على التعدد والصندوق، تُشرك المواطنين بأوسع درجات المشاركة في صناعة القرار الوطني.

الجمهورية الجديدة هي دولة تفعيل الدستور وتسييد القانون والقضاء المستقل والإعلام الحر المسئول، دولة تداول السلطة، والانتخابات الحرة النزيهة، والقائمة النسبية، دولة حقوق الإنسان وحرياته، دولة المؤسسات لا دولة الفرد الواحد المتوحد مع الكرسي لا يغادره إلا بالموت أو بالثورة عليه.

الإصلاح يبدأ من هنا، وشرعية النظام السياسي تتأسس على هذه المقومات التي طال الشوق إلى وجودها، نحن أمام لحظة تاريخية يمكن أن نجعلها فارقة ونقطة بداية لمشوار طويل نغادر منها الجمهورية السلطوية المحتكرة للقرار والثروات إلى جمهورية كل المواطنين.

بدون ذلك فلن تكون جمهورية، ولا جديدة.