نشرت دار الإفتاء المصرية منذ أيام على حسابها بموقع تويتر التغريدة التالية التي أنقلها للقارئ الكريم نَصًا: “إيداع الأموال في البنوك وأخذ فوائد منها جائز شرعًا ولا إثم فيه، وليس من الربا في شيء، بل هو من العقود المستحدثة التي تتَّفق مع المقاصد الشرعية للمعاملات في الفقه الإسلامي وتشتدُّ حاجة الناس إليها، وتتوقَّف عليها مصالحهم، والأرباح التي يدفعها البنك للعميل هي عبارةٌ عن تحصيل ثمرة استثمار البنك لأموال المودعين وتنميتها، ومِن ثَمَّ فليست هذه الأرباح حرامًا؛ لأنها ليست فوائد قروض ولا منافع تجُرُّها عقود تبرعات، وإنما هي عبارة عن أرباح تمويلية ناتجة عن عقود تحقق مصالح أطرافها.”* وعلى الرغم من قناعتي الشخصية بأن أصحاب الاختصاص الفني هم مَناط الرأي في هذه الأمور شريطة أن تنطبق عليهم معايير النزاهة والخبرة والتميز العلمي والفهم العميق للقيم الإنسانية العامة التي تتصل بالعدالة والإنصاف والمساواة بكل حيادٍ وبلا تمييز، إلا أنني لم أستطع أن أُخفى ترحيبي بما ورد في هذه التغريدة من رأي ثوري بِحَق، سواء في موضوعه الشائك أو في طريقة عرضه المُباشِرَة التي لا تحتمل التأويل الذي يجعل ثراء العربية الفصحى منه أمرًا ليس بالسهل أبدًا.

وأنا هنا لست في مقامِ مَديحِ ما ذهبت إليه دار الإفتاء من رأيٍ، فغرضي من هذا المقال هو تسليط الضوء على مسألة أراها على درجة من الأهمية تستوجب النظر فالتأمل والتحليل بغرض استنباط النتائج للتنبؤ بما يدخره المستقبل. إنها الأيديولوجية الشعبية ومدى تطورها وتأثير ذلك التطور في مناهج التفكير العقلانية.

“من نافلة القول أن الأيديولوجية اليومية الراقدة في لا وعى الغالبية الساحقة من العرب هي “الإسلام” في صوره الشعبية البسيطة والبعيدة عن كل تعقيد فقهي مارسته المذاهب والعلماء على مر العصور. وليس في ذلك أي وجه اختلاف عن الوضع في الغرب، فالشعوب الأوروبية والأمريكية “مؤمنة” هي الأخرى، على طريقتها، وعلى نحو بعيد كل البعد عن تعقيدات الأساقفة وعلماء اللاهوت. فالإيمان الغيبي البسيط إذن هو “الإيديولوجية الشعبية” في كل زمان وفي كل مكان على الكرة الأرضية. وكما أن النشأة الأولى لأي فكرة دينية كانت “ثورة” على نحو ما، كذلك عرفت المسيرة الدينية لمختلف الشعوب مراحل من الانتكاس والازدهار، اكتسبتها مما هو أعمق من القشرة الخارجية للطقوس والعبادات. ثورة الزنج الإسلامية تقترب في الكثير من ثورة سبارتاكوس المسيحية. انهيار الخلافة الإسلامية يقترب في الكثير من انهيار الإمبراطورية الرومانية. الإصلاح الديني على أيدي الكواكبي ومحمد عبده يشبه في الكثير الإصلاح الديني على أيدي لوثر وكالفن. الغطاء الطائفي لحرب لبنان لا يقل شراسة عن الغطاء الطائفي لحرب إيرلندا. وهكذا…فالإيمان ليس امتيازًا عربيًا، والإسلام ليس احتكارًا لله”، هكذا تحدث المرحوم الدكتور غالي شكري**.

كان الدكتور “غالي شكري” يرى أن التطور الاجتماعي الشامل يتأثر بمصادر أخرى ليس للأيديولوجية الشعبية أثر فيها فالكونفوشيوسية -مثلًا- لم تمنع قيام الاشتراكية في الصين ولم تمنع في نفس الوقت انسلاخ تايوان عنها وانتهاجها مسارًا ليبراليًا، إلا أن الموضوع لدينا كان قد اتخذ مسارًا مختلفًا تطورت بموجبه الأيديولوجية الشعبية بعد كارثة 1967 حين انهزم نموذج الدولة القومية، لتحتل مكانًا أكثر تأثيرًا باستخدام خطاب ميتافيزيقي -بدأ حَذِرًا وعلى استحياء- لتبرير و/أو لتفسير الهزيمة، ثم ما لبث هذا الخطاب إلا وقد سيطر شيئًا فشيئًا على العقل العربي في سياق متغيرات دولية وإقليمية شديدة التعقيد لتتماهى الإيديولوجية الشعبية مع التركيب المجتمعي ولتصبح تلك الأيديولوجية هي المرجعية العُليا والمصدر الوحيد لترجيح أي نتائج حتى وإن تناقضت (النتائج) مع مخرجات البحث العلمي الحديث للدرجة التي وصلنا فيها الآن لا إلى مجرد مناقشة مسائل أقرها العلم منذ قرون بل تحولت المسألة للبحث بإلحاح فيما إذا كان لهذا الإقرار الملموس تأكيدٌ في تلك الأيديولوجية كموضوع كروية الأرض على سبيل المثال.

على نفس المَوْجةِ كان الشأن الاقتصادي حاضرًا بِقوة ليتمظهر في السؤال الذى طرح نفسه في سبعينات القرن الماضي وكأننا اكتشفنا حاجتنا للإجابة عليه فجأة بعدما قطع العَالم -وقطعنا معه- أشواطًا طويلة من البحث والإبداع “هل فوائد البنوك حلال أم حرام؟”. ولما كان التشدد سائدًا مع تراجع البحث العلمي وازدياد الرغبة في إيجاد إجابات تراثية لا علاقة لها بواقعٍ مختلف في ظروفه وأدواته، فقد رأى أغلب الناس أنه من الأسلَم والأحوَط والأكثر طَمأَنَة أن تكون الإجابة هي أنه ليس حلالًا، ليجد مروجو هذا السؤال أنفسهم مُضطرون لتقديم البديل، فقاموا بتسمية نفس المنتجات التي يرفضون طبيعتها بمسميات مُقحَمَة لا أصل لها في التراث الذي منه ينهلون وهو منها براء. ولما كان الارتكان إلى الحلول الجاهزة مسبقًا هو السائد، فقد لاقى طرح دار الإفتاء بتغريدتها التي أشرت إليها أعلاه بشأن فوائد البنوك من قِبَل الأيديولوجية الشعبية المتطورة سلبًا (ليس شرطًا أن يكون التطور إيجابًا أو إلى الأمام دومًا، لكنه من الوارد أن يكون سلبًا أو بالرجوع للوراء) هجومًا حادًا -يمكن ملاحظته بسهولة عند استعراض التعليقات على هذه التغريدة- يشابه ما لاقاه المرحوم الدكتور “محمد سيد طنطاوي” عندما قدم اجتهادًا مثيلًا في نهايات القرن الماضي*** تراجع بموجبه عن فتوى سابقة له بتحريم فوائد البنوك ليواجَه بحملات تشويه شرسة كانت مدفوعة بردود أفعال البعض من مواقفه التي لا علاقة لها باجتهاداته ولا بالأسس العلمية التي استند إليها في فتاواه. اللافت المشترك في الهجوم على المرحوم الشيخ سيد طنطاوي وعلى تغريدة دار الإفتاء هو أن الأيديولوجيا الشعبية المتطورة سلبًا لم تعد فقط تُشَكِل عائقًا ناقِدًا لأي تطوير ينتهي إليه البحث العلمي، بل صارت -مع شديد الأسف- تُنتِج من داخِلها باحثين يضعون حواجزها نصب أعينهم كحائط صدٍ ذاتي لينتهي الأمر بنتائج لا تمت لهذا العالم بأي صلة فتضحى تجارب الماضي المُختلف في سياقاته وظروفه هي أساس حلول معضلات الحاضر وتحديات المستقبل.


*https://twitter.com/EgyptDarAlIfta/status/1553846299774095360?t=iB3b2KbTga0_FH7pkkTmaQ&s=03

**راجع كتاب “ديكتاتورية التخلف العربي-الهيئة المصرية العامة للكتاب- طبعة 1994”

***راجع كتاب “معاملات البنوك وأحكامها الشرعية”- الهيئة المصرية العامة للكتاب- طبعة 1998″