على مدار ما يزيد عن عقدين، اتسمت تحركات الزعيم الشيعي العراقي “مقتدى الصدر” بقدر كبير من الغموض والبرجماتية (النفعية)، تحكمها السياقات والتوازنات السياسية الفاعلة في المشهد العراقي. إذ نجح في استقطاب قاعدة جماهيرية عريضة بخطاب قوامه الشعبوية والطائفية، ثم انتقل إلى ما يشبه الخطاب الوطني متجاوزًا المذهب والطائفة إلى حد قد يكون ملموسا، دون أن يؤثر ذلك على هوية جمهوره الذي ظل في معظمه من الشيعة. ومن هنا، انتهج تكتيكات جديدة، وأقام تحالفات تحالفات عبرت به إلى الحصول على كتلة برلمانية في الانتخابات النيابية الأخيرة قوامها 73 مقعدًا في البرلمان العراقي خلال انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2021. وإن لم يستطع تشكيل الحكومة بسبب أزمة الثلث المعطل. والذي يعني أن استكمال شغل الهياكل السياسية الأساسية مثل اختيار رئيس الجمهورية يتطلب حضور وانتخاب ثلثي أعضاء البرلمان له. وهو الأمر الذي دفع الصدر لسحب كتلته من البرلمان والاستقالة منه. حيث حل خصومه داخل الطائفة الشيعية “الإطار التنسيقي” محل نوابه المستقلين ما كان من الممكن أن يفتح المجال أمامهم مع عقد تحالفات لاختيار رئيس الجمهورية وتشكيل حكومة. ومن هنا لجأ الصدر وأنصاره لاحتلال البرلمان لتعطيل أية جلسات محتملة تجري فيها الاستحقاقات الدستورية والسياسية المطلوبة. فمقابل الثلث البرلماني المعطل الذي لجأ اليه خصومه من الشيعة -الإطار التنسيقي- استعان الصدر بما بات يسمى في العراق “الشارع المعطل”.
مقتدى الصدر.. كيف بدأ؟
بدأ الصدر بناء حركته السياسية مرتكزًا على الولاء الطائفي، في خطابه الجماهيري، ونقد الساسات الدولية المزدوجة المعايير كبرنامج أيديولوجي.
وحركيًا، بدأ في فتح مكاتب باسم والده (المعروفة باسم مكتب الشهيد الصدر) في مدن بغداد والنجف وكربلاء والبصرة. واجتذب الملايين من الشيعة فى جميع أنحاء العراق، خاصة الشباب والفقراء والمضطهدين.
اعتمد الصدر خطابًا مدروسًا، وحركة منظمة سياسيًا، صنعت جانبًا من شخصية، تتسق مع خطابه حول الفقراء. حيث قدم مكتب الصدر الخدمات الاجتماعية والتعليمية والصحية.
بنى الصدر تاريخه السياسي عبر تكتيكات متغيرة، بينما الاستراتيجية كانت ثابتة. فحاز أكبر قدر من القوة السياسية عبر الحضور في الساحة العراقية، سواء في السياسة بشكلها الرسمي -انتخابات البرلمان واختيار الحكومات- أو عبر الحركات السياسة النشطة في حراك جماهيري متصل بأزمات العراق ما بعد الاحتلال الأمريكي وحتى الانتخابات الأخيرة، غير انخراطه في العمل العسكري ضد القوات الأمريكية؛ حين أسس جيش المهدي.
النهج العسكري والشعبوية والطائفية
شكل الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 فرصة كبيرة أمام الصدر، الذي تبنّى نهجًا يرتكز على تعزيز استقلال العراق. أعلن في يونيو/حزيران 2003، تأسيس “جيش المهدي” لمواجهة الغزو الأمريكي، في معارك طويلة في الكوت والنجف (وسط وجنوب وسط العراق)، حتى عقد هدنة مع الأمريكيين في عام 2007. وهي الخطوة التي تسببت في انشقاقات داخل كتلة الصدر، وعلى إثرها اتخذ قرارًا بحل جيش المهدي في أغسطس/ آب 2008.
كان للشيعة في العراق دور بارز في تشكيل أول حكومة منتخبة بعد احتلال العراق. ذلك بعدما أسس رئيس المجلس الإسلامي الأعلى “عبد العزيز الحكيم” الائتلاف العراقي الشيعي الموحد؛ للمشاركة في الانتخابات العامة في 2005، بدعم من المرجع الشيعي العراقي “علي السيستاني”.
وقتها ضم الائتلاف: (المجلس الإسلامي الأعلى، منظمة بدر، التيار الصدري، حزب الفضيلة، حزب الدعوة-القيادة المركزية، حزب الدعوة-تنظيم العراق). وحصل هذا التحالف على 128 مقعدًا من أصل 275 مقعدًا في برلمان العراقي، منها 32 مقعدًا لصالح التيار الصدري، الذي حافظ على وجوده في الائتلاف حتى انتخابات عام 2007. إلا أنه نتيجة للخلافات مع حكومة نوري المالكي، قررت كتلة الصدر الانسحاب من الحكومة.
الصدر.. من الطائفية للقومية
شكلت عودة الصدر من إيران في عام 2011 حيث كان يدرس في معاهد على أصول المذهب الشيعي، نقطة تحول جديدة في مساره السياسي. إذ انخرط أتباعه في الاحتجاجات الشعبية ضد الحكومة، والتي اندلعت ضمن سياقات الثورات العربية التي فرضت نفسها على المنطقة. حينها تغيرت ملامح خطاب مقتدي الصدر نفسه، فألقى باللوم على الطائفية (مكونات العراق الأساسية هم الشيعة والسنة والكرد)، واعتبرها ضمن أسباب تفشي الفساد والخلل الوظيفي في البناء السياسي العراقي، واتجه نحو التركيز على الوطنية أو القومية العراقية. وقد مكنه هذا الخطاب الجديد من كسب أرضية شعبية أوسع، مهدت لخطوة لاحقة من التحالف مع قوى يسارية وعلمانية.
وفي إبريل/نيسان 2016، دعا الصدر أنصاره إلى إطلاق مظاهرات حاشدة جنبًا إلى جنب مع أنصار الحزب الشيوعي العراقي. ذلك لمطالبة أعضاء البرلمان بدعم خطة رئيس الوزراء -آنذاك- حيدر العبادي؛ لمحاربة الفساد وتعيين التكنوقراط في المناصب الحكومية بدلًا من الاستمرار في إجراء التعيينات على أساس المحاصصة السياسية والطائفية.
ثم انضم الصدر فعليًا إلى جانب الحزب الشيوعي في تحالف “سائرون” لخوض الانتخابات التشريعية في 2018، وفاز الائتلاف بـ 54 مقعدًا. وفي تلك الأثناء، رفع الصدر شعار الدولة الوطنية، واستقلالية القرار العراقي.
ومع تنامي الرفض العراقي للتدخلات الإيرانية، انضم الصدر لمتظاهري انتفاضة تشرين 2019، التي طالبت بإسقاط الطائفية، وخروج إيران وعزل الطبقة السياسية الفاسدة. كما أعلن حمايته للمتظاهرين من ميليشيات إيران.
الصدر.. برجماتية تخدم مقتضى الحال
وقد نجح تحالف “إنقاذ وطن” الذي يقوده الصدر، بمشاركة الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بازاني، والتحالف السني الذي يتزعمه رئيس البرلمان محمد الحلبوسي، في تحقيق أكبر كتلة برلمانية للتيار الصدري، بحصة 73 مقعدًا في انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2021. ولكن الصدر عجز عن تشكيل حكومة تستبعد خصومه في الإطار التنسيقي الشيعي. لذلك دعا أعضاء التحالف إلى الاستقالة من البرلمان في يونيو/حزيران 2022. ما أفسح المجال للإطار التنسيقي الذي رشح “محمد شياع السوداني” رئيسًا للحكومة. وهو ما رد عليه الصدر بدفع أتباعه إلى الشارع رفضًا لتعيين السوداني، مطالبين بحل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة.
السلطة من وراء القصد
إن المسيرة السياسية لمقتدى الصدر تبرز حرصه على البقاء في السلطة. إذ لم تكن خطواته وتحالفاته التي تعددت باختلاف المزاج السياسي السائد سوى أدوات الغرض منها توسيع النفوذ والتأثير. فلقد غير مضامين خطابه بمقتضى الحال، وعدل تحالفاته بما يخدم المصلحة. وهذا أمر يظهر جليًا في شخصيته كرجل لا يملك القدرة على المناورة السياسية وحسب، ولكنه أيضًا يملك ملكة إعادة النظر في توجهاته وما تتطلبه كل مرحلة، في مزاوجة واضحة ما بين الوطني والشخصي تفاعلًا مع أزمات العراق، التي يرى أن الوصول إلى تسوية فيها يقتضى تفاعل وتعاون أطراف الصراع السياسي حول حد أدنى يكفل له البقاء بصدراة المشهد في رمزية غير مقصودة تشي بأن الرجل له من اسمه نصيب، ويبدو أنه نصيب كبير.
ووسط ذلك كله، من المحتمل أن يكون موقف الصدر الأخير باقتراح إجراء انتخابات مبكرة مناورة جديدة من جانبه للاستفادة من الوقت. ومن ثم تحقيق بعض المكاسب السياسية، أو يعود لموائمة ما مع حلفاء إيران الاقرب من الإطار التنسيقي، فيما يخص تقسيم السلطة في العراق. فلا شيء مستغرب من رجل المسارات المتقلبة المتغيرة، والسعي الثابت والدائم للسلطة. وبين الثبات والتحول قد تقبع مصالح العراق الحقيقية التي يزعم الجميع من الموالين والخصوم ومن بين هؤلاء وهؤلاء حرصهم عليها. الفترات المقبلة قد تثبت الحجة وتقيم الدليل.