تقول الحكمة المصرية المتداولة «إذا أردت أن تُفشل قضية أو تعطل أمرا ما فشكل له لجنة، وإذا أردت له أن يدخل في طي النسيان فشكل من اللجنة الرئيسية لجان فرعية لتنبثق عنها لجان ثانوية.. وهكذا حتى يموت تماما ويغرق مع الوقت في متاهة اللجان».

تحتفظ الذاكرة المصرية بميراث سيء مع فكرة اللجان التي تتشكل لبحث أو دراسة أزمة أو قضية محل اهتمام الرأي العام، فما أن يتبادر إلى مسامع المصريين أن هذه الأزمة أو ذاك الأمر تم تشكيل لجان لبحثه، حتى يقر في ضميرهم أن صاحب القرار أيا كان صفته أو موقعه أصدر حكما مسبقا واجب النفاذ بتفريغ الأمر من مضمونه ودفع به إلى متوالية اللجان.

عندما دعا الرئيس عبد الفتاح السيسي كافة القوى السياسية إلى المشاركة في «حوار سياسي حول أولويات العمل الوطني»، كانت رسالته واضحة فالدولة التي عانت لسنوات من تغييب السياسة وحجبت عن فضائها العام كل صوت مخالف أو ناقد، أدركت أنه حان الوقت لإعادة إحياء السياسة، لاسيما أنها أنجزت أو اقتربت من إنجاز ما كانت ترى أنه أهم وأولى، وبالتالي فهي في حاجة إلى توسيع المجال العام بما يسمح بتداول وطرح أفكار وتوجهات أخرى تساعد في وضع أسس «الجمهورية الجديدة» التي تبشر بها.

خلال حفل إفطار الأسرة المصرية الذي حضره عددا من رموز المعارضة المصرية في شهر رمضان الماضي، ألمح الرئيس إلى أن بعض الدوائر تحدثت معه في قضية «الإصلاح السياسي»، مؤكدا أنه كان حريصا على المضي قدما في هذا المسار «أولويات الدولة كانت بتأجل الموضوع شوية»، لكن الوقت قد حان لإتاحة النقاش والحوار لكل القوى «بدون استثناء أو تمييز»، بحسب تعبيره.

لم يطلق الرئيس إذن، دعوة إلى حوار مجتمعي حول قضايا هي من صميم عمل الحكومات والبرلمانات أو المجالس المتخصصة، فالدعوة كانت لـ«حوار سياسي»، بحسب ما تحدث في إفطار الأسرة المصرية أو خلال لقائه بعدد من الإعلاميين والصحفيين قبلها بأيام في أسوان، فما تحتاجه اللبلد في هذه المرحلة حوار ينهي حالة الاحتقان بين القائمين على العمل العام من سلطة ومعارضة، ويضع أجندة واضحة للإجراءات والتعديلات التشريعية اللازمة لفتح شرايين الواقع السياسي المسدودة.

الأزمات المتلاحقة التي توالت على البلاد خلال السنوات القليلة الماضية جعلت من الشروع في عملية تحول ديمقراطي حقيقية فريضة غابت بفعل فاعل رغم الإلزام الدستوري والإرادة الشعبية التي عبر عنها ملايين المواطنين الذين نزلوا إلى الشوراع في 25 يناير 2011 ثم في 30 يونيو 2013 للمطالبة بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.

بناء على الدعوة الرئاسية عُقدت جلسات واجتماعات تحضيرية بين ممثلي القوى السياسية ودوائر صنع القرار المعنية، وتم التوافق على تشكيل هيئة أو مجلس مستقل لإدراة الحوار وتحديد محاوره والمشاركين فيه، وبعد حوارات عديدة تم تشكيل «مجلس أمناء الحوار الوطني»، واتفق أعضائه بعد 3 اجتماعات على حصر المناقشات في الحوار على 3 محاور «السياسي، والاقتصادي، والمجتمعي».

وتحت كل محور من تلك المحاور اتفق مجلس الأمناء على تشكيل عدد من اللجان، تناقش كل منها قضية بعينها:

* المحور السياسي ويتبعه لجان:

  1. مباشرة الحقوق السياسية والتمثيل النيابي والأحزاب السياسية
  2. المحليات
  3. حقوق الإنسان والحريات العامة

* المحور المجتمعي ويتبعه لجان:

  1. قضية التعليم
  2. قضية الصحة
  3. القضية السكانية
  4. قضايا الأسرة والتماسك المجتمعي
  5. الثقافة والهوية الوطنية

* المحور الاقتصادي ويتبعه لجان:

1.التضخم وغلاء الأسعار

  1. الدين العام وعجز الموازنة والإصلاح المالي
  2. أولويات الاستثمارات العامة وسياسة ملكية الدولية
  3. الاستثمار الخاص (المحلي والأجنبي)
  4. الصناعة
  5. الزراعة والأمن الغذائي
  6. العدالة الاجتماعية

وبذلك يكون إجمالي اللجان الفرعية 15 لجنة، تعدد تلك اللجان وتشعب ملفاتها أثار المخاوف من حياد الحوار عن هدفه الرئيسي المتمثل في فتح نوافذ السياسة المغلقة وخلق حالة من الجدل وضخ دماء جديدة في قنوات الأحزاب والقوى السياسية بما يهيئ البيئة العامة لإجراء منافسة حقيقية ونزيهة في أول استحقاق انتخابي بما يعبر عن إرادة الناس دون تدخل أو هندسة.

يخشى البعض أن يكون الهدف من تعدد القضايا واللجان هو «تضييع واستهلاك الوقت وتشتيت الانتباه عن الهدف الرئيسي من الحوار وهو الإصلاح السياسي»، بحسب ما عبر أحد أعضاء مجلس أمناء الحوار.

أخطأ مجلس الأمناء عندما خضع لبعض آراء أعضائه الذين اعتقدوا أن من مهام مجلسهم وصلاحياته مناقشة كل شيء واستعراض وجهات نظر المشاركين في معظم الملفات والقضايا.

لو نجح الحوار في حلحلة أزمة الانغلاق السياسي وتوسيع هامش الحرية، فستبدأ بالتبعية حوارات في فضاء الإعلام ومقرات الأحزاب حول كل القضايا دون خوف أو قلق من ملاحقة، وسيكون هناك دائما صوت آخر ورأي آخر قد يدفع صانع القرار إلى المراجعة وقد يلفت نظره إلى خيارات أخرى.

لو نجح الحوار في الدفع باتجاه تعديل قوانين الانتخابات بما يسمح بأن يكون هناك تمثيل نسبي للقوى والتيارات السياسية تحت قبة البرلمان وداخل المجالس المحلية عوضا عن قوانين الانتخابات التي أنتجت بفضل تدخل السلطة وأجهزتها برلمانا لا يعبر إلا عن النظام الحاكم، حينها يمكن لمن يحصل على الأغلبية أن يشكل حكومة تعمل على إنفاذ رغبات الشعب، أو يكون هناك أقلية معارضة تملك فرملة القرارات والتوجهات التي أثقلت كاهل الناس.

لو نجح الحوار في وقف عمليات الرقابة المقننة أو غير المقننة على الصحافة، وإنهاء حملات ملاحقة الصحفيين وأصحاب الرأي، وتعزيز حرية الصحافة بتعديل القوانين القائمة الجائرة المقيدة وإصدار قانون يتيح حرية تداول المعلومات، حينها يمكن لوسائل الإعلام أن تمارس دورها في مراقبة مؤسسات الدولة نيابة عن المواطن دون خوف من حبس أو حجب أو تشهير واغتيال معنوي، حينها ستمارس السلطة مهامها تحت سيف الرقابة الشعبية فيتراجع منسوب الفساد والمحسوبية.

لو نجح الحوار في إنهاء ملف المسجونين على ذمة قضايا رأي، وإخلاء سبيل كل من لم يتورط في عنف أو يحرض عليه، فسيتنفس المجتمع هواء الحرية وتنطلق الأصوات المكتومة والأفكار والبرامج المحجوبة دون قلق من هاجس الحبس.

تخصيص لجان للقضية السكانية والتعليم والصحة والزراعة وقضايا الأسرة والثقافة والهوية الوطنية.. ألخ قد يحول جلسات الحوار إلى «مكلمات» لا طائل منها، مناقشة وإيجاد حلول لتلك القضايا هي مهمة مؤسسات أخرى، قد يساعد «الحوار الوطني» على فتح الباب أمام طرحها للنقاش العام في وسائل الإعلام وداخل أروقة الأحزاب دون قيود أو حصار، لكن ليس من مهامه ولا في إطار اختصاصه كما فهمت وفهم غيري من صياغة الدعوة التي أطلقها رئيس الجمهورية تناول تلك الملفات أيا كانت أسبابه أو آراء أعضاء مجلس أمنائه.