بشكل مفاجئ ودون سابق إنذار انفجرت الأوضاع في قطاع غزة في تصعيد بدأه بشكل منفرد منذ اللحظة الأولى جيش الاحتلال الإسرائيلي. لتسعى بعد ذلك الحكومة الإسرائيلية لإنهاء التصعيد سريعا عبر التواصل مع الوسطاء. وهو ما يشير إلى أهداف وطبيعة الجولة الأحدث بين المقاومة الفلسطينية وجيش الاحتلال.
وبدا واضحا منذ اللحظة الأولى أن هناك رغبة إسرائيلية قوية للتصعيد ودفع حركة “الجهاد الإسلامي” تحديدا نحو معركة محسوبة الأبعاد. خاصة أن تلك الجولة لم تشهد أي أسباب يمكن لتل أبيب أن تسوق بها العدوان أمام المجتمع الدولي. بل على العكس راحت تمارس أفعالا استفزازية. بدءا من اعتقال القيادي بحركة “الجهاد” في الضفة الغربية -بسام السعدي- في مشهد استعراضي مصور مورست فيه انتهاكات.
وحينما فشلت تلك الخطوة أمام الوساطات من جانب مصر وقطر وأطراف دولية أخرى للحفاظ على التهدئة كثفت تل أبيب جرعة الاستفزاز. وذلك عندما أقدمت على اغتيال قائد الجبهة الشمالية في “سرايا القدس” -الجناح العسكري للجهاد تيسير الجعبري.
وبينما كانت جهود الوسطاء تقترب من إنهاء التصعيد في يومه الثاني أقدمت إسرائيل على اغتيال قائد الجبهة الجنوبية بسرايا القدس -خالد منصور. لينفجر المشهد كما كانت تخطط تماما بعض الأطراف الإسرائيلية.
ورغم تبرير رئيس الوزراء الإسرائيلي المؤقت يئير لابيد ووزير دفاعه بيني جانتس للعملية العسكرية بأنها محاولة لمنع حركة “الجهاد الإسلامي” من تنفيذ عمليات ضد جنود ومواطنين إسرائيليين فإن هناك أسبابا حقيقية أخرى لذلك العدوان.
أصوات انتخابية برائحة الدم الفلسطيني
لا يمكن قراءة الأسباب الحقيقة للعدوان الإسرائيلي الأخير -الذي خلف 44 شهيدا فلسطينيا بينهم نحو 7 أطفال- دون حديث عن أزمة الحكم الداخلية في تل أبيب. في الوقت الذي تتجه فيه دولة الاحتلال نحو انتخابات للكنيست في نوفمبر المقبل. وهي الانتخابات الخامسة في أقل من 4 سنوات.
وجاء تحرك المقاتلات الحربية الإسرائيلية نحو غزة من منطلق رغبة الساسة في إسرائيل -على رأسهم رئيس الوزراء لابيد ووزير الدفاع جانتس- لتحقيق أهداف انتخابية وكسب أصوات اليمين المتشدد في إسرائيل. ظنا منهم أن عملية اغتيال قيادات حركة “الجهاد” سترفع أسهمهم الانتخابية. محاولين استلهام تجربة نتنياهو خلال العملية العسكرية “حارس الأسوار” في مايو/أيار 2021.
الموجة الأخيرة من التصعيد العسكري جاءت في وقت تظهر فيه استطلاعات الرأي العام -التي نشرت في إسرائيل- تقدما طفيفا لمعسكر زعيم المعارضة ورئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو على المعسكر المشترك لكل من لابيد وغانتس في الانتخابات المرتقبة. وهو ما قد يكون دفع الرجلين للبحث عن مكاسب انتخابية عبر وجودهما على رأس القيادة السياسية والعسكرية في دولة الاحتلال.
فمنذ اللحظة الأولى لبدء العدوان كان جانتس ولابيد حريصين على أن يظهرا في مشهد المتصدر لقيادة العملية. وكثيرا ما نشرا بيانات مشتركة عن العمليات التي استهدفت قادة المجلس العسكري لـ”سرايا القدس”.
ينحدر لابيد من خلفية مدنية. حيث كان صحفيا ولم يكن يوما قائدا عسكريا أو شخصا ذا خبرة عسكرية. لكنه يدرك جيدا مزاج الناخب الإسرائيلي وهواجسه الأمنية. فبدا وكأنه يرغب في الظهور كأكثر عدوانية وشراسة من إدارات نتنياهو السابقة في الرد على “استفزازات” أصغر من غزة. حتى يكون قادرا على الادعاء بأن السياسة التي قادها مع جانتس كانت أكثر فاعلية من سياسة نتنياهو.
كما أن جانتس يمكنه هذه المرة أن يسوق لتحييد حركة “حماس” وعدم انخراطها في المواجهة إلى جانب “الجهاد”. وكذلك عدم تنفيذ أي عمليات ضد إسرائيل في القدس والضفة الغربية أو البلدات والأحياء العربية داخل إسرائيل. وانتهاء الجولة في أيام قليلة كإنجاز فشل فيه قادة سياسيون تمرسوا في العمليات العسكرية بحكم مواقعهم السابقة في الجيش.
وهنا سيقف الجميع يترقب نتائج أول استطلاع للرأي يتم في أعقاب انتهاء العدوان لمعرفة مدى تأثر توجهات الناخبين بنتائج تلك العملية.
إسرائيل تصارع إيران بالدم الفلسطيني
لقد دفع قطاع غزة ثمن أزمة الحكم الداخلية في إسرائيل ويدفع أيضا ثمن العداء بين إسرائيل وإيران. فقد تحول القطاع إلى ساحة حرب بالوكالة بين الجانبين.
ورقة غزة بالنسبة للساسة الإسرائيليين المتنافسين على تشكيل الحكومة القادمة مزدوجة. فمن جهة كسب أصوات انتخابية. ومن جهة أخرى خدمة الأهداف العليا في الصراع مع إيران. التي يأتي على رأسها عرقلة الاتفاق النووي لأطول فترة ممكنة للحصول على ضمانات كافية. خاصة في ظل الاتجاه لعودة مفاوضات فيينا. وتأكيد إسرائيل احتفاظ تل أبيب بحقها في تنفيذ عمل عسكري ضد طهران إذا استلزم الأمر.
تلك العلاقات المتشابكة ربما جعلت من بين أسباب تحديد توقيت العدوان من جانب المستوى السياسي في إسرائيل وجود زياد النخالة -أمين عام حركة الجهاد- التي تصفها تل أبيب بأنها “ذراع طهران” في إيران. حيث التقى هناك كبار المسئولين الإيرانيين بمن فيهم الرئيس إبراهيم رئيسي. ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان. ومستشار المرشد الأعلى علي أكبر ولايتي. وقائد الحرس الثوري اللواء حسين سلامي. وقائد فيلق القدس إسماعيل قاآني.
ثمن العدوان
لم تفوت إيران الفرصة وعمدت إلى توجيه رسائل لتل أبيب على لسان قائد الحرس الثوري. وذلك بتأكيده أن إسرائيل ستدفع “ثمنا باهظا” لعدوانها. متعهدًا دعم بلاده لجماعات المقاومة الفلسطينية ومؤكدا “تراجع قوة” إسرائيل وأن عدوانها ذلك علامة على “انهيارها”.
وأشار إلى أن “تل أبيب تتجه تدريجيا نحو بعض الدول العربية بسبب الإحباط الناجم عن عدم قدرة الولايات المتحدة على دعمها”. خاصة بعدما لوّح “سلامي” ومن قبله قاآني بأن صواريخ “حزب الله” اللبناني ستفتح أبواب جهنم في تصديها للعدوان الإسرائيلي. في إشارة واضحة للطوق الذي تضربه إيران حول إسرائيل.
في المقابل سعت تل أبيب لنقل رسالة لطهران باغتيال كبار قادة المجلس العسكري لحركة “الجهاد” بأنها قادرة على قطع الأذرع الإيرانية إذا تطلب الأمر .
حماس والجهاد ورهان إسرائيل على خلخلة الارتباط
انتهى العدوان الإسرائيلي بالهدنة التي دخلت حيز التنفيذ مساء الأحد الماضي. وذلك بعد أن استمر ثلاثة أيام عملت إسرائيل خلالها على هدف أساسي بجانب بنك أهدافها العسكرية. وهو شق الصف وخلخلة الارتباط بين حركتي الجهاد وحماس التي تسيطر على إدارة قطاع غزة منذ عام 2007. في محاولة لتفكيك التنسيق العسكري بين الحركتين وسط تزايد اعتمادهما على إيران.
وعمد القادة السياسيون والعسكريون في تل أبيب لتأكيد أن العملية العسكرية ليست موجهة ضد حماس. مع التشديد على عدم استهداف أي أهداف خاصة بـ”كتائب القسام” -الذراع العسكرية للحركة- والبنية التحتية الخاصة بقواتها. وذلك بالأساس في الوقت الذي تميل فيه حماس إلى التهدئة بشكل عام. نظرا للأزمات المعيشية التي يعانيها سكان القطاع تحت وطأة الحصار. والتي تزايدت بتداعيات الأزمات الدولية المتلاحقة مؤخرا.
تدرك حماس أن عدم انخراطها في المعركة العسكرية إلى جانب “الجهاد” وعدم توجيه صواريخها نحو المدن الإسرائيلية سيكون له ما بعده. وأن عليها تقديم مبررات مقنعة لقادة “الجهاد” بشأن ذلك الموقف.
موقف حماس من العدوان
ولكن بقراءة متأنية في موقف “حماس” يمكن الذهاب إلى أن هناك أسبابا غير الظاهرة تحرك موقفها الأخير. ربما يكون أهمها حرصها على عدم خسارة الموقف المصري أو توتير العلاقات مع القاهرة. التي تقود جهود الوساطة في ظل مطلب مصري من قيادة “حماس” بحسب مصدر تحدث لـ”مصر 360 ” بعدم الانخراط في المعركة لمنع اتساعها وإطالة أمدها. في وقت لا يرغب فيه أحد في مزيد من الأزمات بالمنطقة المشتعلة بالأساس.
الأمر نفسه ينطبق على العلاقات بين حماس وقطر. التي باتت تنسق مع مصر المواقف المتعلقة بشأن ملف قطاع غزة. وهو الأمر الذي أكده المصدر نفسه بقوله إنه كان هناك شبه تطابق في الرؤى بين القاهرة والدوحة بشأن العدوان الأخير. وهو ما يعني أن تبني حماس موقفا مغايرا سيضعها في مواجهة البلدين. حيث تعتمد على الدوحة في التمويل وعلى القاهرة في التنسيق بشأن الأوضاع المعيشية في القطاع. حيث معبر رفح وما يتعلق به من قرارات.
أما ثالث الأسباب الذي ربما يكون جاء نتاج تلاقي الأهداف وليس نتاج تنسيق. فهو إدراك حماس أن خوضها المعركة واتساع رقعتها وإطالة أمدها ربما يكون في صالح بنيامين نتنياهو. الذي ينتظر أي كبوة لمنافسه على رئاسة الحكومة القادمة حتى يعود مجددا لصدارة المشهد. وربما يكون ذلك هو نفسه السبب الذي دفع الكثير من الأطراف لإنهاء تلك الجولة سريعا دون خسائر سياسية للحكومة الإسرائيلية المؤقتة.