في ليل السابع من أغسطس/آب الجاري، دخل اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة “الجهاد الإسلامي” حيز التنفيذ بوساطة مصرية بعد ثلاثة أيام دموية أسفرت عن سقوط عشرات الفلسطينيين بينهم أطفال في قطاع غزة.

لعبت الوساطة المصرية دورا في تسريع التوصل إلى هدنة وذلك في ظل علاقاتها القوية بكل من حركة “الجهاد” ودولة الاحتلال. وقد سبق ولعبت القاهرة أدوارا مماثلة. إذ توصلت لهدنة بين الطرفين في أعوام 2014 و2019 و2021.

وفي هذا السياق، قال طارق سلمي المتحدث باسم الجهاد الإسلامي معلقا على القرار “نثمن الجهود المصرية التي بذلت لوقف العدوان الإسرائيلي على شعبنا”. وتنص صيغة اتفاق التهدئة ما يتضمن التزام مصر بالعمل على الإفراج عن الأسيرين باسم السعدي وخليل عواودة.

الرئيس عبد الفتاح السيسي قال إن مصر “قامت بجهود ومساع حثيثة ومركزة لاحتواء الموقف الميداني وللحيلولة دون امتداد نطاق المواجهة وزيادة الأعمال العسكرية، ومن ثم هناك أهمية بالغة للبناء على التهدئة الحالية وقطع الطريق على أي محاولة لتوتر الأوضاع سواء بالضفة الغربية أو بقطاع غزة، واتخاذ خطوات فورية لتحسين الوضع المعيشي في القطاع للتخفيف من الظروف المتدهورة به والإسراع في تحسين العلاقات الاقتصادية مع السلطة الفلسطينية، ودعم الرئيس الفلسطيني محمود عباس”، بحسب بيان الرئاسة المصرية.

يسلط التوصل السريع لهدنة الضوء على طبيعة العلاقات الأمنية المصرية مع حركة “الجهاد الإسلامي” الممتدة منذ أكثر من عقدين في ضوء أدوار الوساطة المصرية مع الفصائل الفلسطينية، والممتدة لأكثر من ذلك في ضوء نشأة حركة “الجهاد” بين أروقة الجامعات المصرية أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات.

اقرأ أيضا – حركة “الجهاد الإسلامي”: بين الانطلاقة والعلاقة مع إيران وحماس

البداية من جامعة الزقازيق

تأسست حركة “الجهاد الإسلامي” على يد مجموعة من الطلاب الفلسطينين أثناء تواجدهم في مصر للدراسة الجامعية. وهم: فتحي الشقاقي، رمضان شلح، عبد الله الشامي وعبد العزيز عودة.

تكونت طليعة حركة “الجهاد” بهدف “إعادة الإسلام ليأخذ دوره كقوة مفجرة لطاقات الأمـة نحو تحرير فلسطين، وإعادتها إلى قلب اهتمامات الحركة الإسلامية”، بحسب أطروحة “الفكر السياسي لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين” الصادرة عن جامعة النجاح الوطنية.

حيث نمت وتجلت البذور في منتصف السبعينيات كرفض للأفكار والقيم السائدة في ذلك الوقت، والتفّت حول فتحي الشقاقي الطالب الفلسطيني الذي جاء ليدرس الطب في جامعة الزقازيق بمصر. ووفق الأطروحة، امتلك الشقاقي المؤهلات والصفات القيادية. بينما لم يكن لدى الأعضاء المؤسسين في معظمهم انتماءات حزبية سابقة، إلا أنه كان بينهم عدد من كوادر الإخوان المسلمين مما دفع إلى الاعتقاد بأن الحركة انبثقت كخروج عن حركة الإخوان.

شكلت المجموعة المؤسسة أول تنظيم عرف بتنظيم “الطلائع الإسلامية” وضم بالإضافة إلى الطلبة الفلسطينيين 13 طالبا مصريا ومُدرسا. وأصدر التنظيم نشرات وكراسات تشرح طبيعة الخلاف مع الإخوان المسلمين.

وبعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، أصدر الشقاقي كتابه الأول “الخميني الحل الإسلامي والبديل” إعجابا منه بتجربتها وتأييدا لها. وتعتبر هـذه سابقة للشقاقي -بحسب الأطروحة- في خروجه عن التقليد السائد بإعجابه بالثورة الإيرانية، رغم أنها ثورة شيعية تختلف مع مذهب الشقاقي السني.

فتحي الشقاقي
فتحي الشقاقي

فتحي الشقاقي مؤسس حركة “الجهاد الإسلامي”

وقد اعتقل إثر ذلك من قبل أجهزة الأمن المصرية عدة أيام. وتعـرض التنظيم أيضا إلى حملة اعتقالات حيث وصل عدد المعتقلين لأكثر من تسعة وثلاثين طالبا فلسطينيا عدا الطلاب المصريين. وبسبب علاقات التنظيم مع الجماعات الإسلامية في مصر وقياداتها، تمت ملاحقة الشقاقي من قبل أجهزة الأمن المصرية، فغادر مصر إلـى فلسطين عام 1981، حيث تم بناء القاعدة التنظيمية للحركة.

“كانت المرحلة المصرية من عمر الجهاد الإسلامي قد حددت الملامح الأيديولوجية والسياسية للتنظيم الوليد.. وتبقى مرحلة تمهيدية أعقبها التأسيس الحقيقي للحركة داخل فلسطين”، يقول الباحث الفلسطيني عدنان أبو عامر.

التأثر بالنموذج المصري

يوضح ساري عرابي، الباحث في فكر الحركات الإسلامية “تاريخيا حركة الجهاد الإسلامي لها موقف نقدي من النظام المصري. وقد كان المؤسس فتحي الشقاقي متأثرا بالخطاب الجهادي ضد الأنظمة العربية ومن تصدروا الخطاب الجهادي هذا هما الجماعة الإسلامية وجماعة الجهاد في مصر”.

يشير عرابي في حديثه مع “مصر 360” إلى أن الشقاقي كان مختلفا مع الحركتين في “المضمون السلفي” وإن اتفق معهما في “المضمون الثوري” والموقف الرافض للنظام المصري؛ لذا في أدبياتهم الأولى كان هناك احتفاء مثلا بخالد الإسلامبولي، قاتل الرئيس أنور السادات.

تقول الأطروحة الصادرة عن جامعة النجاح إنه رغم كون حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين تنظيما آخر مختلفًا ومنفصلاً عن تنظـيم الجهاد الإسلامي في مصر، إلا أنه لا يمكن الفصل الحدي بين الحركتين.

حيث إن “هناك تأثيرا واضحا للنموذج المصري على حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، فقد كان لإلحاق قطاع غزة بمصر بعد الاحتلال عام 48 أثر كبير على العلاقة المتميزة بين قطاع غزة ومصر مما جعل الحياة العامة في القطاع تتأثر بشكل كبير بالحياة العامة في مصر، هذا بالإضافة إلى تأثر المجموعة المؤسسة للحركة بالنموذج المصري وبأفكار قادة ومفكرين مصـريين أمثـال حسن البنا وسيد قطب بسبب دراستهم في الجامعات المصرية”.

ويلفت عرابي “هذه الثقافة ضد النظام المصري ظلت مؤثرة لفترة طويلة قبل أن تتراجع لصالح البراجماتية السياسية وتحديدا منذ انتفاضة الأقصى ودخول المصريين على خط الوساطة بين الفصائل الفلسطينية والاحتلال من أجل بحث التهدئة، ومنذ ذلك الوقت نشأت علاقات الجهاد مع مصر بمعزل عن السلطة الفلسطينية في غزة آنذاك. ومن ثم تعززت العلاقة أكثر مع إدارة حماس لقطاع غزة في وجود بنية للمقاومة”.

والمتابع لمسيرة الحركة يلاحظ أنه كلما زادت تجربة الحركة عمقا وتخمرا يزداد ميلهـا لتغليب الجوانب السياسية على الجوانب الأيديولوجية وزيادة الاهتمام باللغة الدبلوماسـية ولغـة الحوار في نسج علاقاتها مع الآخر بشكل عام والأنظمة العربية بشكل خاص، وفق ما تذكره الأطروحة التي أعدها ناظم عبد المطلب.

هذا ما يفسر علاقات أوسع مع أطراف مختلفة في المنطقة مثلما حصل في علاقة الحركة مع النظام المصري على سبيل المثال، وما جري على أرض مصر من حوار للفصائل الفلسـطينية ومـن ضـمنها حركة الجهاد الإسلامي. بالإضافة إلى اللغة الدبلوماسية التي بدأت تستعملها في الحديث عن النظام العربي بشكل عام والانطلاق من الموقف من القضية الفلسطينية كقاعدة لنسج العلاقات لا من المواقف الأيديولوجية.

التوسط بين مصر و”حماس”

لعبت حركة “الجهاد” دورًا بارزًا في الصلح بين القاهرة و حركة “حماس” بعدما توترت العلاقة بين الطرفين على خلفية عزل الرئيس محمد مرسي، حيث اتهمت القاهرة الحركة، بتسهيل حركة الجماعات الإرهابية لشن عمليات ضد قوات الأمن، وصلت إلى خروج حكم قضائي يصنف “حماس” بالإرهابية، والذي تم إلغاءه لاحقا.

وقالت حركة الجهاد الإسلامي في عام 2015، إنّها قدمت مبادرة للقيادة المصرية، لحل “أزمات قطاع غزة”، وسبل تعزيز العلاقات المصرية الفلسطينية، وذكرت الحركة في بيان لها آنذاك، إن وفدها الذي وصل العاصمة المصرية، القاهرة، برئاسة الأمين العام للحركة حينها، رمضان شلّح، قدّم للقيادة المصرية خلال مباحثات أجراها الوفد، مقترحا لحل أزمات قطاع غزة، “وتعزيز العلاقات المصرية الفلسطينية”.

يقول هاني البسوس، أستاذ مساعد في مادة العلوم السياسية في الجامعة الإسلامية في غزة، وعضو في العديد من المؤسسات الأكاديمية والبحثية الفلسطينية والأوروبية، إن سقوط الإخوان المسلمين في مصر في العام 2013 كان له تأثيرا سلبيا جدا على حماس. لكن الجهاد الإسلامي حافظ على علاقاته مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ومجموعات سياسية أخرى في مصر، وعمل على تعزيز تلك الروابط.

ويوضح في تحليله المنشور على مركز “كارنيجي الشرق الأوسط” أنه على الرغم من أن قادة الجهاد الإسلامي يختلفون في الرأي عقائديا مع النظام المصري الحالي، إلا أنهم “اختطوا لأنفسهم مسارا ثالثا وحافظوا على علاقات جيدة مع المسؤولين الأمنيين المصريين”. فعلى سبيل المثال، حافظ الجهاد الإسلامي على قنوات تواصل مع رئيس جهاز المخابرات العامة، كما قام قياديوه بالعديد من الزيارات الخاطفة إلى مصر، لاسيما منذ تسلّم السيسي السلطة.

فالحركة التي تأسّست بهدف مقاومة إسرائيل عن طريق الوسائل المسلّحة والتي صنّفتها الولايات المتحدة في خانة المنظمات الإرهابية، أضافت الدبلوماسية والخدمات الاجتماعية إلى عدّة عملها. وقد بدأت هذه المقاربة تحقّق بعض النتائج، “فالأفرقاء الدوليون الذين تجاهلوا الجهاد الإسلامي الفلسطيني في السابق أو عاملوه معاملة المنبوذين، يعمدون الآن إلى إدراجه في حساباتهم الدبلوماسية”.

ظهرت المؤشرات الأولى عن المقاربة الجديدة للجهاد الإسلامي الفلسطيني بعدما قرّر التنظيم المشاركة في عملية المصالحة الفلسطينية في العام 2005. ثم وافق في العام 2011 على المشاركة في اللجنة التسييرية المؤقتة لمنظمة التحرير الفلسطينية.

زياد نخالة الأمين العام الحالي لحركة "الجهاد"
زياد نخالة الأمين العام الحالي لحركة “الجهاد”

“الجهاد” كمحاور مع القاهرة لإنهاء الانقسام

تسبّب الانقسام السياسي الفلسطيني، لاسيما بين حركتَي “فتح” و”حماس”، طيلة السنوات الماضية، بإحداث فراغ سياسي. فبعد المحاولات الفاشلة الكثيرة التي بذلتها الدول العربية للتوسّط في النزاعات، ظهر الجهاد الإسلامي الفلسطيني في موقع المحاوِر الفلسطيني غير المتوقَّع.

منذ ذلك الوقت، أجرى قادة الجهاد الإسلامي مباحثات مع حركتَي فتح وحماس، وقد نظّموا ندوات وحلقات عمل لتسليط الضوء على عواقب الشقاق الفلسطيني. في مطلع العام 2015، أحضر أمين عام الجهاد الإسلامي الفلسطيني، رمضان شلّح، ونائبه زياد النخالة، وفودا فلسطينية متنوّعة إلى مصر من أجل استئناف الحوار وتسهيل التعاون.

“على الرغم من أن هذه المحاولة باءت بالفشل، إلا أنها كانت مبادرة مدروسة بعناية بالتنسيق مع المسؤولين السياسيين المصريين، وقد ساهمت في ترسيخ مكانة الجهاد الإسلامي كمحاوِر فلسطيني قادر على العمل مع جميع الأفرقاء العرب المعنيين”، بحسب ما يشير البسوس.

كما شارك الجهاد في المفاوضات خلال الحرب الإسرائيلية على غزة في العام 2014، حيث كانت مشاركة التنظيم ضرورية للتوصّل إلى وقف إطلاق النار الذي أدّى إلى إنهاء النزاع. ويقول الباحث الفلسطيني “لقد ساهم ذلك على مايبدو في تحسين علاقات التنظيم مع مصر”.

وبجانب القادة السياسيين فقد حضر إلى القاهرة في عدة مناسبات قادة عسكريون من الوزن الثقيل أمثال بهاء أبو العطا (اغتالته إسرائيل في 2019 وأدى ذلك لنشوب مواجهات) وخالد منصور (قائد المنطقة الجنوبية الذي اغتيل في الهجمات الأخيرة) وأحمد المدلل (الذي اغتيل نجله القيادي العسكري زياد في الهجمات الأخيرة). وقد حرصت القاهرة دائما على تعزيز علاقاتها مع قادة “سرايا القدس” الجناح العسكري للتنظيم.

توترات لا تخرج عن إطارها

رغم ذلك مرت العلاقة بتقلبات أحيانا، وتحديدا في عام 2019 حينما اتهمت القاهرة بعض أفراد “الجهاد” بالتخطيط لتظاهرات سبتمبر/أيلول، وهو ما نفته الحركة.

وقد كان فيما يبدو ضمن ضغوطات القاهرة على الحركة للحفاظ على الهدنة مع الجانب الإسرائيلي آنذاك، قبل أن تفرج عن عشرات من أبناء التنظيم وذلك بعدما وجهت دعوة رسمية للأمين العام زياد نخالة وباقي أفراد المكون العسكري.

ولفت المحلّل السياسي المقرب من حركة “الجهاد الإسلامي”، حسن عبدو، إلى أن مصر معنيّة بعلاقة قويّة ومتينة مع “الجهاد”، كونها حركة وازنة لا يمكن تجاوزها سواء أكان في ملف التهدئة بين غزة وإسرائيل أم المصالحة الفلسطينيّة والحصار الإسرائيلي، ووجود أي شرخ في العلاقة معها سيؤثّر سلبًا على الدور المصريّ الذي ينظر إلى القضية الفلسطينيّة على أنّها مجال حيوي له.

بينما تذكر المحللة السياسية المقيمة في غزة، رهام عودة، لـ”مصر 360” أن الجهاد تعي جيدا أنه لا يمكن الاستغناء عن الدور المصري ، فمصر معروفة بدورها في القضية الفلسطينية منذ أمد  طويل وموقف القيادة المصرية وخاصة جهاز المخابرات معروف  بنجاحه الكبير في عمليات المفاوضات السابقة المتعلقة سواء بصفقة تبادل الأسرى (صفقة شاليط) أو بمفاوضات التهدئة السابقة بين حماس وإسرائيل خلال التصعيدات العسكرية السابقة .

“لذا لا يوجد للجهاد الإسلامي وسيط عربي نزيه آخر وله قدرة كبيرة على الاقناع والتأثير على الطرف الإسرائيلي سوى مصر إلي جانب طبعا الدور الذي تلعبه دولة قطر من حين لآخر”، وفق عودة.