في الفيلم الوثائقي “من القاهرة” للمخرجة هالة جلال والمعروض حاليا على منصة “نيتفليكس”، لا يستحضر سوى الصدق، وهو أمر مهم في رأيي عند الحكي من المنظور النسوي عما تعانيه المرأة في مصر وصراعاتها مع كل ما يحيطها ومع نفسها أيضا. وتأتي أهمية الصدق هنا من خطر تقليد العلامات الشائع في الثقافة المصرية، دون أن يؤمن صاحب الحكاية للنهاية بما يقول، فما إذا كان ذكرا بنصف إيمان ونصف فهم، فيتحول الأمر عنده إلى ما يشبه السيكوباتي الذي أدرك ثغرات ضحيته، ومهد عبر ادعائه الفهم لصب مزيد من الجراح، أو امرأة تتربح من ادعائها أنها تخوض الصراع نفسه والمعاناة نفسها، لكنها في الأساس تعمل على تحويل آلام النساء وحكاياتهن إلى تجارة وسلعة تضمن جماهيرها ومستهلكيها مسبقا، دون أن يكون هناك ما يقلقها في الأساس، ودون أن يكون في بحثها عن حكايات أخريات تحاول فهم حكاياتها، ولا تعكس حياتها هذا القلق أو ذلك الإيمان.

اقرأ أيضًا.. مع وضد شريف عرفة

ربما لهذا مرت الساعة مدة فيلم “من القاهرة” لهالة جلال، واتسع القلب والعقل، وأدرك المرء وأحس بالصراع من موقعه الذكوري الذي يعاني لكنه أيضا جزء أصيل من الأزمة، وقد أصابت هالة عندما غيبت الذكور من الفيلم، لا يظهرون إلا كمجاميع في الشارع في ظهور هامشي وصامت، لأن ما يجب أن نفعله هو أن نصمت ونسمع.

يبدأ الفيلم بصوت هالة نفسه، لتخبرنا أنها تحاول فهم حكايتها عبر سرد حكايتين لفتاتين من القاهرة: هبة وآية، وأن مفتاح الفيلم هو الخوف، الخوف من كل شيء تقريبا، من كل ما آلت إليه القاهرة كمحيط للرعب، “من السرعة، الزحام، الأماكن المغلقة والمرتفعة، أسوار البلكونات، الطيران، العربيات، من النوم، من صوت الشارع أثناء السواقة، السواقة، الكلام مع الناس أو الكلام أدام الناس، لكنها تمارس كل ما سبق” ليس رغما عن الخوف لكن أثناءه، لذا يقارن الفيلم بين الحوارات الآمنة بين طرفين في أفلام الأبيض والأسود المغمورة بالحب وغياب ذلك الحب والأمان من شوارع القاهرة، وهي اللعبة التي تستمر على مدار الفيلم على شكل استحضار موسيقى لأغنية رومانسية قديمة.

هذا الخوف هو ما يجعل هالة لا تقص حكايتها بشكل مباشر، بل تبحث عن نموذجين أكثر شجاعة مارسا حياتهما رغما عن الخوف الذي يتم تفسيره وتركيزه من خلال الصراع مع الجسد.

من خلال تقاطع السرد بين هبة وآية ندرك أننا لسنا أمام اختيارين عشوائيا أبدا، فهبة تظل هي الصوت المهيمن داخل الفيلم، بحيويتها وانطلاقها وحركة جسدها التي تملأ الكاميرا، في مقابل حركة آية المنكمشة وصوتها الخفيض؛ لأن هبة هي مستقبل آية كما سنفهم في نهاية الفيلم. أما آية فهي ماضي هبة نفسها قبل أن تقرر أن تتحرر من الصراع عبر معاركته وفهمه لا عبر حسم هذا الصراع.

المشترك بينهما واسع، الاثنان يعالجان بالفن عبر ممارسته، وموضوع فنهما هو أجساد النساء، هبة عبر تصويره بهيئته كما هو وبالتعبير عنه وبأزماته من خلال التصوير الفوتوغرافي لنساء أخريات، وآية من خلال مشروع فيلم عن سيدة تعرض جسدها للحرق على يد زوج، أي عن الجسد في تمام عطبه بسبب العنف.

ترى هبة الفن بوصفه تجسيداً للشياطين والأشباح، مجرد رؤيتها ماثلة أمامنا سيكون مفتاحا لمواجهتها، مواجهة لا تعني الانتصار، لكن تطويق الخطر وفهمه، لكنه في النهاية اختيار مبهج ويناسب امرأة عبرت نصف الطريق. أما اختيار آية للجسد المعطوب المحترق للتعبير عنه، هو التعبير المتطرف والقلق عن تلك الأزمة التي تبدو للوهلة الأولى كأنها بلا حل.

تلتقط هالة خطوات آية البطيئة للفهم، عبر اختيار رياضة غير شهيرة لكنها معبرة، تشبه لعبة الرجبي، لكن بدون كرة، كل هدفها هو المرور بجسمك من العوائق البشرية، كأنها مجاز وتدريب على حياة ذلك الجسد الحقيقية في الشارع، الذي وفق تعبير هالة: ليس ملكا للمرأة، بل ملكا للمجتمع كله، آية المحجبة، تخجل في البداية عندما تقع، أو تفكر فيمن ينظر إلى جسدها أثناء اللعب، لكنها مع الوقت لا تهتم إلا بما يبدو مريحا وعمليا لهذا الجسد.

أزمات المرأة في مصر لم تحسم ولم تحل، ولا عبر ذلك الفيلم أو الفن أو الرياضة، سيظل شيئا من ذلك الصراع حاضرا في جسد المرأة، وعقلها، لأن ذلك الجسد عرف العطب بالفعل وذاقه، لذا فلا رجعة بل نصف حل، نصف جسد، نصف حرية أما النصف الآخر فما زال يعاني أشباحه، ربما الأمل كله في ورد، ابنة هبة التي تربيها بمفردها، وهي تزرع فيها منذ البداية أن الأشباح وهم تافه زرع في الرأس. أشباح لم تتحرر منها.