قبل أسبوع قتل أيمن الظواهري، زعيم تنظيم القاعدة، في غارة لطائرة بدون طيار، داخل أشد أحياء العاصمة الأفغانية كابول شهرة وارتباطًا بالسياسة والمال ـ الحي الدبلوماسي. وكما هو معروف، فالظواهري كان خليفة أسامة بن لادن الزعيم الروحي والتاريخي للقاعدة. لذا، فإن قطع رأسيهما بعيدًا عن كونه انتصارًا رمزيًا لواشنطن، هو دحر للتنظيم العابر للحدود، يقضي على خطط تمدده الخارجي وعولمة أهدافه، ويضعه في شرنقة المراقبة والملاحقة نفسها، التي تعاني منها كل التنظيمات الدينية بلا استثناء من أقصى اليمين لأقصى اليسار، حتى أصبحت جميعها غير قادرة على الحركة والتمدد مرة أخرى.
عولمة الإسلام السياسي
بحكم الأيديولوجيا والمشروع الأممي وأمنيات إعادة ـ دولة الخلافة ـ جاهدت التنظيمات الدينية لمد جذورها خارج أوطانها، بالعمل في الخفاء والعلن ـ حسب الظروف ـ وخاصة في الغرب. إذ حاولت على مدار عقود وضع بذور أسلمة المجتمعات الغربية، عبر تدشين الجمعيات الإسلامية المختلفة، التي تسعى لتديين مظاهر الحياة. خاصة في الأحياء الفقيرة والنائية، وبتجنيد المراهقين وأصحاب الميول الانعزالية وإشباعهم بمرجعية التنظيم.
وقد وجد الإسلاميون دعمًا قويًا من الاتحاد السوفيتي، الذي اعتبرهم بمختلف تنظيماتهم ـ لاسيما الجهادية منها ـ أحد أدوات الضغط القوية التي يمكن استخدامها في مواجهة الإمبريالية الغربية. وتضاعف هذا الدعم بشدة خلال سنوات الحرب الباردة. حتى أن لدى الكثير من الباحثين الغربيين قناعة بأن الإسلام السياسي ليس أكثر من ترياق للشيوعية. هذه نظرة للأمور مستمرة عند البعض حتى الوقت الراهن.
سبتمبر 2001 والإسلام السياسي
منذ هجمات 11 سبتمبر/أيلول عام 2001 نمت في العالم الغربي مخاوف كبرى من الإسلام السياسي بمختلف تنظيماته. كما بدأت أعتى البلدان المؤيدة له ترى – عن قرب دوره – المزعزع للاستقرار في العالم، وليس المنطقة التي خرج منها وحدها.
مع ذلك، استمرت بعض أطياف التيارات السياسية اليسارية، ومعها بعض التيارات اليمينية، في التعامل بطريقة ناعمة مع أغلب التيارات الإسلامية وخاصة الإصلاحية منها ـ أو التي قدمت نفسها في هذا الثوب ـ على شاكلة الإخوان. بدا واضحًا أنها ترى لهذه التيارات دورًا وظيفيًا مقبولًا في الدفاع عن المرتكزات الغربية على المستويين السياسي والاقتصادي. بما ينعكس على تشكيل مستقبل المجتمعات الإسلامية، بطريقة تناسب مفاهيم الحداثة ولا تتصادم أو تتنافر معها كليًا.
صعد الإسلام السياسي بمساعدة غربية لا تخطئها الأعين بعد ثورات الربيع العربي. ومع الإخوان صعد السلف بمختلف توجهاته الأيديولجية. إذ أصبح من حق المرجعيات الجهادية الظهور في المشهد السياسي. الأمر الذي ساهم في تلغيمه وإشعال حرب بين أنصار المدنية وأعدائها، ليسقط التيار الديني بكامل صفوفه وبسرعة مذهلة، لم يتوقعها أحد.
الوجه الذي ظهر في العلن
مع تعقد الأزمة المفصلية التي تعرض لها الإسلاميون، بدأت خطايا إشباع جمهور الإسلاميين على مدار عقود بأفكار معادية للمدنية والديمقراطية والحريات تظهر للعلن. فصعد الخطاب الديني الصريح والدعوة للقتال والاستشهاد على المنصات في الميادين، التي اعترضت على نزع الحكم من الإسلاميين ـ كما حدث في مصر.
وفي الوقت نفسه، كانت التنظيمات الدينية تنكشف تمامًا في أوروبا. إذ بات الغربيون على قناعة بأن الفروق بين التنظيمات الدينية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ليست بعيدة. بل متقاربة ضمنيًا في المضمون الأيديولوجي، الذي يوقر الدولة الثيوقراطية “أي الدينية”، ولا يحترم سيادة القانون، ولا يفرق بين العام والخاص، أو الزمني والديني.
ضٌبطت أكثر التيارات إصلاحية تصم الغرب بالانحلال والكفر، تقايضه على صفقات سياسية في الغرف المغلقة بخطاب مرن يدعو إلى الديمقراطية والحريات، وفي العلن يظهر كل تنظيم بخطاب متطرف يدعو أنصاره للعنف، ويلعن الحريات ودعاتها حتى داخل البلدان الغربية نفسها.
شعرت أوروبا أنها احتضنت أفعى تسعى لابتلاعها. إذ أنه رغم الحداثة ومنصات التوعية والمجتمع المفتوح تمدد الفكر المتطرف وأصبح يستقطب شباب الغرب ويجندهم للدفاع عن أفكار إرهابية ويزج بهم في مناطق الصراعات بالشرق، يقول الدكتور مجاهد الصميدعي الباحث في المركز الأوروبي لمكافحة الإرهاب.
تغيرت المنهجية الغربية في التعامل مع الإسلام السياسي بعد أن كانت أكبر داعمة له بعد سقوط الاتحاد السوفيتي. لاسيما أن المنهج الروسي نفسه تغير كلية في التعامل مع الإسلاميين. أصبح يسعى لاستئصال كل التيارات الجهادية بالعنف المفرط.
وحتى التيارات الإصلاحية التي لا تلتزم بعلمانية الدولة ورؤية الحكم باتت عرضة للتنكيل بشدة من روسيا. وهي رؤية اعتبرها اليمين الأوروبي الأكثر صلاحية للتعامل مع الإسلاميين، الذين يشجعون الانعزالية في بلادهم، ويسوقون لأفكار تتعارض كلية مع أفكار الحداثة والمجتمع المفتوح.
دعمت البلدان الأوروبية سياسة تصفية رؤوس العنف في التيارات الدينية الجهادية. كما تنوعت الضربات المختلفة لاستهداف أعتى قيادات التننظيمات الجهادية.
الأدبيات الجديدة تجاه الإسلام السياسي
أصبح في الأدبيات الأمنية الغربية استهداف الرؤوس يعني إجبار التنظيم على التحلل ذاتيًا؛ فذوبان الزعامات بمثابة انحسار فكر وتصعيد آخر، وإحلال وتجديد في القيادة. بما يصاحب ذلك من انشقاقات كفيلة بتدمير التنظيم من الداخل.
كما جرى تجفيف التبرعات المالية لأقل درجة ممكنة. وهذا مرتبط بضرب رأس التنظيم. إذ يجلب شخص القائد أموالًا ضخمة عابرة للحدود للتنظيم. لهذا كان مقتل شخصية مثل أسامة بن لادن ضربة قاضية للقاعدة، بعد أن امتنع الكثير من ممولي التنظيم عن المساعدة والتحول لدعم داعش الأكثر جرأة ودموية؛ يوضح الصميدعي.
يعد استهداف أكبر قيادة في التنظيم كما حدث من قبل مع أسامة بن لان ولاحقًا أيمن الظواهري وغيرهما نصرًا استراتيجيًا وتكتيكيا. كما أنه رسالة أن الغرب لن يتوانى عن استثمار أي فرصة لاستهداف رؤوس التنظيمات الجهادية العنيفة؛ يقول بديع فرحاني، مستشار مركز بحوث الإرهاب في باريس،
على خلاف الكثير من الباحثين العرب الذين يقللون دائمًا من أثر سياسة استهداف رؤوس تنظيمات ثيوقراطية عتيدة مثل القاعدة بعد أن تحولت إلى تنظيمات لا مركزية تتمدد في كل أنحاء العالم، فرحاني يرى أن غياب بن لادن والظواهري يغيب القاعدة التي نعرفها.
قناعة مستشار مركز بحوث الإرهاب في باريس أن القادة الكبار يمثلون برجوازية التنظيم، وهؤلاء من بإمكانهم التنسيق مع مصادر التمويل والإعلام وكل أركان القوة على الأرض، وبغيابهم تقطع كل هذه الخيوط.
التضييق على استضافة الإسلاميين
خلال السنوات القليلة الماضية تغير الحال كليا في الغرب. أصبحت البلدان الغربية لا تلاحق فقط التنظيمات الإرهابية العتيدة مثل داعش والقاعدة وتشترك في حروب دولية ضدهما. بل أصبحت تضيق تمامًا على استضافة المزيد من أنصار التيارات الدينية على أراضيها بخلاف الماضي.
إذ تبين لهم أن كل العمليات الإرهابية التي تمت في أوروبا كانت بتخطيط من أشخاص حصلوا على دعم وإقامة وأريحية كاملة حسب بديع فرحاني.
أصبح هناك اتجاه عالمي لتقزيم وتجريس عولمة الإسلام السياسي وانتشاره في العالم، ولهذا يجرى في كل مكان التضييق على روافده باختلاف الوانه وأيدلوجياته في جميع أنحاء العالم.
غيرت فرنسا قانون العلمانية المعمول به في البلاد منذ عام 1905 فقط لمحاصرة الإسلاميين وصيانة قيم الحداثة في البلاد. تحاول دفع المسلمين إلى المساهمة في ظهور إسلام متجدد وأكثر انفتاحا عبر لفظ التنظيمات التي أصبحت تمثل عبئا على الإسلام والمسلمين.
التغيير القانوني سمح لأول مرة للسلطات بالتدخل في الشأن الديني بعد أن كان من المحرمات في السابق، إذ استغلته التيارات الدينية في جذب تمويلات خرافية لتديين المجتمع الفرنسي والبلدان الغربية كافة، وتسويق مفاهيم وأفكار ومصالح دول بعينها ترعى الأسلمة والقائمين عليها.
الغرب: التسامح مع أعداء الحرية يدمر الحرية
هدف التعديل الجديد إلى الضغط على المسلمين لنبذ التيارات الدينية والابتعاد عنها مع إخضاع العقيدة والتقاليد الدينية باستمرار للنقاش المنطقي والنقد وانتقاء التراث المتسامح وإعادة الحياة له.
تعتبر فرنسا أن النجاح في مثل هذا التحدي يقضي على جميع أشكال الانعزالية والإقصاء الاجتماعي التي كرست لها التيارات الدينية بأفكارها المعادية للحداثة طوال العقود الماضية.
والأمر ليس متعلقًا بفرنسا وحدها. بل يجرى الأمر نفسه في دول الغرب الأخرى بأشكال مختلفة، في ألمانيا جرى التضييق على الإسلاميين وضغطت المؤسسات الأمنية بشدة على المجلس المركزي للمسلمين لإسقاط عضوية جمعية “التجمع الإسلامي الألماني” التي تصنفها السلطات الأمنية جماعة تابعة للإخوان المسلمين.
كانت ضربة قاسمة للجماعة التي تعاني الأمرين في المنطقة العربية وعولت كثيرًا على بلدان الغرب لإبقاء فكرتها خارج قالب المصادرة بفعل الملاحقة والتدمير في بلدانها الأم.
انتصرت المحكمة الإدارية في ولاية هيسن للرؤية الأمنية وأجهزت على أحلام الإخوان عام 2017 ـ عز صراعها مع النظام المصري والمحور العربي المعادي للإسلاميين ـ واعتبرت القناعات الأساسية للجمعية الإخوانية تتضمن إقامة أنظمة «سيادة إسلامية» لا تتوافق مع مبادئ ديمقراطية مثل حرية الرأي والسيادة والمساواة.
رصاصة الرحمة الألمانية كشفت أن التغيير السريع يقابل بحسم وقوة من الغرب. كما أن التغيير البطئ الذي ينشده الإخوان ولو حتى بأساليب غير عنيفة أصبح مرصودًا بدقة وغير مرحب به على الإطلاق في أكثر بلدان العالم ليبرالية وحداثة وإيمانا بالمجتمع المفتوح.
رسخ الغرب بهذه القرارات في أغلب بلدانه قاعدة يبدو أنه سيعمل بها طويلًا. فالتسامح مع أعداء الحرية أصبح بحكم الواقع والتجربة يعني تدمير للحرية نفسها وسيحدث ذلك على المدى القريب أو البعيد!